{داعش} ليبيا يغير من تكتيكاته ويتوسع في الهلال النفطي

أعاد نشر عناصره من درنة وسرت إلى تخوم طرابلس

{داعش} ليبيا يغير من تكتيكاته ويتوسع في الهلال النفطي
TT

{داعش} ليبيا يغير من تكتيكاته ويتوسع في الهلال النفطي

{داعش} ليبيا يغير من تكتيكاته ويتوسع في الهلال النفطي

أعاد تنظيم داعش في ليبيا نشر عناصره من درنة وسرت، إلى تخوم طرابلس ومصراتة، لكنه يعاني من ضعف الخطاب الديني، ونقص القدرة على الإقناع، في مواجهة القادة المحليين الرافضين له، سواء كانوا مسؤولين تنفيذيين أو شيوخ مساجد من التيار الديني المعتدل، ولهذا كان من بين خططه تصفية مثل هؤلاء القادة والتنكيل بأسرهم، بطرق بشعة، من بينها قتل إمام مسجد قرطبة في سرت وتعليق جثته في الشارع، وسحل آخرين في درنة وبنغازي. وإلى جانب التصفية والذبح لمن يرى قادة التنظيم أنهم منافسون لهم ويقفون ضد طموحاتهم في ليبيا، يقوم مسؤولو التنظيم المتطرف بإغراء الشبان العاطلين عن العمل من أجل الحرب تحت راية التنظيم مقابل أموال لهم ولأسرهم، حتى لو كانوا من العرب والأجانب. وبين حين وآخر تنفذ العناصر الداعشية على حواجز الطرق في سرت عمليات لترهيب المواطنين، ولإثارة الفزع بين الأهالي، من أجل الرضوخ لأوامر التنظيم وعدم التفكير في أي نوع من أنواع المقاومة حتى لو كانت مقاومة سلبية، كما يقول أحد قيادات القبائل في المدينة التي كانت في السابق مقرا مفضلا للقذافي.
وعلى الرغم من المشكلة التي يواجهها تنظيم داعش في ليبيا فيما يتعلق بالخطاب الديني، حيث يفتقر إلى القيادات الفقهية التي لها قدرة على الإقناع والحشد للشبان الليبيين الباحثين عن المستقبل، فإنه تمكن من تنفيذ خمس عمليات كبيرة على الأقل في عدة مواقع في الداخل، وذلك منذ بداية الشهر الماضي حتى مطلع هذا الشهر. وكان الملاحظ، كما يقول العقيد محمد حسين، وهو مسؤول أمني ليبي ممن كانوا يتابعون هذه التطورات، إن غالبية من تقدموا الصفوف لمهاجمة الخصوم، سواء من الجيش أو من الميليشيات المنافسة، دواعش من تونس والسودان ومصر ومن أوروبا.
ولم ينس التنظيم في ليبيا أن يشارك في توجيه تهديدات باستهداف دول غربية أيضا، بينما يواصل محاولاته للاستفادة من تغيير تكتيكاته للتوسع في منطقة الهلال النفطي في هذا البلد المطل على أوروبا والذي تضربه الفوضى، منذ سقوط نظام القذافي أواخر عام 2011. وبدأ «داعش»، بحسب مصادر من الجيش الليبي، يعتمد على ثلاث نقاط للتجنيد وإعادة التوجيه للمقاتلين، للتوسع في سرت التي تتوسط شمال ليبيا، ويوجد فيها مطار ويقع في شرقها نحو 60 في المائة من حقول النفط.
النقطة الأولى تقع في ضواحي شرق مدينة درنة التي يفد إليها المتسللون العرب والأجانب الفارون من سوريا عبر البحر المتوسط والمتسللون الآخرون من الحدود البرية المصرية الليبية، وللانتقال من درنة إلى سرت، خاصة بعد أن تلقى التنظيم ضربات موجعة من خصومه، لا بد من التوجه جنوبا إلى الطريق الصحراوي الذي يصل إلى إجدابيا، ومن هناك يبدأ توزيع العناصر، منها مجموعات تقوم بالتمركز في البوابات التي تحاول خنق إجدابيا والسيطرة عليها، ومجموعات نوعية تعمل على تحويل سرت إلى عاصمة لـ«داعش».
