مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

{الشرق الأوسط} تخترق مدارس التنظيم.. والمعلمون: غارقون مع «أشبال الخلافة»

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية
TT

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

مناهج «داعش»: لياقة بدنية.. وغياب العلوم التطبيقية

يجلس طلاب المدارس في مدينتي الرقة والموصل القابعتين تحت سيطرة «داعش» على ذات المقاعد الخشبية داخل صفوف كانت يوما تخرج أفواجا من الأطباء والمحامين والمهندسين. لكن هذه المؤسسات التعليمية أضحت اليوم بعدما استحوذ عليها التنظيم المتطرف، بؤرا لتخريج «أشبال الخلافة». الوصول إلى البؤر هذه تطلب محاولات عدة للتواصل والحوار مع مصادر موثوقة لنتلمس الحياة اليومية لمجتمع قابع تحت سيطرة التنظيم، وذلك للتمكن من دراسة حقيقة مناهج «داعش » في المؤسسات التعليمية التي يديرها بكل من الرقة والموصل. واستطاعت «الشرق الأوسط » التواصل مع من مدرسين وأولياء أمور الطلبة في تلك المدارس. ومن خلال شهادات عدة، نتعمق في تداعيات «التربية الداعشية» من ردود فعل وتمرد، لنستخلص الأسباب الحقيقية وراء تركيز التنظيم المتطرف على غسل أدمغة الطلاب. ومن خلال شهادات حية من صحافي من الرقة، وتوصيات متحدث عن حملة «الرقة تذبح بصمت»، نكشف مخاطر زرع آيديولوجيا التطرف في عقول الأطفال وكيفية إيقافها.
أصدر «داعش» العام الماضي تعميما في معاقله بسوريا والعراق ينص على إلغاء مناهج من المواد المقررة من قبل الحكومتين السورية والعراقية، وفرض مناهج خاصة به. وفي الوقت الذي يجبر الطلاب على اجتياز سنة دراسية ثانية تحت حكم التنظيم، تزداد التساؤلات حول تأثير تلك المناهج المعدلة على الأجيال اليانعة لتصبح التغيرات على نظام التعليم حقيقة، تلُح مخاطبة عواقبها. ويقول طاهر مقرش، المنسق العام لوكالة «قاسيون» للأنباء وهو سوري من الرقة ومقيم الآن في غازي عنتاب التركية وعلى تواصل دائم بأهالي الرقة إن «هنالك حالات كثيرة ناتجة عن ارتياد مدارس التنظيم آلت إلى تجنيد الطلبة»، إذ «حملوا السلاح والتحقوا بمعسكرات التنظيم». ويذكر مقرش جارا له التحق ابنه (11عاما) بصفوف التنظيم ولاقى حتفه. وآخر عمره 10 سنوات التحق وأصيب وهو الآن مصاب بعاهة دائمة بمنزل والده. ومن جانبهم، أكد مدرسو مناهج التنظيم وأولياء أمور الطلبة الذين أضحوا اليوم «أشبال الخلافة» في تصريحات لـ«الشرق الأوسط » على أن المواد تقود لغسل أدمغة الطلاب وتغيير سلوكهم. كما أشاروا إلى التشديدات والرقابة التي يفرضها التنظيم حرصا على منع تسريب مناهج أخرى وتعليمها للطلاب.
وكان جاء في البيان الصادر عن «ديوان التعليم» لدى التنظيم قرار إلغاء بعض المواد منها الموسيقى والفن والتربية الوطنية والعلوم التطبيقية، وإضافة مواد أخرى بدلا عنها كالفقه والتوحيد و«التربية الجهادية». وحمل التعميم بالإضافة إلى ختم التنظيم، توقيع كل من مسؤول المناهج «أبو رامي»، ومسؤول ديوان التعليم «ذو القرنين». وهو ألماني الجنسية من أصول مصرية غادر ألمانيا ملتحقًا بـ«داعش» ليشغل هذا المنصب بالذات. اتخذ ذو القرنين مقرا له في الموصل ويعد المشرف الأول على لجنة وضع المناهج.
