تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

بريطانيا كشفت عن تسجيلات صوتية أشارت إلى عملية إرهابية

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
TT

تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء.. إن لم يفعلها «داعش» فمن الجاني؟

جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)
جنود مصريون قرب جزء من ركام الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ.ف.ب)

أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الروسية المدنية فوق صحراء سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ بـ23 دقيقة، ورغم عدم انتهاء التحقيق الرسمي حتى اليوم فإن مجموعة من البلدان خرجت بتصريحات رسمية تؤكد أن سقوط الطائرة المدنية كان على خلفية عمل إرهابي. وجميع هؤلاء المعلنين من العواصم التي يعتد بحديثهم خاصة وهم يعلقون على كارثة إنسانية كبيرة ويستندون فيما لديهم على أجهزة استخباراتهم. بدأت لندن تلك الموجة وعبرت سريعا الأطلسي لتؤكده واشنطن ثم كان ارتدادها في منطقتنا خجولا من تل أبيب، هذه الموجة والتي خرجت تقريبا في يومين متتابعين كشفت بكلمات قصيرة وموجزة عن امتلاك أجهزتها الاستخباراتية دلائل تشير إلى أن سقوط الطائرة كان بعملية إرهابية.
بالتالي سنفكك الروايات وسندعي امتلاكنا لرواية أخرى سنسير مع ما خرج إلى العلن على أطراف أصابعنا حتى نصل إلى ما يمكن الإمساك به، فقد اتبعت هذه الإعلانات بعد نحو أسبوع إعلانا روسيًا يؤكد هذا الطرح رغم أن موسكو قضت 48 ساعة تتحفظ على الإعلان البريطاني كونه من خارج لجنة التحقيق الفنية، وإذا بالإعلان الروسي يسلك نفس الطريق ويزيد عليه بعضا من ردود الأفعال التي تجاوزت ردود الآخرين.
الرواية البريطانية جاءت على لسان رئيس وزرائها والرئيس المصري في الجو قبيل هبوطه في لندن بدقائق مما أكسبها صخبا مدويا، لكنها بالتحديد لم تذكر سوى أن أجهزتها الاستخباراتية لديها بعض التسجيلات الصوتية التي تشير إلى أن عملية إرهابية نفذت في مطار شرم الشيخ تسببت في انفجار الطائرة الروسية في الجو، ولم تقدم لندن إجابة عن توقيت تلك التسجيلات هل كانت قبيل التنفيذ أم بعده، وتركت الفرضية مفتوحة رغم فداحة هذا الإعلان الذي كان يلقى للمرة الأولى، واشنطن بدورها وهي تؤكد بعدها مباشرة أن لديها نفس تلك الأدلة التي ذكرتها لندن لم تزد عليها حرفا واحدا، حتى بدت الرواية أميركية بالأصل وأنها تليت بلسان لندني استثمارا لوجود الرئيس المصري على أراضيها، وبعد ذكر التسجيلات واعتماد فرضية التنصت الإلكتروني فائق التكنولوجيا على منفذي العملية الإرهابية ظهرت إسرائيل التي تقبع على مسافة كيلومترات معدودة من مكان الحادث ومن المكان الافتراضي لوجود الإرهابيين، وعلى استحياء أجابت بعد أن سئلت من الجميع عن جدية هذه الرواية، أنها ترجح بالفعل أن عملا إرهابيا كان وراء سقوط الطائرة وأن لديها بعضا من أدلة تصب في صالح هذا الاتجاه.