ونقطة الارتكاز الثانية للتجنيد، وفقا للعميد حسين، تقع في مدينة صبراتة، في غرب طرابلس قرب الحدود مع تونس، وتستقبل الشبان التونسيين والجزائريين، وغيرهم من المتسللين من الحدود. ويقول مسؤول أمني ليبي إن شابا تونسيا يدعى صابر هو من يتولى إدارة العملية برمتها في صبراتة، أي أنه يعد المشرف الأول على استقبال المقاتلين وإرسالهم إلى سرت. ويضيف أن صابر يتعاون في تمرير المقاتلين الدواعش إلى سرت مع ميليشيات متطرفة في طرابلس ومصراتة، رغم أن توجهات معظم تلك الميليشيات أقرب إلى تنظيم القاعدة.
وحين ذاك قتل «داعش» سرت عقيدا نظاميا اسمه عطايا أمام بيته في إجدابيا، ورجلا آخر معروفا في سرت يدعى عادل المعداني. وبعد عدة أيام شن هجوما استمر أكثر من أسبوع على رواد المساجد المعتدلة في سرت. ومن المشاهد التي أصابت المواطنين بالرعب، قيامه بتعذيب نحو ثلاثين من شباب المدينة حتى الموت، وسحل جثثهم في الشوارع. وبعد ذلك، كما يقول العقيد حسين، أصدر التنظيم أوامر بحظر مشاهدة قنوات التلفزيون الفضائية ومعاقبة كل من يحتفظ بطبق لاقط لتلك القنوات أعلى سطح بيته. وأعقب هذا إلزام المدارس في سرت بتدريس مواد للتلاميذ عن «طرق قتل المرتدين بالمسدسات».
وبينما يجري بحث تنصيب حكومة وفاق وطني برعاية الأمم المتحدة في مثل هذه الأجواء، وجهت الولايات المتحدة الأميركية قبل أسبوع ضربات حربية جوية لمواقع لـ«داعش» في سرت، لكن لم تحقق نتائج تذكر في كسر شوكة التنظيم وفقا للمصادر. ويسود اعتقاد بين كثير من السياسيين الليبيين، مثل رئيس لجنة العدالة والمصالحة في البرلمان الليبي، إبراهيم عميش، بتعمد دول غربية نشر الفوضى في ليبيا تمهيدا للتدخل من أجل تقسيم البلاد ونهب ثرواتها النفطية، مشيرا إلى أن الوضع الأمني في البلاد ينبغي أن يكون على رأس الأولويات.
وفي مصر التي لها حدود بطول 1150 كيلومترا، مع ليبيا، حذر رئيسها عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مناسبة، من خطر «داعش» على دول الجوار وعلى أوروبا. ويقول الشيخ نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم الجهاد في مصر، إن أميركا لا تحارب الإرهاب في ليبيا ودول المنطقة وإنما ترعاه، معتبرا ذلك «مؤامرة على الدول العربية»، ويوضح: «إنها مؤامرة كبيرة، وإلا من الذي سمح بتواجد ألوف المقاتلين الأجانب في البلدان العربية من العراق وسوريا إلى ليبيا.. انظر إلى الوضع في سرت».
ومع ذلك، لا يمكن أن يوصف «داعش» ليبيا بأنه «تنظيم متماسك» مثل حال «داعش» في العراق وسوريا، لعدة أسباب من بينها تقاطع المصالح بين التنظيم في سرت وباقي الميليشيات المتطرفة في طرابلس وبنغازي ومصراتة، والتي يدعم عدد منها عناصر «داعش» ويسيّر لها المراكب والسيارات المحملة بالسلاح ويتغاضى عن تنقلات عناصر التنظيم بين المدن الليبية.
الصراع بين الميليشيات بما فيها «داعش»، يبدو صراعا على الغنائم ومناطق السيطرة. تبذل مجموعات متطرفة جهودا كبيرة لمنع توسع «داعش» من سرت إلى طرابلس، لكنها تتعاون معها في مناطق أخرى لتحقيق أهداف مشتركة مثل محاربة أي عودة للدولة والسلطة المركزية. على سبيل المثال يعلن ما يسمى بـ«مجلس شورى الثوار في طرابلس» وقوفه ضد تنظيم داعش، بينما تتعاون فصائل في مجلس العاصمة وفي المجلس المماثل في بنغازي مع التنظيم نفسه. هذا التضارب في المواقف يستغله «داعش» في التغلغل داخل مدن جديدة وتنفيذ عمليات في مواقع لم يكن له فيها وجود مثل تفجير البوابة الواقعة على الطريق بين مصراتة وطرابلس الأسبوع الماضي.
