مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

ينطوي مفهومها على مفارقات فلسفية مهمة

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي
TT

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

مشروعية الدولة وغايتها بين الفكر السياسي.. الكلاسيكي والحداثي

تعرّف «الدولة» بكونها مجموع المؤسسات القانونية والإدارية والعسكرية التي يتم إنشاؤها، من لدن جماعة من الناس، بموجب عقد مشترك، لغرض تنظيم حياتهم في الميادين والمجالات كافة، كما تحيل إلى مجال ترابي محدد، وتمثل هذه المؤسسات جهازًا يشرف على المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والاجتماعية. ومن ثم، فوجود الدولة رهين بتوفر مجموعة من الشروط الأساسية: الأرض، والسكان، والسلطة السياسية (القوانين، المؤسسات...)، وأن تعمل هذه الدولة على توفير وضمان الحقوق الأساسية لأفرادها (التعليم، الصحة، السكن والشغل...)، وحفظ الأمن والاستقرار. غير أن هذا الوجه الإيجابي للدولة قد لا يتجسد دائما على أرض الواقع، بل يمكن أن يصطدم فيه الأفراد بممارسات مخالفة لما هو مرجو من الدولة، فيكون الإنسان ضحية للعنف المنظم والظلم الاجتماعي والاقتصادي، والاستبداد الممارس من طرف الدولة نفسها. الأمر الذي يجعل مفهوم الدولة ينطوي على مفارقات فلسفية مهمة، إذ تتجاور فيه مفاهيم أخرى متقابلة وقيم متضادة (بين ادعائها لتحقيق الأمن وممارستها للعنف مثلا). من هنا، يمكن أن نطرح مجموعة من الإشكالات الفلسفية ونتساءل: ما الغاية من تأسيس الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وكيف جرى تبرير وجود الدولة من داخل تاريخ الفلسفة السياسية، الكلاسيكية والحديثة؟ وما الهدف من وجودها؟ هل هو تحقيق الأمن والاستقرار أم الهيمنة الطبقية واحتكار العنف؟
بالعودة إلى تاريخ الفلسفة اليونانية، نجد التفكير والاهتمام بالدولة حاضرًا لدى الفلاسفة اليونان. فقد حاول كل من أفلاطون وأرسطو التنظير لدولة مثالية قادرة على تجسيد الخير الأسمى. وفي هذا الصدد، نجد أفلاطون الذي دافع عن أن أساس الدولة الطبيعي يتجسد في وجود لا مساواة طبيعية بين الناس. فكما تنقسم النفس إلى ثلاث: نفس شهوانية، ونفس غضبية، ونفس عاقلة، ينقسم كذلك أفراد النوع الإنساني إلى فئات ثلاث: حرفيون وجنود وحكام. وما دامت وظيفة النفس العاقلة هي توجيه عمل النفس الشهوانية والنفس الغضبية بالشكل الذي يضمن الانسجام والتناغم في حياة الفرد، فإن وظيفة الحكام هي تدبير شؤون الحرفيين والجنود، وتوجيه عملهم نحو تحقيق الانسجام والتناغم في حياة الجماعة التي ينتمون إليها. فالعدالة كما يقول أفلاطون، في كتاب «الجمهورية»: «هي أن يؤدي كل فرد وظيفة واحدة هي تلك التي وهبته الطبيعة خير قدرة على أدائها». إن غاية الدولة عند أفلاطون هي تحقيق الانسجام والتناغم بين مكونات المجتمع. وهو تناغم لا يتحقق إلا بانصراف كل فئة إلى أداء المهمة التي هيأتها الطبيعة للقيام بها من دون التدخل في مهام الفئات الأخرى. فمن هيأته الطبيعة أن يكون حرفيًا، وزودته بما يلزم ذلك من مهارات وقدرات، فلا مفر له من أن يكون كذلك، وينجز ما يلزم من المهن والصنائع، ومن هيأته أن يكون محاربًا، فعليه أن يحمل السلاح ويقف بشجاعة ضد كل خطر يمكن أن يهدد المدينة/ الدولة Polis. ومن هيأته أن يكون حاكمًا، فعليه أن يتجه لتدبير شؤون الناس بفضيلة وحكمة وعدل. وهكذا نرى أن غاية الدولة ومشروعية وجودها تستمدها من الطبيعة البشرية، فهي من الأمور الطبيعية التي رافقت وجود البشرية التي تكون دائمًا في حاجة إلى من ينظمها.