لم تخرج كلمة واحدة إضافة لما ذكرناه بعاليه، حتى عندما أكدت موسكو تلك الرواية بعدها بأسبوع لم تضف سوى تفصيلات محدودة ومتوقعة، فهي أكدت أن أجهزة التحقيق الروسية وهي غير الطاقم الموجود داخل لجنة التحقيق الرسمية، قد توصلت إلى بعض من الأدلة المادية عبارة عن بقايا مسحوق، يعتقد أنه مادة يمكن أن تدخل في تكوين عبوة ناسفة تزن نحو كيلوغرام واحد كانت هي السبب المباشر لسقوط الطائرة، وعرضت 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تصل إلى تحديد وضبط الفاعلين، وهي بذلك تؤكد الرواية السابقة، وأعلن حينها أن لندن أطلعت موسكو على ما لديها داخل الملف الاستخباراتي، ومتصور بالطبع أن موسكو اطلعت ودرست وقارنت وأكملت على ما لديها، لكن من غير المتوقع الإعلان عن تفصيلات ما أرسل من لندن ومدى مساهمته في خروج الرواية الروسية الصاعقة.
وإن كنا بذلك لم نتحرك سوى خطوات محدودة، لكن لا بد من تسجيل نقطة غاية في الأهمية وهي أن تلك العواصم جميعها لم تذكر «داعش» بكلمة واحدة، ولو حتى على سبيل كونه أحد المتهمين المحتملين، بطبيعة جغرافيا الحادث، فسيناء وفق أدبيات تلك الدول وغيرها بها فرع نشط للتنظيم، وهناك مبرر آخر كان يستدعي أن تأتي تلك الروايات على ذكر «داعش» بصورة أو بأخرى، وهو الإعلان الداعشي المبكر عن أنه من قام بالعملية، لكن هذا الذكر لم يحدث على وجاهة المبررات، فضلا عن نجومية التنظيم الذي أصبح يتهم فيما يقوم به وغيره كماركة الإرهاب المسجلة، وهذا يستتبع أن نعبر إلى الجهة المقابلة حيث روايات «داعش» حول الحادث ففيها ما هو أكثر إثارة من الروايات السابقة!
تنظيم داعش الإرهابي وقع في خطأ قاتل غير معتاد، عندما قص ثلاث روايات متناقضة لحادث واحد حاول من خلالها أن ينتزع التصديق لكونه هو من فعلها، بالكاد بعد يوم واحد أعلن التنظيم مسؤوليته عن إسقاط الطائرة بواسطة إطلاق صاروخ حراري من على أرض سيناء وأذاع مقطعا مصورا لطائرة تسقط، تلك كانت روايته الأولى التي تلقفتها الأجهزة الأمنية لكل من مصر وروسيا، وعملا عليها، فتبين كذبها بعد ساعات، فالطائرة على ارتفاع 32 ألف قدم وبسرعة تحليق لا تمكن أي صاروخ اعتيادي من ملاحقتها فهي تحتاج إلى منظومة دفاع جوي متطورة لاصطيادها، والمقطع المصور ثبت أنه يخص إطلاق صاروخ محمول على الكتف «غراد» باتجاه إحدى الطائرات الأميركية الصغيرة، بجوار قاعدة «باغرام العسكرية» في أفغانستان عام 2014.
الرواية الثانية جاءت أكثر تماسكا بقليل من سابقتها مع ملاحظة مرور بعض من الوقت قبيل إذاعتها، ففيها ظهر الخطاب الداعشي الروتيني الذي يصاحب بيانات تبني العمليات، وإن كان مقتضبا قليلا ولم يحو أي صور خاصة بالعملية، وأهم ما فيه وما يمكن الوقوف عنده أنه كان يفترض أن بيانه الأول قد سقط في الفراغ وأنه لم يسجل عليه فبدا وكأنه يتحدث عن العملية للمرة الأولى، فضلا عن ذكره نصا بأنه لن يفصح عن طريقة تنفيذه للعملية إلا في الوقت المناسب، وسيحتفظ بها باعتبارها سرا من أسرار التنظيم. كان من الممكن لهذه الرواية أن تمر إن كانت قد ظهرت أولا، فالرواية التي تسبقها تضرب صدقيتها في الصميم وكلتاهما صدرت من مصدر واحد مما حرم التنظيم من إمكانية التنصل منها.
