واشنطن تختبر ثقتها بالأكراد في استعادة الرقة

في سياق المعركة الموعودة ضد «داعش»

واشنطن تختبر ثقتها بالأكراد في استعادة الرقة
TT

واشنطن تختبر ثقتها بالأكراد في استعادة الرقة

واشنطن تختبر ثقتها بالأكراد في استعادة الرقة

لعبت الميليشيات الكردية بتوجيه من «وحدات حماية الشعب» (YPG) دورا كبيرا في المعارك ضد تنظيم داعش في سوريا. ومع نهاية برنامج التدريب والتجهيز - الذي كان يهدف إلى تدريب المقاتلين العرب السوريين المعتدلين - يبدو أن الولايات المتحدة باتت تعوِّل على الأكراد لدفع التنظيم المتطرف خارج المناطق السورية التي يسيطر عليها. أضف إلى أنه في الشهر الماضي، أعلنت «القوات الديمقراطية السورية»، وهي فصيل كردي - عربي شُكِّل حديثا لمقاتلة «داعش» حصرا، عن بداية هجوم ضد التنظيم في جنوب محافظة الحسكة. وفي الوقت الذي قد يُنتج فيه الرهان الأميركي ثماره في المناطق الحدودية الكردية، يبدو أن تكراره لن يكون سهلا في معظم المناطق العربية، وتحديدا في مدينة الرقة، عاصمة المنظمة الإرهابية المتطرفة داخل أراضي سوريا.
كانت الولايات المتحدة قد أعلنت في أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن نهاية برنامج التدريب والتجهيز البالغة قيمته 500 مليون دولار أميركي، والمخصّص لقوات «الجيش السوري الحر». وكان المفترض حسب البرنامج أن يتم تدريب نحو خمسة آلاف من المقاتلين، ولكن لم ينجح البرنامج إلا في تخريج حفنة صغيرة، كما أنه فقد مصداقيته بعدما سلم بعض عناصره أسلحتهم إلى «جبهة النصرة»، ذراع تنظيم «القاعدة» في سوريا.
بالتزامن مع ذلك، جرى الإعلان عن إنشاء الفصيل السوري الجديد المعروف بـ«القوات الديمقراطية السورية»، الأمر الذي قد يمهد الطريق لهجوم محتمل هذا الشتاء على مدينة الرقة، وفقا لمصادر عسكرية سورية. وزُعم أن الفصيل الجديد يهدف لإعادة تجميع صفوف المقاتلين الأكراد والعرب العاملين تحت تسمية «التحالف العربي السوري»، وأنه سوف يتلقى دعما عسكريا أميركيا وفق ما ورد على لسان بعض المسؤولين الأميركيين.
ووفقا لموقع «سوريا على طول» (Syria direct)، انضمت إلى «القوات الديمقراطية السورية» مجموعة تتكون من 15 فصيلا عسكريا في محافظتي إدلب وحلب بشمال سوريا في منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وكانت هذه الفصائل، التي ضمت مقاتلين من العرب وكتائب «الجيش السوري الحر» والميليشيا الكردية، قد أعلنت استعدادها الكامل للمحاربة في حلب وإدلب تحت لواء «القوات الديمقراطية السورية».
وتأتي هذه الخطوة في أعقاب إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تسليم 50 طنا من الذخيرة لمسلحي المعارضة السورية من العرب الذين يشكلون الفصيل الجديد، والذين يتألفون وفقا لراشد صطوف - وهو عضو سابق في «بركان الفرات» وعضو في «التيار الوطني» (الذي تحدث مع «الشرق الأوسط» من تركيا) - من أعضاء في غرف عمليات «بركان الفرات» (الذي يضم أكرادا وعربا مثل لواء ثوار الرقة)، و«جيش الثوار» (الذي يضم قبائل منطقة تل الأبيض الحدودية بشمال محافظة الرقة)، وقوات «الصناديد» (التي تمثل قبائل شمّر)، وألوية الجزيرة في «الجيش السوري الحر»، فضلا عن عناصر من مختلف المناطق بما في ذلك محافظة دير الزور.