في السياق نفسه، نجد الفيلسوف أرسطو، الذي ظل وفيًا لأفكار أفلاطون، على الرغم من بعض الانتقادات التي وجهها إلى فكره السياسي، فأرسطو أيضًا يؤكد على فكرة التراتبية واللامساواة الطبيعية بين الناس. بل يذهب أرسطو إلى أن هذا التراتب مقصود من طرف الطبيعة نفسها، التي «لا تفعل باطلا أبدًا». فكون الناس مختلفين ومتمايزين على مستوى المهارات والقدرات، يجعلهم في حاجة إلى بعضهم البعض، وبالضرورة ميالين إلى الألفة والاجتماع، لأن لا أحد منهم يستطيع أن يوفر بنفسه كل ما يحتاج إليه. لذلك كان الإنسان، حسب أرسطو، كائنًا مدنيًا بطبعه، أي كائنًا لا يستقيم وجوده إلا في مجتمع يتقاسم أفراده المهام والوظائف. وبهذا المعنى أيضًا، كانت الدولة من الأمور الطبيعية، أي من الأمور التي يقتضيها تحقيق الحاجات الطبيعية للإنسان، التي دونها لا يمكن أبدًا أن يتحقق. إن غاية الدولة عند أرسطو هي تحقيق الخير الأسمى، وهو سعادة الأفراد المكونين لها عبر تحقيق حاجاتهم الطبيعية من غذاء وسكن وأمن. بعد التحولات التي عرفتها أوروبا مع مطلع العصر الحديث، وبتأثير من الحركة الإنسية والتطورات الهائلة في مجال الفن والعلوم والعمارة، واكتشاف كروية الأرض، وعقم المنهج الأرسطي الذي قامت عليه المؤسسة الآمرة والحاكمة في أوروبا، وهي الكنيسة، سيستعيد التفكير في مفهوم الدولة أهميته، باعتباره موضوعا للتفكير الفلسفي والسياسي، حيث خاض رواد النهضة والتنوير، صراعا ضد النظرية الثيوقراطية، أو ما يسمى بنظرية الحق الإلهي، التي تفسر نشوء الدولة بفكرة دينية أو ما سمي بـ«حق الملوك المقدس». وتقوم هذه النظرية، على ضرورة تأليه الحاكم وعبادته وتقديسه، ولنا في مصر القديمة وروما مثال على ذلك. وستعرف هذه النظرية تطورًا على يد ملوك أوروبا في المرحلة الإقطاعية، إذ لم يعد ينظر للملك على أنه إله، بل إنه خليفة الله في الأرض. وهكذا رفض رواد النهضة الوصاية على الإنسان واعتباره قاصرًا يحتاج لمن يقوده ويملي عليه كيف يسلك ويتصرف. وفي هذا السياق، فكر أصحاب نظرية العقد الاجتماعي، أو المصنفين ضمنها، في مفهوم الدولة (هوبز/ لوك/ روسو)، حيث يرى أصحاب نظرية العقد الاجتماعي ويفترضون أن مشروعية الدولة وغايتها، تستمدهما من حالة الطبيعة التي كان الأفراد فيها يعيشون على الفطرة، أحرارا من دون أن يوجد ما يحد من حريتهم. لكن هذا النوع من الحرية أدى للفوضى والاضطراب. وهو ما جعلهم يفكرون في وسيلة للخروج من حياة الاضطراب والتطاحن، يعني أنهم فكروا في تأسيس حياة يسودها التنظيم والتوافق، فكانت الوسيلة هي العقد الاجتماعي كأساس للدولة التي يتنازلون لها عن جزء من حريتهم وحقوقهم. وعلى الرغم من أن رواد العقد الاجتماعي اتفقوا على تعريف العقد الاجتماعي وفرضية حالة الطبيعة، إلا أنهم يختلفون حول طبيعة العقد ومبرراته وغاية الدولة الناشئة، وكذلك حول تصورهم لحالة الطبيعة. فمثلا طوماس هوبز، يرى أن ظهور الدولة لم يكن طبيعيًا، بل هو «الثمرة الاصطناعية التي جاءت نتيجة ميثاق إرادي، ولحساب مصلحي»، لأن حالة الطبيعة هي حالة عنف وجور وتدمير وميل نحو الشر، الذي اعتبره هوبز، ميلاً طبيعيًا في الإنسان. فالإنسان لديه ميل طبيعي نحو العدوان والقوة. وهو ما يجعل الضعفاء ضحية لهذا المنطق. فحالة الطبيعة تطبعها الفوضى والعنف، «حرب الكل ضد الكل»، ما يحول دون قيام حياة اجتماعية آمنة ومستقرة. فيجد الإنسان نفسه أمام فقدان أهم ما لديه، وهو «البقاء على قيد الحياة». لذلك فكر الناس في بناء مجتمع سياسي يضع حدًا للحروب والعدوان والجور والظلم والتسلط، يستبدل بالعنف التكامل والتعاون. لذلك فكر المكونون للعقد بالتنازل عن كل سلطتهم وحقوقهم، لصالح رئيسهم/ راعيهم/ ملكهم، الذي سيتمتع بالسلطة المطلقة، لأنه لم يكن طرفًا في العقد وليس خاضعًا لأحد. وهكذا كانت الدولة هي التنظيم الجديد الذي قام من أجل ضمان أمنهم وتأمين سلامتهم. وفي هذا الصدد يقول هوبز، في كتابه «اللفيتان»، في النهاية، إن الدافع والهدف عند الذي يتخلى عن حقه أو يحوله، ليس إلا أمنه الشخصي في حياته وفي وسائل حفظ هذا الأمن».