الرواية الثالثة خرجت من التنظيم أيضا، وجاءت بعد موجة الإعلانات الدولية بشأن سقوط الطائرة بسبب عبوة تم زرعها بداخلها على الأرجح من محطة الإقلاع، الرواية خرجت إلى العلن بعد أن احتدم الحديث حول إمكانية اختراق النطاق الأمني لمطار شرم الشيخ وزرع العبوة، وأيضا بعد مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها روسيا تجاه المطارات المصرية ورحلاتها الجوية، فإذا بالرواية تقتصر على إعلان أنه نفذ العملية باستغلال ثغرة أمنية بمطار شرم الشيخ، وصاحب ذلك نشر صورة فوتوغرافية لعبوة معدنية لمياة غازية ومفجر صغير والسلك الكهربائي، وكانت الرواية تحاول أن تتماسك فضلا عن أنها أيضا تتجاوز وتقفز على الروايتين السابقتين، بذكر أن المستهدف قبلا كان إحدى الطائرات الغربية لكن تعديل الهدف بطائرة روسية جاء بعد تدخل روسيا للحرب ضد تنظيم داعش في سوريا.
إن كنا بصدد طرح رواية أخرى لما حدث فهو تفتيش خلف الجدار الكثيف الذي ضرب حول الحادث، حتى ممن أعلنوا تلك الإعلانات السابق ذكرها، وهي أول ملحوظة لنا نريد تسجيلها، بأن من ذكر أن الحادث جاء نتيجة عمل إرهابي لم يقدم رواية متماسكة، يطرح مثلها كثير في العمليات الإرهابية المتكررة التي تضرب المشهد اليومي في أماكن متعددة من العالم، واختبأ الجميع بمن فيهم الجانب الروسي خلف مقولة أن المعلومات استخباراتية، مع ملاحظة أن جميع الأطراف ورغم فداحة الحادث وردود أفعاله، فهم كما توحدوا في هذا الجدار الصلب من الصمت اجتمعوا أيضا على عدم اتهام «داعش» مباشرة، رغم وجود ثلاث روايات للتنظيم يمكن لأي طرف أن يتبنى إحداها ويبني عليها طروحاته، لكن الأمر لم يسر في هذا الشكل الاعتيادي إزاء أي عمل إرهابي.
الجانب المصري وهو الممثل بحكم القانون كرئيس للجنة التحقيق الفنية له مساحة كبيرة في الاشتباك مع تفصيلات وملابسات الحادث، ومع ذلك كان أداؤه متأرجحا بشدة في إدارته للأزمة، لدرجة أنه في بعض فصولها دخل بقدميه في مربع المتهم بدفع من آخرين ولم يحرك ساكنا إزاء ذلك، الجانب المصري تشارك مع الآخرين في جدار الصمت المطبق، وحتى المؤتمر اليتيم الذي عقده رئيس لجنة التحقيق جاء أكثر صمتا، في الوقت الذي كان العالم كله يتحدث عن الحادث ويتداول التكهنات بسرعة كبيرة، واجهه فراغ مصري كان من الممكن أن يشغله أشياء كثيرة تحصن مصر من الدخول إلى قفص اتهام مصنوع بطريقة ما، هذا الأمر في جانب منه يمكن إرجاعه لقصور في أداء أطراف مصرية، لكن جزءا آخر منه بدا متعمدا أو خيارا تم بحثه واعتماده، ففداحة تبعات الحادث وصفت بعضها بكونها كارثية كقطاع السياحة والسمعة الأمنية للمطارات والرحلات الجوية المصرية، ومع ذلك كانت خطوات احتواء هذا الأمر مصريا بعيدة تماما عن إدارة أو علاج تلك التبعات، وكأن ما هو لدى الجانب المصري بأخطر وأوسع مما هو مطروح مواجهته، وهنا يقفز مرة أخرى أن معظم تلك الأطراف لديها شيء ما تخفيه غير مسموح بخروجه إلى العلن، لكن ما هو هذا الشيء الذي يجتمع عليه كل الأطراف رغم مساحة اختلاف المصالح الهائل بينهم. تعمد ترك المشهد ضبابيا مقصود بشواهد كثيرة حتى في مواجهة الرأي العام الروسي أو المصري وهما المعنيان الأولان في البحث عن إجابات مفقودة، وبعدهما رأي عام عالمي تجاوز هذا المطب وبدأ يتحدث عن العمل الإرهابي في سيناء ضد طائرة مدنية، وكأنه أمر مسلّم به يذكر في تعدد أشكال النشاط الإرهابي الموجود حاليا على الساحة.