أما في درنة فإن مشكلة «داعش» كانت أكبر من أي حل، بسبب انشقاق مجلس ثوار المدينة بين موالين لـ«داعش» ومعارضين لها مؤخرا، ورفع السلاح ضد بعضهم البعض، ما أصاب الكثير من قيادات الميليشيات المتطرفة في المدن المجاورة لدرنة بالارتباك، خاصة تجاه مسألة تعضيد طرف ضد الآخر. وتشترك غالبية قيادات مجالس الثوار في طرابلس وبنغازي ودرنة مع «داعش» في استهداف الجيش الوطني الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر، واستهداف السلطات الشرعية ممثلة في البرلمان والحكومة.
وفي الوقت الحالي يحاول «داعش» تحقيق مكاسب رغم هزيمته في درنة، وذلك عن طريق نقل القيادات والعناصر من هناك إلى سرت بوتيرة أسرع من السابق، وإحياء ميناء سرت لاستقبال المقاتلين الفارين من سوريا، والأسلحة، من البحر، وبحث استغلال المطار الجوي في المدينة لتقوية التنظيم مستقبلا، وفتح مزيد من البلدات المحيطة بسرت.
قبل أيام قليلة كانت ميليشيا من الميليشيات التي يديرها رجل يدعى كاره وتسيطر على جزء من طرابلس، تحاول العمل وفقا لآليات جديدة تريد من ورائها إثبات حسن نواياها أمام الأمم المتحدة والأصدقاء الغربيين. جرى هذا بتوجيهات قادة لديهم طموح في التواجد في أي حكومة توافق مقبلة. مشكلة هذه الميليشيا ومن يقف وراءها أنها كانت تسهل الأمور لـ«داعش» خاصة فيما يتعلق بضغط التنظيم المتطرف على قوات حفتر في بنغازي ودرنة وعلى بعض كتائب مصراتة المعتدلة. لكنها قامت باحتجاز ستة دواعش من سرت، وزجت بهم في سجن يقع في مطار معيتيقة المجاور للعاصمة.
بدأت مفاوضات «داعش» مع ميليشيا طرابلس من أجل إطلاق سراح المحتجزين الستة، بشكل هادئ أولا، إلا أنها وصلت بين اثنين من القياديين هما كاره، و«داعشي» في سرت يدعى أبو عبد الله، إلى طريق مسدود. هنا جهز أبو عبد الله مجموعة من أربعة عناصر كلهم شبان يحملون الجنسية التونسية، وبدأ التنسيق مع أفراد من ميليشيات متطرفة في طرابلس مقابل أجر مالي، للهجوم على سجن معيتيقة وتحرير الدواعش الستة.
ويوضح المسؤول الأمني الليبي أن هذا كان مؤشرا آخر على تغير تكتيكات «داعش»، واعتماده على ترهيب المواطنين والقيادات المعتدلة، وترغيب المتطرفين الآخرين للتعاون مع التنظيم بدفع الأموال لهم، وبث الرعب من خلال توصيل رسائل بأنه أصبح لديه قوة ولديه قدرة على التواجد في كل مكان، انطلاقا من سرت، بما في ذلك الوصول للعاصمة وللطريق الحيوي الرابط بين طرابلس ومصراتة التي تعد من المدن التجارية والصناعية الكبرى، وتحتفظ بمخزون ضخم من أسلحة الجيش الليبي.
بعد نجاح مجموعة أبو عبد الله ومن معه من تونسيين في الوصول إلى طرابلس، وإقامتهم ليلة في عدة غرف داخل معسكر اسمه «التوحيد» تابع لقيادي متشدد في طرابلس يدعى القباطي، هجمت قوات تابعة لكاره على الموقع واعتقلت اثنين، بينما فر أبو عبد الله وباقي المجموعة. وبعد أن جرى انتزاع الاعترافات من الشابين بدأت القوات تبحث عن القباطي، إلى أن وجدته في ميدان الفرناج، وهو أحد ميادين العاصمة القريبة من منطقة يبدو أنها غنية بالخلايا النائمة للدواعش. وبعد تبادل لإطلاق النار، قتل القباطي.
مكاسب «داعش»
ووفقا للمصادر الأمنية الليبية فإن «داعش»، ورغم مقتل أحد قيادييه والقبض على آخرين، فإنه حقق مكاسب حين جرى الإعلان عن هذه المحاولة الفاشلة لتحرير السجناء الستة. وأشار إلى أنه، ولأول مرة، تظهر عناصر موالية لـ«داعش» في شوارع العاصمة علانية وتقوم بغلق منطقة الفرناج السكنية بالمتاريس، بينما يتوعد قادتها في سرت بالانتقام لأنصار التنظيم في العاصمة.. «هذا متغير جديد لا بد من وضعه في الاعتبار. (داعش) يريد القول إنه يضرب في كل مكان وقادر على المنافسة في طرابلس أيضا».