إذا كانت غاية الدولة ومشروعيتها عند هوبز تستمدهما من ضمانها لأمن الناس وسلامتهم، نتيجة العقد الذي أقاموه وسلموا فيه كل حقوقهم لمن يجب طاعته والخضوع له، فإن جان جاك روسو، لم ير في الدولة أداة محافظة على أمن الناس وسلامتهم فقط، بل إن الدولة ليست غايتها الحفاظ على الأمن، بل غايتها بناء حياة اجتماعية، وتكوين مجتمع سياسي تقوم فيه الدولة بالمحافظة على حقوق الأفراد. فالدولة لا تقوم على احتكار الحاكم للسلط، بل على التعاون والتشارك والسيادة المطلقة للشعب عن طريق الإرادة العامة التي يعبر عنها في القوانين. وبالتالي تكون وظيفتها هي الحفاظ على حقوق المواطنين الذين لا يخضعون للحاكم داخل الدولة، بل يخضعون لسلطة القوانين التي ساهموا في وضعها. فالسيادة دائمة للشعب، وهذا ما يقصده روسو بقوله: «إن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد»، فالدولة ليست كما تصور أصحاب النظرية الثيوقراطية أو هوبز متعالية على الإنسان بل هي وسيلة ضرورية لتحقيق أماني الإنسان ومطامحه، فهي توفر النظام والنفوذ الذي يحمي كل فرد من ظلم فرد آخر، إن مشروعية الدولة لا تستمدها عند روسو فقط من حالة الطبيعة، بل حالة الطبيعة حسب روسو هي حالة خيّرة، حالة سلم ووئام.
أما بالنسبة لاسبينوزا، فقد فكر في الدولة من منظور علماني مستفيدا من الصراع الديني الطاحن بين الكاثوليك والبروتستانت. فدافع عن دولة لا تنحصر وظيفتها في السيادة والتنظيم والتحكم، كما ذهب إلى ذلك هوبز. بل غاية الدولة عند اسبينوزا، تستمدها من قدرتها على تحرير الناس من الخوف، والعنف، والإرهاب الذي قد يمارسه المختلفون في التصورات والآراء والمعتقدات على بعضهم البعض بالقوة والعنف والإكراه. فالدولة حسب اسبينوزا، لا يجب أن تنحصر وظائفها في تطويع الناس والتحكم بهم، بل غايتها أسمى من ذلك، وهي تحرير أجسادهم وعقولهم لكي يفكروا بشكل حر في كل القضايا، استنادا إلى الحجج العقلانية وليس بالأسلحة والإرهاب والخوف. وفي هذا السياق يؤكد اسبينوزا، بعد أن حدد غاية الدولة، أن مشروعيتها يجب أن تنبع من مجموع الأفراد المكونين لها، الذين يكونون غير قادرين إن تركوا لذواتهم، على تدبير اختلافاتهم بالعقل والنقاش بعيدا عن الإكراه والقوة. لذلك، فإن قيام الدولة نابع من عدم قدرة المختلفين في الرأي والمعتقد، على تدبير اختلافاتهم، ودورها يتجسد في حماية الاختلاف والعمل على تكريسه. إن القيمة التاريخية لتصور اسبينوزا، تكمن في كونه غيّر من تصورنا للدولة، باعتبارها دولة سيادة وعنف مشروع إلى دولة راعية للاختلاف والحرية. وبالتالي، طالب اسبينوزا بضرورة فصل مجال الدولة على مجال الدين. فالدولة لا تدافع عن مذهب ديني ضد آخر. إنها تقف موقفا واحدا من جميع الأديان والمعتقدات، وتعمل على حماية الجميع، ورفض العنف. وفي هذا الصدد، يقول اسبينوزا: «إن الغاية من تأسيس الدولة ليس تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وآلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخدامًا حرًا، من دون إشهار لأسلحة الحقد والغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معًا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة».