بالعودة إلى ما انتهى إليه التنظيم الإرهابي نجد الغموض يزداد كثافة من حول الواقعة، فهناك حقيقة بأن التنظيم معترف بالمسؤولية، لكن متى كان تنظيم داعش أو أي من فروعه أو حتى أنصار بيت المقدس يبدو متلعثما هكذا، لدرجة أن يروي ثلاث روايات تناقض بعضها البعض حول واقعة واحدة، مؤكد وبالرصد الدقيق لتاريخ عملياته وبياناته أنه لم يسقط مرة واحدة في هذا الفخ، مع الأخذ في الاعتبار أننا أمام عملية إن ثبت قيامه بها، فهي بالمؤكد أيضا ذروة نجاحاته العملياتية، فكيف يكون غير مستعد لترويجها إعلاميا في خطاب متماسك يمتلك التنظيم آلياته بمهارة، أحد أهم الأجزاء التي افتقدها التنظيم على سبيل المثال في هذه العملية أنه لم يستطع التقاط صورة واحدة لمكان الحادث وقت سقوط الطائرة وقبل وصول أي من الأجهزة الأمنية للمكان، رغم أنه كان هناك فترة زمنية كافية تسمح له بذلك، فضلا عن سقوط الطائرة بالقرب من مدينة الحسنة جنوب العريش، وهي منطقة عاش فيها التنظيم طوال عامين وتمترس داخل دروبها، وأدار حروبه وعملياته على أراضيها التي يعلمها ككف يده، صورة واحدة كتلك التي أشرنا إليها كانت كفيلة بانقلاب المشهد رأسا على عقب، لكن التنظيم بدا وكأنه لا يعلم واضطر للجوء إلى مقطع مزيف بثه متعجلا، وهي نقيصة لم يقع فيها من قبل مطلقا، فالحرص البالغ على تصوير ما يزيد على 30 تفجيرا لخط الغاز مثلا وإذاعته بصحبة خطبة عصماء تمتلئ بالكلمات الدينية الفخمة، وإلحاحه على إبراز عدائه للجيش والأمن المصري، كل تلك الثوابت لم يقابلها أي جهد من قبل أعضاء التنظيم لإثبات ارتباطه بالعملية، بل بدا في بيانه الأخير أنه فقط متابع لنشرات الأخبار الدولية والمحلية ليلتقط من خلالها جملة «الثغرة الأمنية بمطار شرم الشيخ» والتي كان يلح عليها الجميع، ليضمنها في بيانه الذي صاحبته الصورة الملفقة والمستقاة أيضا مما كان يتداول إعلاميا، وهو بالقطع لم يستخدم تلك المفردة من قبل في توصيف أي من عملياته الناجحة.
