تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

بريطانيا كشفت عن تسجيلات صوتية أشارت إلى عملية إرهابية

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
TT

تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)

أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الروسية المدنية فوق صحراء سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ بـ23 دقيقة، ورغم عدم انتهاء التحقيق الرسمي حتى اليوم فإن مجموعة من البلدان خرجت بتصريحات رسمية تؤكد أن سقوط الطائرة المدنية كان على خلفية عمل إرهابي. وجميع هؤلاء المعلنين من العواصم التي يعتد بحديثهم خاصة وهم يعلقون على كارثة إنسانية كبيرة ويستندون فيما لديهم على أجهزة استخباراتهم. بدأت لندن تلك الموجة وعبرت سريعا الأطلسي لتؤكده واشنطن ثم كان ارتدادها في منطقتنا خجولا من تل أبيب، هذه الموجة والتي خرجت تقريبا في يومين متتابعين كشفت بكلمات قصيرة وموجزة عن امتلاك أجهزتها الاستخباراتية دلائل تشير إلى أن سقوط الطائرة كان بعملية إرهابية.
بالتالي سنفكك الروايات وسندعي امتلاكنا لرواية أخرى سنسير مع ما خرج إلى العلن على أطراف أصابعنا حتى نصل إلى ما يمكن الإمساك به، فقد اتبعت هذه الإعلانات بعد نحو أسبوع إعلانا روسيًا يؤكد هذا الطرح رغم أن موسكو قضت 48 ساعة تتحفظ على الإعلان البريطاني كونه من خارج لجنة التحقيق الفنية، وإذا بالإعلان الروسي يسلك نفس الطريق ويزيد عليه بعضا من ردود الأفعال التي تجاوزت ردود الآخرين.
الرواية البريطانية جاءت على لسان رئيس وزرائها والرئيس المصري في الجو قبيل هبوطه في لندن بدقائق مما أكسبها صخبا مدويا، لكنها بالتحديد لم تذكر سوى أن أجهزتها الاستخباراتية لديها بعض التسجيلات الصوتية التي تشير إلى أن عملية إرهابية نفذت في مطار شرم الشيخ تسببت في انفجار الطائرة الروسية في الجو، ولم تقدم لندن إجابة عن توقيت تلك التسجيلات هل كانت قبيل التنفيذ أم بعده، وتركت الفرضية مفتوحة رغم فداحة هذا الإعلان الذي كان يلقى للمرة الأولى، واشنطن بدورها وهي تؤكد بعدها مباشرة أن لديها نفس تلك الأدلة التي ذكرتها لندن لم تزد عليها حرفا واحدا، حتى بدت الرواية أميركية بالأصل وأنها تليت بلسان لندني استثمارا لوجود الرئيس المصري على أراضيها، وبعد ذكر التسجيلات واعتماد فرضية التنصت الإلكتروني فائق التكنولوجيا على منفذي العملية الإرهابية ظهرت إسرائيل التي تقبع على مسافة كيلومترات معدودة من مكان الحادث ومن المكان الافتراضي لوجود الإرهابيين، وعلى استحياء أجابت بعد أن سئلت من الجميع عن جدية هذه الرواية، أنها ترجح بالفعل أن عملا إرهابيا كان وراء سقوط الطائرة وأن لديها بعضا من أدلة تصب في صالح هذا الاتجاه.
لم تخرج كلمة واحدة إضافة لما ذكرناه بعاليه، حتى عندما أكدت موسكو تلك الرواية بعدها بأسبوع لم تضف سوى تفصيلات محدودة ومتوقعة، فهي أكدت أن أجهزة التحقيق الروسية وهي غير الطاقم الموجود داخل لجنة التحقيق الرسمية، قد توصلت إلى بعض من الأدلة المادية عبارة عن بقايا مسحوق، يعتقد أنه مادة يمكن أن تدخل في تكوين عبوة ناسفة تزن نحو كيلوغرام واحد كانت هي السبب المباشر لسقوط الطائرة، وعرضت 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تصل إلى تحديد وضبط الفاعلين، وهي بذلك تؤكد الرواية السابقة، وأعلن حينها أن لندن أطلعت موسكو على ما لديها داخل الملف الاستخباراتي، ومتصور بالطبع أن موسكو اطلعت ودرست وقارنت وأكملت على ما لديها، لكن من غير المتوقع الإعلان عن تفصيلات ما أرسل من لندن ومدى مساهمته في خروج الرواية الروسية الصاعقة.
