جون ديوي.. البراغماتية كتحرر فكري

آمن أن من واجب المفكر وصل العلاقة بين أفكاره وواقعه

جون ديوي
جون ديوي
TT

جون ديوي.. البراغماتية كتحرر فكري

جون ديوي
جون ديوي

جون ديوي (1859 - 1952) هو أحد أهم فلاسفة النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على أكثر من صعيد. على المستوى الفلسفي البحت كان ديوي أحد مؤسسي البراغماتية الأميركية التي أتت كفلسفة ناقدة للفلسفة الأوروبية في القرن السابع والثامن عشر. على الصعيد التربوي يعد ديوي المؤسس الحقيقي لفلسفة التربية لاعتبار أساسي وهو أنه لم يعدَّ التربية مجالا لتطبيق نظرياته الفلسفية بقدر ما كانت التربية هي التجربة والخبرة التي تصاغ داخلها الرؤى والأطروحات الفلسفية. على الصعيد الاجتماعي والسياسي كان ديوي فيلسوف رأي عام يكتب في الصحف ويناقش القضايا الاجتماعية والسياسية ويعتقد أن من واجب المفكر وصل العلاقة بين أفكاره والواقع الذي يعيشه. ستكون هذه المقالة عبارة عن لمحة سريعة على الجانب الفلسفي عند جون ديوي.
كفيلسوف براغماتي يقدم ديوي مفهوما مختلفا عن الحقيقة باعتبار أن الحقيقة هي الفكرة النافعة لا سواها. الفكرة النافعة هنا تعني الفكرة التي تجيب على سؤال لدى الإنسان وتحل المشكلة التي تواجهه. على سبيل المثال الفكرة الحقيقية في الرياضيات هي الفكرة التي تقدم حلا لسؤال رياضي. الفكرة التي لا تقدم حلا تدخل عند ديوي ضمن المعرفة التي تشمل التجارب الناجحة والفاشلة ولكن الحقيقة مخصصة فقط للأفكار التي أثبتت الخبرة نجاحها. عند ديوي هذا هو التفكير العلمي. التفكير الذي يربط مباشرة بين الفكر والعمل ويحاكم الأفكار بحسب قدرتها على الإنتاج.
في كتابه «إعادة البناء في الفلسفة» يرى ديوي أن الفلسفة ضلت الطريق حين فصل الفكر عن التجربة العملية. الأفكار المتعالية الترانسندنتالية التي يدعي أصحابها أنها متعالية على الاختبار العملي تعد إعاقة وقيدا للتفكير الفلسفي. مع هذه الأفكار بحسب ديوي يفقد الفيلسوف الحرية في الحكم والنقد باعتبار أن هذه الأفكار تقدم وكأنها خارجة عن أي فضاء للاختبار. الحجة المقابلة لدعوى ديوي هنا أن الأفكار التي لا يمكن اختبارها تجريبيا يجري التحقق منها عقليا. هنا يعود ديوي إلى مشكلة أعمق في التراث الفلسفي وهي فصل العقلي عن التجريبي وكأن العقل بمنطقه وأفكاره لم يكن منتجا من منتجات الخبرة البشرية. هنا يعود ديوي أيضا ليؤسس المنطق على مفهوم الخبرة والتجربة.
التفكير المنطقي لا يبتعد كثيرا عن السلوك الطبيعي للإنسان في حياته المباشرة. التعلم بالتجربة، بالمحاولة والخطأ، هو السلوك الذي يقوم به الطفل وهو المنطق الذي يتحرك داخله العالم. العالم كالطفل حين يقوم بتجربة فكرة ما ليحكم على صلاحيتها من خلال نفعها. الطفل مثلا يحاول طرقا كثيرة لفتح الباب. الطريقة التي تنجح هي التي يحتفظ بها ويترك الطرق التي فشلت. في المرة اللاحقة لا يعيد الطفل المهمة ذاتها بل يستعمل الفكرة النافعة السابقة وإذا لم تساعده باعتباره أمام باب مختلف فإنه يبحث عن فكرة جديدة وهكذا. يقول ديوي إن ما نفعله في التراث الفلسفي مع دعاوى الأفكار المتعالية هو القيام بإعاقة التفكير الطبيعي. بمعنى أننا نفعل كما لو طلبنا من الطفل أن يتبنى طريقة متعالية لفتح الباب رغم أن التجربة تثبت فشلها باعتبار أن هذه الطريقة متعالية وغير قابلة للاختبار. الفلسفة الأخلاقية نموذج لهذه المعضلة.