حلمي التوني يغمس فرشاته في الظلام ويرحل

الفنان الراحل حلمي التوني
الفنان الراحل حلمي التوني
TT

حلمي التوني يغمس فرشاته في الظلام ويرحل

الفنان الراحل حلمي التوني
الفنان الراحل حلمي التوني

في مشواره الفني الطويل رسم الفنان المصري الكبير حلمي التوني، وناضل بقوة؛ ترسيخاً لمعانٍ طالما آمن بها وأصر على تأكيدها، وأثناء ذلك اصطدم المبدع الذي يعد واحداً من أعمدة التشكيل المصري بالكثير من الصعوبات، ولم يفقد عناده، حزن بعمق على «تآكل الجمال حوله»، شعر للحظات بـ«عدم جدوى صرخاته» المتكررة التي يطلقها عبر لوحاته، لكنه سرعان ما كان يعود إلى مرسمه، حصنه الآمن، حيث فرشاته وألوانه وإبداعاته التي تجسد «الهوية المصرية»، وتدعو إلى «الحب والجمال والحلم»، وفق تصريحاته السابقة.

قدم لوحات زيتية للطفل في أحد معارضه الأخيرة (الشرق الأوسط)

وصباح السبت، غيّب الموت الفنان حلمي التوني عن عمر يناهز 90 عاماً، لتبقى رؤيته في تصوير الحياة المصرية المعاصرة من خلال المزج بين التراث والحداثة تجسيداً صادقاً لروح وطنه، وتظل بصمته في الصحافة وتصميم أغلفة الكتب والرسم الغرافيكي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإبداع الفني العربي.

عالم الصغار (غاليري بيكاسو)

ونعى الدكتور أحمد فؤاد هَنو، وزير الثقافة المصري، الفنان حلمي التوني قائلاً: «إن الراحل كان أحد حرّاس الهوية المصرية، وشكّل وجدان جيل بأكمله بأعماله الخالدة، ليرحل تاركاً بصمات لن تمحى على الساحة الفنية من خلال أعماله المتميزة، التي أسهمت في إثراء الثقافة البصرية على مدار عقود».

الفنان المولود بمحافظة بني سويف (جنوب القاهرة) في أبريل (نيسان) 1934، درس الفن في (كلية الفنون الجميلة) بالقاهرة، وحصل على درجة بكالوريوس في الديكور المسرحي والتصوير، وشارك في مجموعة متنوعة من الفنون البصرية بما في ذلك النشر.

احتفى بالجمال والحياة (غاليري بيكاسو)

عمل الفنان، الذي يعد أحد أبرز مصممي أغلفة الكتب على المستويين العربي والدولي، مع كبرى دور النشر. ومن أبرز أعماله مؤلفات أديب نوبل نجيب محفوظ، كما عمل في مؤسسة (دار الهلال) العريقة مشرفاً على بعض إصداراتها، وأقام عشرات المعارض الفردية، وشارك في معارض جماعية عربياً ودولياً، وتقتني العديد من المؤسسات والمتاحف في العالم أعماله.

حصل التوني على العديد من الجوائز العربية والعالمية، ومنها جائزة معرض بولونيا لكتب الأطفال عام 2002، وجائزة منظمة «يونيسيف» عن ملصقه لـ«العام الدولي للطفل» عام 1979.

عمق الفكرة وسلاسة التشكيل وقوة الألوان الرمزية (غاليري بيكاسو)

«منذ تخرجه في الكلية لم يخرج التوني من أروقة الفن والصحافة ولن يخرج؛ فسيبقى عالمه الخاص الذي صنعه، وأحلامه التي رسمها تزيّن تاريخ الفن المصري»، حسب تعبير الفنان رضا بيكاسو مدير غاليري (بيكاسو)، الذي يضيف لـ«الشرق الأوسط»: «منذ بداياته انطلق التوني تجاه التراث، اشتبك مع مفرداته وقيمه ورموزه وأفكاره وتقاليده وصياغاته الجمالية الموحية، واعتبره منجماً يعد الرفد منه وسيلة لتأصيل وترسيخ مفاهيم الارتباط بالهوية الوطنية والقومية والتواصل مع الجذور العميقة».