القيادة كردية.. مع مكوّن عربي

وفي هذا السياق، يقول فيصل عيتاني، الزميل المقيم في المجلس الأطلسي بالعاصمة الأميركية واشنطن، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، إن استراتيجية الولايات المتحدة تسير في اتجاه تأليف قوة مضادة لـ«داعش» بقيادة كردية مع إدخال مكوّن عربي عليها، والتي ستستهدف أساسا مدينة الرقة وضواحيها الموجودة تحت قبضة «داعش».
وللعلم، تقع المناطق الكردية بشمال سوريا راهنا تحت سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي تأسس في عام 2003، وفق ما ورد في مذكرة صادرة عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى». وتعتبر هذه المجموعة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK). وفي يونيو (حزيران) 2012، بدأت ميليشيا «وحدات حماية الشعب» (YPG)، وهي مجموعة شبه عسكرية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، بالسيطرة على أجزاء من شمال سوريا. وخلال الشهر التالي، سقطت أجزاء كبيرة من بلدات عين العرب (كوباني) وعفرين وعامودا والمالكية في شمال سوريا في تعاقب سريع بيد الأكراد خلال اشتباكات محدودة ضد قوات النظام، وفقا للتقرير نفسه.
ويعتبر فلاديمير فان ولغنبرغ، الخبير في مؤسسة «جيمس تاون»، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أن الأكراد «ما زالوا يشكلون الغالبية العظمى من (القوات الديمقراطية السورية)»، معلنا بناء على مقابلة أجراها أخيرا مع إدريس نيسان، وهو مسؤول كردي في شمال سوريا، عن وجود نحو 20 ألفا من المقاتلين الأكراد في هذا الفصيل، في حين يتراوح عدد المقاتلين العرب بين 3 و5 آلاف مقاتل.
ويضيف فان ولغنبرغ أنه «لا بد من التفريق بين العرب الملتحقين بحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، والفصائل العربية المتحالفة مع هذا الأخير داخل (القوات الديمقراطية السورية)، بما أن المجموعة الأولى تخضع لتدريب جيد ومنظم». ويؤيد صطوف هذا الرأي، موضحا أنه من أصل بضعة آلاف من العرب الذين يحاربون خارج حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) إلى جانب «القوى الديمقراطية السورية»، مئات منهم فقط حصلوا على تدريب وتم تجهيزهم بشكل مواتٍ. ثم إن معظم الأسلحة المتوافرة بين أيدي «القوات الديمقراطية السورية» أسلحة روسية خفيفة قديمة الصنع من نوع «كلاشنيكوف»، بينما تقتصر الأسلحة الأميركية المتطوّرة على مستوى القادة، وهذه الأسلحة الأميركية الصنع إما اشتريت من السوق السوداء العراقية أو جرى الاستيلاء عليها من «داعش»، وفقا لفان ولغنبرغ.
أما الباحث سنان حتاحت، من مركز عمران للدراسات، فاعتبر خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن دور المجموعات الـ15 في محافظتي إدلب وحلب يبقى محدودا، وأعدادها ليست بكبيرة.
من ناحية ثانية، لا بد من الإشارة إلى المحاولات الكردية لتعزيز وجودها العسكري وأيضا إحكام سيطرتها على مناطقها. إذ أعلن الأكراد السوريون خلال أكتوبر الماضي «الحكم المستقل» في بلدة تل أبيض (العربية) الواقعة على الحدود مع تركيا. وأسهمت في تحقيق هذه المكاسب الميدانية الهجمات الكردية الناجحة ضد «داعش» التي أدت إلى دحر التنظيم المتطرف من أجزاء كبيرة من الأراضي.
من ناحية أخرى، وفقا لتقرير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، يقدِّر قادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) أنهم يسيطرون على نحو 30 ألف كيلومتر مربع من الأراضي، وذلك بعدما تمكن الأكراد من استعادة ما يزيد على 17 ألف ميل مربع من «داعش»، وغالبيتها في أعقاب الغارات الجوية التي قادتها واشنطن. وحقا، يشير كريم بيطار، وهو زميل مقيم في «المعهد الفرنسي للعلاقات الاستراتيجية والدولية» في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، إلى أن «الشراكة الكردية الأميركية تعود إلى ما قبل غزو العراق في عام 2003، كما أن قاعدة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الموجودة في أربيل (عاصمة كردستان العراق) تجعل التحالف الكردي الأميركي تحالفا صلبا».
لكن، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعوِّل على تنسيق عربي - كردي وثيق للسيطرة على الرقة، يعتقد بيطار أن «الولايات المتحدة تميل إلى قراءة الوضع الإقليمي من خلال عدسة الدين والعرق التي قد لا تكون بالضرورة ناجحة في هذه القضية»، حتى في ظل التقدم الكردي الحالي في شمال سوريا.