وإن كنا بذلك لم نتحرك سوى خطوات محدودة، لكن لا بد من تسجيل نقطة غاية في الأهمية وهي أن تلك العواصم جميعها لم تذكر «داعش» بكلمة واحدة، ولو حتى على سبيل كونه أحد المتهمين المحتملين، بطبيعة جغرافيا الحادث، فسيناء وفق أدبيات تلك الدول وغيرها بها فرع نشط للتنظيم، وهناك مبرر آخر كان يستدعي أن تأتي تلك الروايات على ذكر «داعش» بصورة أو بأخرى، وهو الإعلان الداعشي المبكر عن أنه من قام بالعملية، لكن هذا الذكر لم يحدث على وجاهة المبررات، فضلا عن نجومية التنظيم الذي أصبح يتهم فيما يقوم به وغيره كماركة الإرهاب المسجلة، وهذا يستتبع أن نعبر إلى الجهة المقابلة حيث روايات «داعش» حول الحادث ففيها ما هو أكثر إثارة من الروايات السابقة!
تنظيم داعش الإرهابي وقع في خطأ قاتل غير معتاد، عندما قص ثلاث روايات متناقضة لحادث واحد حاول من خلالها أن ينتزع التصديق لكونه هو من فعلها، بالكاد بعد يوم واحد أعلن التنظيم مسؤوليته عن إسقاط الطائرة بواسطة إطلاق صاروخ حراري من على أرض سيناء وأذاع مقطعا مصورا لطائرة تسقط، تلك كانت روايته الأولى التي تلقفتها الأجهزة الأمنية لكل من مصر وروسيا، وعملا عليها، فتبين كذبها بعد ساعات، فالطائرة على ارتفاع 32 ألف قدم وبسرعة تحليق لا تمكن أي صاروخ اعتيادي من ملاحقتها فهي تحتاج إلى منظومة دفاع جوي متطورة لاصطيادها، والمقطع المصور ثبت أنه يخص إطلاق صاروخ محمول على الكتف «غراد» باتجاه إحدى الطائرات الأميركية الصغيرة، بجوار قاعدة «باغرام العسكرية» في أفغانستان عام 2014.
الرواية الثانية جاءت أكثر تماسكا بقليل من سابقتها مع ملاحظة مرور بعض من الوقت قبيل إذاعتها، ففيها ظهر الخطاب الداعشي الروتيني الذي يصاحب بيانات تبني العمليات، وإن كان مقتضبا قليلا ولم يحو أي صور خاصة بالعملية، وأهم ما فيه وما يمكن الوقوف عنده أنه كان يفترض أن بيانه الأول قد سقط في الفراغ وأنه لم يسجل عليه فبدا وكأنه يتحدث عن العملية للمرة الأولى، فضلا عن ذكره نصا بأنه لن يفصح عن طريقة تنفيذه للعملية إلا في الوقت المناسب، وسيحتفظ بها باعتبارها سرا من أسرار التنظيم. كان من الممكن لهذه الرواية أن تمر إن كانت قد ظهرت أولا، فالرواية التي تسبقها تضرب صدقيتها في الصميم وكلتاهما صدرت من مصدر واحد مما حرم التنظيم من إمكانية التنصل منها.
الرواية الثالثة خرجت من التنظيم أيضا، وجاءت بعد موجة الإعلانات الدولية بشأن سقوط الطائرة بسبب عبوة تم زرعها بداخلها على الأرجح من محطة الإقلاع، الرواية خرجت إلى العلن بعد أن احتدم الحديث حول إمكانية اختراق النطاق الأمني لمطار شرم الشيخ وزرع العبوة، وأيضا بعد مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها روسيا تجاه المطارات المصرية ورحلاتها الجوية، فإذا بالرواية تقتصر على إعلان أنه نفذ العملية باستغلال ثغرة أمنية بمطار شرم الشيخ، وصاحب ذلك نشر صورة فوتوغرافية لعبوة معدنية لمياة غازية ومفجر صغير والسلك الكهربائي، وكانت الرواية تحاول أن تتماسك فضلا عن أنها أيضا تتجاوز وتقفز على الروايتين السابقتين، بذكر أن المستهدف قبلا كان إحدى الطائرات الغربية لكن تعديل الهدف بطائرة روسية جاء بعد تدخل روسيا للحرب ضد تنظيم داعش في سوريا.
إن كنا بصدد طرح رواية أخرى لما حدث فهو تفتيش خلف الجدار الكثيف الذي ضرب حول الحادث، حتى ممن أعلنوا تلك الإعلانات السابق ذكرها، وهي أول ملحوظة لنا نريد تسجيلها، بأن من ذكر أن الحادث جاء نتيجة عمل إرهابي لم يقدم رواية متماسكة، يطرح مثلها كثير في العمليات الإرهابية المتكررة التي تضرب المشهد اليومي في أماكن متعددة من العالم، واختبأ الجميع بمن فيهم الجانب الروسي خلف مقولة أن المعلومات استخباراتية، مع ملاحظة أن جميع الأطراف ورغم فداحة الحادث وردود أفعاله، فهم كما توحدوا في هذا الجدار الصلب من الصمت اجتمعوا أيضا على عدم اتهام «داعش» مباشرة، رغم وجود ثلاث روايات للتنظيم يمكن لأي طرف أن يتبنى إحداها ويبني عليها طروحاته، لكن الأمر لم يسر في هذا الشكل الاعتيادي إزاء أي عمل إرهابي.