قطعا الأمر يزداد غموضا، وفعل التنظيم الإرهابي غير محدد الملامح بالمرة، فأين كان دور التنظيم في العملية، هل كان التنظيم الإرهابي موجودا بالفعل أم تم الدفع به دفعا ليكون شماعة يمكن تعليق الاتهام في رقبته حين الحاجة؟ من جانبنا نرى أنه في أقصى تقدير ممكن قد يكون التنظيم ساعد من طرف خفي، أو قدم دعما لوجستيا محدودا لنجاح العملية، لكنه قطعا لم يمتلك أسرارها ولم يمسك بعصا القيادة فيها بالمطلق، وهنا نحاول أن نمسك بطرف هذا الخيط الوحيد الذي يمكن السير خلفه، لا بد إذن أن يكون هناك من أصدر تعليمات بالتنفيذ، بل وشارك بقوة في التنفيذ أيضا، فمن يكون هذا الطرف الذي لم يذكر اسمه أحد ممن ادعى أنه يمتلك المعلومات الاستخباراتية، وجميعهم كما أسلفنا لا يتوقع منهم الهزل أمام حادث كهذا، فهل الفاعل مطلوب إخفاؤه مثلا وهذا من الممكن توقعه في الحروب الاستخباراتية، وهنا لا بد من الوقوف أمام أعداء كل من مصر وروسيا فكلتاهما وقع عليها الضرر البالغ، من في أعدائهما يمتلك القدرة على التنفيذ والإرادة أيضا ومهارة النفاذ إلى تلك المنطقة الخطرة من مستوى العمليات الإرهابية.
أحد مرافقي وزير الدفاع الروسي البارزين في زيارته الأخيرة للقاهرة أجاب على أحد الأسئلة بخصوص حادث سقوط الطائرة بإجابة أكثر اقترابا، فهو ذكر للسائل جملة مقتضبة بأن الفاعل كان يوجه رصاصاته إلى قلب العلاقة المصرية الروسية مستهدفا تخريب التعاون بينهما، وهي إجابة لا علاقة لها البتة بتنظيم داعش ولا فرعه في سيناء، وليست ضبابية على الإطلاق إنما هي تتحدث عن دول لديها أهداف تسعى إلى تحقيقها حتى لو بأساليب غير مشروعة، فالدول وحدها هي ما تزن علاقات دولتين ببعضهما البعض، وقد يتقاطع مع مصالحها ما يتم اعتماده من آفاق للتعاون بين كلتا الدولتين، وعندما يضغط هذا التعاون على تلك المصالح بقوة ويبدو قاطعا لطريق مصالح تلك الدول، تقوم الأخيرة باللجوء إلى أجهزة استخباراتها لسؤالها عن الحلول الممكنة والقدرات على الأرض، وحينها بالضبط تبدأ عمل تلك الأجهزة لتقديم حلول، أو تحقيق أهداف يعجز الساسة عن إنجازها، وهي في هذا التحرك إما أن تقوم بالعمل بنفسها ومن خلال عناصرها أو اتصالاتها المباشرة، وإما يمكنها أن تستعين بأجهزة صديقة تمتلك ميزة نوعية في إتمام التنفيذ، كالقرب الجغرافي مثلا أو الارتباط مع عناصر موجودة على مسرح تنفيذ العملية، أو غيرها من إمكانيات تجعل اكتشاف الفاعلين كمطاردة خيوط الدخان.
هذا ما نمتلكه حتى اليوم من صفحات تلك الرواية التي يتسلح أبطالها حتى اليوم بالصمت، وحتى من تكلم منهم فهو لجأ إلى ردود أفعال غير مسبوقة توحي بفداحة وخطورة ما تم، ومساحة تهديده المستقبلي الذي يجعله يتحسب بهذا القدر، روايتنا بالطبع كغيرها مليئة بالأسئلة وتطارد إجابات تحلق في فضاءات الإقليم على اتساعه، وهو فضاء يضم أصدقاء وأعداء، ومثلكم تماما وضعنا الأوراق أمامنا، وننتظر أن يتقدم أحد للإفصاح عن أسماء، فهي فقط (الأسماء) ما نظنه ينقص روايتنا التي تتبعنا أبطالها وسطورها هنا وهناك.
* مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».