استغرق إطلاق مناهج جديدة متكاملة وقتا طويلا. وفي بادئ الأمر، لم يكن من المتوقع أن يطرح التنظيم مناهج للمراحل الدراسية توافق فكر وطرح التنظيم الآيديولوجي، إلا أن ذلك سرعان ما تغير. وبعد انتظار دام أكثر من عام على وعود بتغيير المناهج بدأت تظهر تسريبات عن مناهج «داعش» وكان الأمر دون وقائع حتى بداية العام الدراسي الحالي، حيث لم يستطع التنظيم طباعة الكتب للطلاب، لذلك قام بطباعة الكتب على أقراص مدمجة وتوزيعها للطلبة وهم بدورهم يقومون بعملية الطباعة. خلقت هذه الخطوة حالة من الاستهجان في أوساط الطلبة، ولكنها كانت طريقة جيدة لتسريب المناهج إلى الخارج.
في كتاب مفصل بعنوان «الموصل بين احتلالين» تم نشره وتناقله عبر الإنترنت الشهر الماضي، تحدث أحد سكان المدينة التي تقع تحت سيطرة تنظيم داعش عن الحياة فيها منذ احتلالها على يد القوات الأميركية عام 2003 ووقوعها في قبضة التنظيم عام 2014. واستعرض الكتاب توجهات «داعش» في مجال التعليم في المدينة، إذ أورد تعليمات التنظيم الجديدة التي نشرت في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 التي شملت منع وضع أسئلة تتعلق بالوطنية أو بالمعاملات الربوية، والحوادث التاريخية المزيفة - حسب وصف «داعش» - والمواقع الجغرافية والحدود (المصطنعة)، كما اعتبرها. ويروي الكتاب عن الواقع التعليمي في مدينة الموصل، إذ تم تأسيس ديوان التعليم لإدارة العملية التعليمية في المدينة، الذي يرتبط به كل من جامعة الموصل، وكذلك مديرية تربية نينوى وتوابعها المسؤولة عن تعليم مئات الآلاف من التلاميذ والطلبة. ويحاول التنظيم جاهدا لتدريس مناهج جديدة تتضمن أفكاره.
قبل إعداد المناهج أصدر «داعش» تعليمات للمدارس والكادر التعليمي يفرض فيها دورات شرعية بغرض تثقيف المدرسين بما يطلبه التنظيم منهم في تعليم الطلاب في المدارس. وفي وقت لاحق، أعلن ديوان التعليم حاجته لموظفين بسبب إعفاء موظفين من مناصبهم وتعيين آخرين بدلاً عنهم من مدرسين يتم إخضاعهم لدورات سريعة قبل بدايتهم العمل في المدارس التي يسيطر عليها التنظيم. ولكن قبل ذلك يجب «استتابة» كل المعلمين على حدّ وصف مسؤول ديوان التعليم في إصدار تم توزيعه على المعلمين تحت اسم «التعليم في ظل الخلافة». وأشار الإصدار إلى أنه يمنع على أي معلم إعطاء دروس خاصة وإلا كانت عقوبته الإعدام، وفي حال اكتشف التنظيم وجود معهد يقوم بإعطاء دورات خاصة للطلاب، فإنه سيتم تغريمه بمبلغ قدره نصف مليون ليرة سورية.
وفي حديث أجرته «الشرق الأوسط» مع معلمين بمدارس «داعش» في مدينة الرقة السورية رفضوا الكشف عن هويتهم حماية لهم، أكدوا أن «تعاليم الشريعة المستوحاة من القرآن والتركيز على أهمية (الجهاد) هما محط تركيز مناهج التنظيم». وقالوا إن المواد التي يتم التركيز عليها في المدارس هي «اللغة العربية والفقه والتربية الإسلامية واللياقة البدنية»، مشيرين إلى أن «مادة الرياضيات باتت أقل أهمية مقارنة بالمواد المذكورة». وحول أهمية مادة اللياقة البدنية للتنظيم، يقول مقرش إنها «تعلم الأطفال فنون القتال واستعمال السلاح وتحاول إيجاد حالة ربط ما بين الطفل والسلاح والقتل».