الجانب المصري وهو الممثل بحكم القانون كرئيس للجنة التحقيق الفنية له مساحة كبيرة في الاشتباك مع تفصيلات وملابسات الحادث، ومع ذلك كان أداؤه متأرجحا بشدة في إدارته للأزمة، لدرجة أنه في بعض فصولها دخل بقدميه في مربع المتهم بدفع من آخرين ولم يحرك ساكنا إزاء ذلك، الجانب المصري تشارك مع الآخرين في جدار الصمت المطبق، وحتى المؤتمر اليتيم الذي عقده رئيس لجنة التحقيق جاء أكثر صمتا، في الوقت الذي كان العالم كله يتحدث عن الحادث ويتداول التكهنات بسرعة كبيرة، واجهه فراغ مصري كان من الممكن أن يشغله أشياء كثيرة تحصن مصر من الدخول إلى قفص اتهام مصنوع بطريقة ما، هذا الأمر في جانب منه يمكن إرجاعه لقصور في أداء أطراف مصرية، لكن جزءا آخر منه بدا متعمدا أو خيارا تم بحثه واعتماده، ففداحة تبعات الحادث وصفت بعضها بكونها كارثية كقطاع السياحة والسمعة الأمنية للمطارات والرحلات الجوية المصرية، ومع ذلك كانت خطوات احتواء هذا الأمر مصريا بعيدة تماما عن إدارة أو علاج تلك التبعات، وكأن ما هو لدى الجانب المصري بأخطر وأوسع مما هو مطروح مواجهته، وهنا يقفز مرة أخرى أن معظم تلك الأطراف لديها شيء ما تخفيه غير مسموح بخروجه إلى العلن، لكن ما هو هذا الشيء الذي يجتمع عليه كل الأطراف رغم مساحة اختلاف المصالح الهائل بينهم. تعمد ترك المشهد ضبابيا مقصود بشواهد كثيرة حتى في مواجهة الرأي العام الروسي أو المصري وهما المعنيان الأولان في البحث عن إجابات مفقودة، وبعدهما رأي عام عالمي تجاوز هذا المطب وبدأ يتحدث عن العمل الإرهابي في سيناء ضد طائرة مدنية، وكأنه أمر مسلّم به يذكر في تعدد أشكال النشاط الإرهابي الموجود حاليا على الساحة.
بالعودة إلى ما انتهى إليه التنظيم الإرهابي نجد الغموض يزداد كثافة من حول الواقعة، فهناك حقيقة بأن التنظيم معترف بالمسؤولية، لكن متى كان تنظيم داعش أو أي من فروعه أو حتى أنصار بيت المقدس يبدو متلعثما هكذا، لدرجة أن يروي ثلاث روايات تناقض بعضها البعض حول واقعة واحدة، مؤكد وبالرصد الدقيق لتاريخ عملياته وبياناته أنه لم يسقط مرة واحدة في هذا الفخ، مع الأخذ في الاعتبار أننا أمام عملية إن ثبت قيامه بها، فهي بالمؤكد أيضا ذروة نجاحاته العملياتية، فكيف يكون غير مستعد لترويجها إعلاميا في خطاب متماسك يمتلك التنظيم آلياته بمهارة، أحد أهم الأجزاء التي افتقدها التنظيم على سبيل المثال في هذه العملية أنه لم يستطع التقاط صورة واحدة لمكان الحادث وقت سقوط الطائرة وقبل وصول أي من الأجهزة الأمنية للمكان، رغم أنه كان هناك فترة زمنية كافية تسمح له بذلك، فضلا عن سقوط الطائرة بالقرب من مدينة الحسنة جنوب العريش، وهي منطقة عاش فيها التنظيم طوال عامين وتمترس داخل دروبها، وأدار حروبه وعملياته على أراضيها التي يعلمها ككف يده، صورة واحدة كتلك التي أشرنا إليها كانت كفيلة بانقلاب المشهد رأسا على عقب، لكن التنظيم بدا وكأنه لا يعلم واضطر للجوء إلى مقطع مزيف بثه متعجلا، وهي نقيصة لم يقع فيها من قبل مطلقا، فالحرص البالغ على تصوير ما يزيد على 30 تفجيرا لخط الغاز مثلا وإذاعته بصحبة خطبة عصماء تمتلئ بالكلمات الدينية الفخمة، وإلحاحه على إبراز عدائه للجيش والأمن المصري، كل تلك الثوابت لم يقابلها أي جهد من قبل أعضاء التنظيم لإثبات ارتباطه بالعملية، بل بدا في بيانه الأخير أنه فقط متابع لنشرات الأخبار الدولية والمحلية ليلتقط من خلالها جملة «الثغرة الأمنية بمطار شرم الشيخ» والتي كان يلح عليها الجميع، ليضمنها في بيانه الذي صاحبته الصورة الملفقة والمستقاة أيضا مما كان يتداول إعلاميا، وهو بالقطع لم يستخدم تلك المفردة من قبل في توصيف أي من عملياته الناجحة.