الأخلاق بطبيعتها عملية، بمعنى أنها قواعد للتعامل بين البشر. هل يمكن تأسيس الأخلاق العملية على تصورات لا يمكن اختبارها عمليا؟ هذا السؤال الذي يطرحه ديوي على التراث الأخلاقي ويعتقد أن البشر وإن نجحوا في استخدام التفكير العلمي في مجالات عدة إلا أنهم لا يزالون مترددين في تطبيقه على الأخلاق.
بحسب ديوي الأخلاق يجب أن تخضع أيضا للاختبار والتمحيص وما يثبت منها عدم نفعه يجب التخلص منه. هنا تتحول الأخلاق من علم جامد إلى علم متحرك يترافق مع تطور تجربة الإنسان واتساع معارفه وخبرته في الحياة. هنا تدخل البراغماتية منطقة من أكثر المناطق حساسية، مما أدى إلى تشكل صورة نمطية عنها باعتبارها عدم الالتزام بأي مبدأ والتحرك فقط لتحقيق المصلحة. البراغماتية هنا يفهم في التداول الشعبي رديفة للأنانية. يرفض ديوي هذا الفهم باعتبار أن الأخلاق لا يمكن تأسيسها من منطلق فردي باعتبار أنها علاقة بين أطراف متعددة. الإنسان في البراغماتية كائن اجتماعي ويجب أن تفهم فردانيته داخل العلاقات الاجتماعية التي ينشأ فيها. الحديث عن الإنسان خارج علاقاته الاجتماعية هو حديث عن الإنسان خارج تجربة حياته العملية وهو المبدأ الذي ترفضه البراغماتية. بهذا الشكل إذا كانت الأخلاق اجتماعية بطبعها فإنه لا يمكن تأسيسها على النفع الفردي الضيق بقدر ما تتأسس على حسبة فردية اجتماعية للمنظومة الأخلاقية ومدى قدرتها على تقديم نفع للمجتمع والفرد والإنسانية. الأفكار الأخلاقية غير النافعة يجب التخلص منها وهذا كان أحد الاعتراضات التي قدمها ديوي على الأخلاق الدينية باعتبارها تريد فرض قيم أخلاقية معينة بغض النظر عن نتائج وثمار وآثار تطبيق تلك المبادئ.
بهذه الطريقة يتم قطع الدائرة الطبيعية للتفكير التي تنطلق من مشكلة - مقترحات - تجريب للمقترحات - الناجح من المقترحات هو الصحيح حتى نواجه مشكلة أخرى وهكذا. إذا لم تكن الأفكار الأخلاقية من ناحية المبدأ خاضعة للتجريب والاختبار فإننا سنصل مباشرة إلى وجود قواعد أخلاقية غير نافعة ولا يمكن التخلص منها، وهنا تتحقق الإعاقة الكبرى للتفكير الطبيعي عند الإنسان. هنا تتوقف إنتاجيته وقدرته على التعلم والتعليم. الأفكار المتعالية على التجربة تقفل باب الحرية والإمكان المستقبلي أمام الأفراد والمجتمعات.
البراغماتية هنا كما يقدمها ديوي هي محاولة لإعادة الأفكار لتكون أدوات في متناول الإنسان بدلا من أن يكون هو أداة في متناولها. الأفكار مع الزمن تكتسب قيما اجتماعية تجعلها أقوى من اختبار الواقع. البراغماتية هنا اعتراض على هذه الصورة ومحاولة لفتح نافذة تحرر من قيد التقليد.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.