ووفق رضا فإن «التراث لم يكن بالنسبة للتوني مجرد مصدر للإلهام، بل إنه أعاد صياغة التراث على نحو غير مسبوق في الفن التشكيلي؛ إذ جدد وأبدع وأضاف بجرأة ورؤية مغايرة للمستشرقين وللرواد المصريين»، مؤكداً: «أكاد أجزم أن أحد أهم أسرار تفرده هو نجاحه في إزالة الحدود الوهمية المصطنعة ما بين الفنون الشعبية وبين الفنون الرفيعة».

الهدهد من أبرز الرموز التراثية الموحية في أعماله (الشرق الأوسط)

«لقد استطاع التوني منذ بداية مشواره أن يجتذب أولاً القارئ العادي إلى الفنون الجميلة عبر رسوماته في الصحف، بعد أن كانت حكراً على النخبة والصفوة في بيوتهم الأنيقة، ثم اجتذب هؤلاء الصفوة من جهة أخرى إلى الفنون الشعبية؛ ليستمتعوا بروائعها وتفاصيلها، بعد أن كانت تمتع وتثري ذائقة أبناء الريف والحواري والأزقة الضيقة وحدهم، وكأنه حقق ما يمكن أن نطلق عليه (العدالة الفنية) في مصر»، وفق بيكاسو.

جمال ودلال (غاليري بيكاسو)

ويرى مدير الغاليري، الذي احتضن أعمال حلمي التوني عبر الكثير من المعارض الفنية، أن «ذلك الاحتفاء بالفن الشعبي جاء انطلاقاً من رؤية تقوم على اعتباره بمنزلة ملتقى أو حاضنة لجميع الحضارات المصرية؛ لذلك حرص على التعمق فيه، والتزود منه إلى أن صنع لنفسه مفردات وعناصر وموتيفات خاصة به، بل خلق دنيا لها شخوصها وقوانينها وتجلياتها».

الموت يغيّب الفنان المصري حلمي التوني (الشرق الأوسط)

وشكلت المرأة مكانة بارزة وخصوصاً في هذا العالم الذي رسمه لنا حلمي التوني، ناضل من أجل حريتها، وخاف على مستقبلها الذي كان يصفه بأنه «هو ذاته مستقبل مصر»؛ لذلك مثلما اهتم بها من الناحية الفنية في لوحاته كمنطق للبناء البصري، والنقطة المركزية في أعماله، فإنها كانت من الناحية الفكرية هي قضيته الكبرى.

وازداد خوف التوني الذي خلّف رحيله حالة من الحزن بالوسط التشكيلي والثقافي بمصر على المرأة، وبرز ذلك في معرضه قبل الأخير «أنا حرة»، حتى إنه قال لـ«الشرق الأوسط»، في حوار سابق: «طوال مشواري الفني من وقت إلى آخر كنت أقيم معارض تحمل بين ثناياها دعوة إلى حرية المرأة، لكن يحمل هذا المعرض صيحة أكثر إلحاحاً؛ لأن المرأة باتت كالطائر المحبوس في القفص الذهبي، المصنوع من حديد صدئ»، وتابع: «في الماضي كانت القوانين هي التي تقف أمام حرية المرأة، الآن القوانين تعدّلت، لكن للأسف الشديد ظهر لها عدو جديد؛ هو المجتمع المغلق ومحاولة غرس الإرث الاجتماعي البالي داخلها».

استكشف الموروث والعناصر الشعبية المستلهمة من البيئة والتاريخ المصري (الشرق الأوسط)

وفي آخر معارضه، الذي حمل عنوان «يحيا الحب»، جسّد التوني الحب بجميع صوره، فعلى مسطح لوحاته طالعتنا المرأة بجمالها ودلالها مثلما كان يحلو له تجسيدها، وجذبتنا طاقات من العاطفة عبر صياغات شعبية مفعمة بالأحاسيس الإنسانية والروح الفلكلورية.

وعلق التوني على معرضه هذا: «طوال حياتي أرسم عالم المرأة، وهو عالم لا ينفصل عن عالم الحب، وعندما أتذكر المرأة فإننا نتذكر الحب على الفور؛ ومن ثمّ فإن الحب حاضر بقوة في كل معارضي، وليس من المستغرب إذن أن يكون هذا المعرض الذي ربما يكون الأخير عن الحب أيضاً».