قطعا الأمر يزداد غموضا، وفعل التنظيم الإرهابي غير محدد الملامح بالمرة، فأين كان دور التنظيم في العملية، هل كان التنظيم الإرهابي موجودا بالفعل أم تم الدفع به دفعا ليكون شماعة يمكن تعليق الاتهام في رقبته حين الحاجة؟ من جانبنا نرى أنه في أقصى تقدير ممكن قد يكون التنظيم ساعد من طرف خفي، أو قدم دعما لوجستيا محدودا لنجاح العملية، لكنه قطعا لم يمتلك أسرارها ولم يمسك بعصا القيادة فيها بالمطلق، وهنا نحاول أن نمسك بطرف هذا الخيط الوحيد الذي يمكن السير خلفه، لا بد إذن أن يكون هناك من أصدر تعليمات بالتنفيذ، بل وشارك بقوة في التنفيذ أيضا، فمن يكون هذا الطرف الذي لم يذكر اسمه أحد ممن ادعى أنه يمتلك المعلومات الاستخباراتية، وجميعهم كما أسلفنا لا يتوقع منهم الهزل أمام حادث كهذا، فهل الفاعل مطلوب إخفاؤه مثلا وهذا من الممكن توقعه في الحروب الاستخباراتية، وهنا لا بد من الوقوف أمام أعداء كل من مصر وروسيا فكلتاهما وقع عليها الضرر البالغ، من في أعدائهما يمتلك القدرة على التنفيذ والإرادة أيضا ومهارة النفاذ إلى تلك المنطقة الخطرة من مستوى العمليات الإرهابية.
أحد مرافقي وزير الدفاع الروسي البارزين في زيارته الأخيرة للقاهرة أجاب على أحد الأسئلة بخصوص حادث سقوط الطائرة بإجابة أكثر اقترابا، فهو ذكر للسائل جملة مقتضبة بأن الفاعل كان يوجه رصاصاته إلى قلب العلاقة المصرية الروسية مستهدفا تخريب التعاون بينهما، وهي إجابة لا علاقة لها البتة بتنظيم داعش ولا فرعه في سيناء، وليست ضبابية على الإطلاق إنما هي تتحدث عن دول لديها أهداف تسعى إلى تحقيقها حتى لو بأساليب غير مشروعة، فالدول وحدها هي ما تزن علاقات دولتين ببعضهما البعض، وقد يتقاطع مع مصالحها ما يتم اعتماده من آفاق للتعاون بين كلتا الدولتين، وعندما يضغط هذا التعاون على تلك المصالح بقوة ويبدو قاطعا لطريق مصالح تلك الدول، تقوم الأخيرة باللجوء إلى أجهزة استخباراتها لسؤالها عن الحلول الممكنة والقدرات على الأرض، وحينها بالضبط تبدأ عمل تلك الأجهزة لتقديم حلول، أو تحقيق أهداف يعجز الساسة عن إنجازها، وهي في هذا التحرك إما أن تقوم بالعمل بنفسها ومن خلال عناصرها أو اتصالاتها المباشرة، وإما يمكنها أن تستعين بأجهزة صديقة تمتلك ميزة نوعية في إتمام التنفيذ، كالقرب الجغرافي مثلا أو الارتباط مع عناصر موجودة على مسرح تنفيذ العملية، أو غيرها من إمكانيات تجعل اكتشاف الفاعلين كمطاردة خيوط الدخان.
هذا ما نمتلكه حتى اليوم من صفحات تلك الرواية التي يتسلح أبطالها حتى اليوم بالصمت، وحتى من تكلم منهم فهو لجأ إلى ردود أفعال غير مسبوقة توحي بفداحة وخطورة ما تم، ومساحة تهديده المستقبلي الذي يجعله يتحسب بهذا القدر، روايتنا بالطبع كغيرها مليئة بالأسئلة وتطارد إجابات تحلق في فضاءات الإقليم على اتساعه، وهو فضاء يضم أصدقاء وأعداء، ومثلكم تماما وضعنا الأوراق أمامنا، وننتظر أن يتقدم أحد للإفصاح عن أسماء، فهي فقط (الأسماء) ما نظنه ينقص روايتنا التي تتبعنا أبطالها وسطورها هنا وهناك.
* مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