وحول دقة وصحة معلومات المناهج، يقول المعلمون إن «الفقه والتربية الإسلامية منتقاة بعناية شديدة، حيث اختار التنظيم المواضيع التي تتناسب مع أفكار مؤسسيه ونبذ كثير من المواضيع التي تدين أعماله». كما كشفوا أنه يتم فصل الطلاب والطالبات لكل الفئات العمرية، وكذلك المعلمات على الإناث والمعلمين على الذكور ويمنع الاختلاط منعا باتا. وفي مدارس البنات التي لا يوجد فيها كادر من المعلمات كاف يكون هنالك حاجز وستار فاصل بين المعلم والطالبات.
وعند التحدث مع أهالي الطلبة بمدارس «داعش» في الرقة حول شعورهم إزاء المناهج الجديدة، قالوا لـ«الشرق الأوسط»، طالبين عدم الكشف عن هويتهم، إن «الغريق يتعلق بقشة، وإن يتعلم أبناؤنا شيئا قليلا خير من بقائهم يتخبطون بجهلهم، ولكن رغم ذلك فنحن نحاول نزع كثير من الأفكار من عقول أبنائنا». أما البعض الآخر فقال إن، «المناهج هي أبعد ما يكون عن التعليم، حتى مادة الرياضيات يتم تعليم الطفل الجمع خلالها عن طريق البنادق». واستطردوا موضحين أن، «العملية التعليمية للفتيات تكون من أجل تربية زوجات لمقاتلي التنظيم، حيث تعمل المعلمات على محاولة إقناع تلك الفتيات بالزواج من المقاتلين». وتتضمن الواجبات البيتية، بحسب أولياء الأمور، حفظ آيات من القرآن والأحاديث النبوية إلى جانب الكتيبات توزع أمام الجوامع، بالإضافة إلى خلق خاصية المجادلة لدى هؤلاء الأطفال حول مواضيع دينية معينة.
15 سنة كفيلة بأن يلتحق الطلاب بجامعات التنظيم، حيث أصدر تعليماته بتقليص سنوات الدراسة لتكون 9 سنوات بدل 12 سنة. وبحسب مراقبين، افتتح «داعش» كلية طب في مقر «نقابة المهندسين» بالرّقة، وتمكن من استقطاب عدد كبير من الشبان الذين تقدموا إلى امتحان القبول في كليتي الطب وفشلوا في تجاوزه، وأغلبهم ممن عملوا في المشافي الميدانية واكتسبوا خبرات في مجال الإسعافات الأولية ونقل الجرحى.
أكدت إحصائيات استخلصها موقع «الهافنغتون بوست» الأسبوع الماضي في مدينة الموصل والرقة أن مدرسة واحدة من بين 3 مدارس لا تزال تعمل. كما كشفت الإحصائيات أن نسبة المدارس التي يديرها التنظيم ولا تزال تعمل تصل إلى نحو 35 في المائة، وهذا يعكس حجم الإقبال الضعيف من الطلاب وعدم وجود كوادر تعليمية أيضًا، إضافة لعدم اعتراف العالم بشهادات تلك المدارس وضعف المادة العلمية، كما أن خوف الأهالي من تجنيد الأبناء دفعهم لمنعهم من الذهاب للمدارس.
ابتعد المعلمون بشكل عام عن التنظيم ومدارسه، لأن من يرغب بالتدريس أجرى له «داعش» دورة شرعية مطولة تم خلالها إفهام المعلمين فكره ونهجه. والذين ارتضوا التعليم بمدارسه أغلبهم بات متفقا مع تلك المناهج. وحول ذلك، يقول المدرسون الذين أجبروا على الالتحاق بمدارس التنظيم إنه لولا حاجتهم للراتب الذي يتقاضونه لإطعام أولادهم، لما اضطروا لتدريس مناهج «داعش» التي لا تتناسب مع قيمهم. وقال المدرسون إن الرقابة شديدة جدا على المدارس وداخل الصفوف؛ لأنها تدار من قبل مديرية التعليم التابعة بصورة مباشرة للتنظيم. والكادر الإداري من موجهين وجهاز إداري هم عناصر من التنظيم.