من بين قيادات «داعش» التي نقلت رجلها من سرت ووضعتها في طرابلس في الفترة الأخيرة رجل يدعى الدكتور محمود من أصول تعود للمنطقة الشرقية في ليبيا. كان من بين من قدموا تسهيلات لمجموعة أبو عبد الله التي وصلت للعاصمة بسيارة دفع رباعي، ومما قدمه الدكتور محمود خمس بنادق كلاشنيكوف ومادة «تي إن تي» شديدة الانفجار لتنفيذ مداهمة سجن معيتيقة.
وداخل غرفة تحقيق تابعة للميليشيات المتطرفة التي يشرف عليها كاره، بدأ الترويج لمقولة بأن هذه الميليشيا تحارب تنظيم داعش وتمنعه من استهداف السفارات الأجنبية في العاصمة، رغم أن الغالبية العظمى من هذه السفارات أغلقت أبوابها منذ نحو سنة. ومن ضمن من جرى التحقيق معهم من مجموعة أبو عبد الله شاب تونسي يبلغ من العمر 17 سنة. تفيد أقواله بأن قادة التنظيم في سرت يقدمون وعودا بمنح أجور مالية للمقاتلين وإعانات للأسر لمن ينضمون له، حتى لو كانوا من الأجانب. ويبلغ الراتب الشهري في المتوسط ألف دولار، ويتحدد بنوع المهام القتالية المطلوبة. وتمكن سوداني من ادخار نحو 12 ألف دولار من «داعش» في سرت، لكنه حين حاول الشهر الماضي العودة بهذا المبلغ إلى بلاده، جرى توقيفه من قبل التنظيم على حدود سرت مع إجدابيا، واتهامه بالفرار من أرض المعركة وجرى إطلاق الرصاص عليه ومصادرة ما كان معه. ووفقا للمصادر التي تابعت القضية كان السوداني في طريقه للتسلل عبر الحدود مع مصر ومنها يتوجه إلى السودان، لكن أحلامه ماتت معه.
ومثل مئات ممن التحقوا بداعش سرت حديثا، فقد انطلق الشاب التونسي أبو إسلام الذي جرى القبض عليه في عملية معيتيقة، من مدينة بن جردان التونسية قبل أن يتمكن من الوصول إلى مدينة صبراتة الليبية وهي من المدن التي تعج بالمتطرفين وكان يقيم فيها القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة مختار بلمختار. ومن هناك جرى الدفع بالشاب إلى سرت للالتحاق بالميليشيات المتطرفة ليجد نفسه في نهاية المطاف أحد مقاتلي «داعش». وقال للمحققين في طرابلس إن التنظيم وعده براتب ألف دولار في الشهر لكنه لم يكن قد أمسك في يده أي أموال من راتبه بعد.
عصابات تعمل للكسب
يقول العقيد حسين، إن الواقعة تؤشر إلى أن التنظيمات التي ترفع شعار تطبيق الشريعة وإقامة الخلافة، مجرد عصابات تعمل من أجل كسب النفوذ والأرض لكي يحقق قادتها أغراضا خاصة. ويضيف أن مجموعات الدواعش التي ترفع الراية السوداء في سرت تريد أن تستولي على حقول النفط وتحقيق مكاسب.. «تريد تكرار تجربة بيع النفط في السوق السوداء كما حدث في العراق وسوريا».
وبينما يشدد الشيخ نعيم على أن الجهات التي تستفيد من بيع البترول الليبي بأبخس الأسعار هي التي تقف وراء استمرار نشر الفوضى وتقوية «داعش» واستنزاف ثروات هذا البلد الغني، يشير الضابط حسين إلى أن بعض قادة الميليشيات في طرابلس والتي تزعم أنها تقف ضد «داعش»، لديهم علاقات مع سماسرة ولديهم جاهزية للاتجار في كل شيء، من النفط إلى تهريب البشر لأوروبا.. «كثير من قادة الميليشيات في المدن الواقعة على البحر مثل زوَّارة ومصراتة.. هم يتعاونون معه ويتنافسون معه أيضا على أماكن البترول وعلى نقاط المرور الحدودية، خاصة مع تونس ومع الجزائر وفي الجنوب مع تشاد والنيجر».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.