وبين المعلمين والأهالي، ليس هنالك حيز للمقاومة أو التمرد لأن «داعش» زرع الرعب في قلوب الجميع، والذبح عقوبة من يقف في وجهه. ويلحق عناصر التنظيم ومبايعوه أبناءهم بتلك المدارس. وتقتصر مشاهد التمرد في الرقة والموصل بين مناهضي «داعش» على إرسال الطلاب لمدارس بديلة في تركيا أو إلى تدريس الأطفال في المنزل سريا. ويوضح الصحافي والمخرج السوري طاهر مقرش بقوله: «في الوقت الراهن، حالة التمرد الوحيدة هي عدم إرسال الأطفال لمدارس التنظيم». ويضيف، «لكن التنظيم يمارس ضغوطا على العوائل التي تتلقى مساعدات منه ومن مقاتليه، وعلى الفقراء المسجلين بديوان الزكاة من أجل إرسال أولادهم للمدارس، مقابل ذلك».
يرى ناشطون في مجال التعليم وحقوق الطفل أن هناك بوادر كارثية مستقبلاً في التعليم في المدن التي تقبع تحت تنظيم داعش، وذلك لحجم التسرب من المدارس والضعف في المواد وعدم وجود محفزات لدفع الأهالي لإرسال أولادهم للمدارس خوفًا من التجنيد، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول حجم الأمية التي ستكون في بلدين بحجم العراق وسوريا. وحول تأثير التغيير في المناهج على الطلاب ونفسياتهم جراء التحاقهم بمدارس التنظيم، قال المعلمون إن «(داعش) يحاول إعداد ما يسميه بـ(أشبال الخلافة) ويبني جيلا متطرفا وفق معتقداته». فالطلاب الذين يدرسون بهذه المدارس يتأثرون كثيرًا بأسلوب التعليم الذي يجعل الطفل أحد عناصر التنظيم. فالمدارس هي مراكز دعوية ومراكز تجنيد لهؤلاء الطلاب بصورة مباشرة. والمنخرطون بها هم من الأهالي القريبين من التنظيم والمناصرين له. ويؤكد على ذلك أولياء أمور الطلبة؛ إذ ينوهون بتغيير في تفكير وسلوك أبنائهم وأنهم «أصبحوا يتمتعون بالعنف وأفكارهم بدأت تتلون بالسواد». كما يقول أحد الأهالي، «بت أخشى من ولدي بسبب موضوع عدم ذهابي إلى الصلاة في المسجد، ولم أعد أستطيع الضغط عليه أو التكلم أمامه عن التنظيم وفكره المنحرف، بل لم أعد قادرًا على منعه من الذهاب».
إلى ذلك، يشرح أبو محمد، أحد مؤسسي حملة «الرقة تُذبح بصمت» الخطوات التي اتخذتها الحملة لمقاومة مناهج «داعش» منذ بدء العام الدراسي بقوله: «حاولنا بشتى الطرق توعية الأهالي بخطورة هذه الخطوة، خصوصا أن الأطفال يتعلمون فقط منهج التكفير وقتل الشخص الآخر». ويستطرد بقوله: «قمنا بنشر منشورات توعوية وبعض الأعمال المدنية كالكتابة على الجدران لمحاولة إيصال الصورة الحقيقية لمناهج التنظيم، ونشرنا مجلة موجهة للأطفال تحتوي على رسوم كاريكاتورية للمحاولة لإيصال الفكرة للأطفال بطريقة تناسبهم». ويكشف أن الحملة قامت بدورها أيضا، «بشرح بعض المواد ومدى خطورتها، وطرحنا أمثلة كثيرة كان آخرها الأطفال السوريين الذين يفجرون أنفسهم في العراق، ومقتل عدد من الأطفال في أحد المعسكرات بعد قصف الطيران الحربي».
ويشدد أبو محمد أخيرا على أن تدريس هذه المواد سيكون له أثر خطير جدا على الطلبة لأن التنظيم يعمل بشكل جدي على تحويل جيل كامل إلى جيل إرهابي، ليكون مكملا لطريق التطرف في حال انتهى التنظيم. فالقضية بالأساس أن «داعش» والمجموعات المتطرفة الأخرى ليست عبارة عن مجموعة فقط، وإنما هي فكرة قد تدرس وتغذى بغسل الأدمغة، فالفكرة لا تموت بالسلاح والطيران فحسب، بل بالتوعية ومحاربة آيديولوجية التطرف.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».