وفي هذا السياق، يعتبر فان ولغنبرغ، الذي سافر أخيرا إلى المناطق الكردية في شمال سوريا، أن «القوات الديمقراطية السورية» شنت عملياتها الأولى في سوريا في مدينة الهول في 31 أكتوبر الماضي، وكان «الهدف منها استعادة هذه المدينة التي يستخدمها (داعش) كمركز عسكري لعملياته في محافظة الحسكة ضد الأكراد، والتي تعتبر منطقة شديدة الأهمية أيضا نظرا لمواردها النفطية».
بالإضافة إلى ذلك، ونقلا عن وكالة «آرا» للأنباء، استعادت «القوات الديمقراطية السورية» عدة قرى في محافظة الحسكة السورية الشمالية الشرقية بعد اشتباكات مع مقاتلين متشددين من «داعش» لا سيما في الريف الشرقي من المحافظة التي تتاخم العراق وتركيا. ونجحت قوات مشتركة عربية - كردية في استرداد قريتي سلالية ورجم الشرقي بجنوب الحسكة، بعد أن أرغمت عناصر «داعش» على الانسحاب تحت القصف الشديد، وفقا لوكالة «آرا». أما هدف الأكراد فهو «استعادة مدينة الهول وقطع الطريق الدولي بين الرقة والموصل»، كما يقول فان ولغنبرغ.
وفي شهر نوفمبر الماضي، شنت القوات الديمقراطية السورية عملية عسكرية واسعة النطاق في الريف الشرقي لمدينة الحسكة نفسها على مقربة من مدينة الهول الواقعة تحت قبضة «داعش» على الحدود العراقية. وتمكنت القوات من استعادة أكثر من 35 بلدة ومحطات الوقود خلال أسبوع من العمليات. كما صرح الكولونيل طلال علي سلو، الناطق الرسمي باسم «القوات الديمقراطية السورية» وقائد مجموعة «جيش الثوار» في الحسكة، بأن قواته تتعاون مع التحالف الدولي في عملياته العسكرية ضد المجموعة المتطرفة، وفق ما أوردت وكالة «آرا».
ويعتقد فان ولغنبرغ أنه في سوريا يمكن لوحدات حماية الشعب (YPG) تكرار المكاسب القديمة في مناطق تقع خارج حدودها الطبيعية «علما بأن وحدات حماية الشعب (YPG) كانت قد أثبتت فعاليتها خارج المناطق الكردية قبل إنشاء القوى الديمقراطية السورية، فتمكنت من السيطرة على عدة مناطق مثل تل براك وتل أبيض وغيرهما. ولذلك سوف تكون فعالة في العمليات المستقبلية أيضا، خصوصا إذا كانت مدعومة من الضربات الجوية للتحالف».
في المقابل، يبدي صطوف شكوكا في هذا الموضوع، مضيفا أن العديد من العقبات ستقف في وجه التعاون العسكري الكردي العربي، خاصة في المناطق ذات الأغلبية العربية، شارحا أن «الأكراد اتخذوا قرارات أحادية إزاء السيطرة والإمساك بالسلطة في مناطق مثل تل أبيض ذات الغالبية العربية»، ما يعزز انعدام الثقة بين المجموعتين.
وما يجدر ذكره أن «الخصومة» بين العرب والأكراد في هذه المنطقة تعود إلى بداية الثورة السورية. ففي أواخر عام 2012، اصطدمت ميليشيا «وحدات حماية الشعب» مع وحدات من التيار الرئيسي لـ«الجيش السوري الحر»، وكذلك مع جماعة «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة، التي رفضت قبول الطموحات الكردية في المنطقة، وفقا لتقرير معهد واشنطن.
وبالإضافة إلى ذلك، أظهر تقرير صدر أخيرا عن منظمة العفو الدولية بعنوان «نحن لم نجد مكانا آخر نذهب إليه»، أن ميليشيا «وحدات حماية الشعب» قد دمرت قرى بكاملها استولت عليها من «داعش» إما انتقاما من «التعاطف المفترض مع المجموعة المتطرفة أو كعقاب على الظلم السابق أو الخلافات (العرقية) القديمة».
غير أن الخلافات العرقية التي غذاها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، ليست سوى سبب واحد من أسباب العداء العربي الكردي. وبين الأسباب الأخرى ما يرتبط بالعداوة السياسية: فـ«الجيش السوري الحر» يطلب من «وحدات حماية الشعب» أن تتخذ موقفا واضحا تجاه النظام، وهي التي رفضت الانضمام إلى المعارضة السياسية السورية، وفق صطوف.
من ناحية أخرى، ينظر الأكراد إلى العرب بكثير من الريبة بسبب تغلغل «داعش» في مناطقهم داخل السكان المحليين. وقد أفاد ناشط محلي تحدث شرط التكتم على هويته بأن «داعش» استخدم النساء والأطفال في عمليات تفجير، أو لجمع المعلومات لصالح المنظمة الإرهابية المتطرفة. ولذا قد يكون غياب بل انعدام الثقة بين العرب والأكراد أحد العوامل التي تعوق أي هجوم عسكري مستقبلي في الرقة.
وهنا يقول فيصل عيتاني شارحا: «إن الأكراد ليسوا متحمسين للبدء في نشاط عسكري صعب ومكلف عليهم قد يطول ضد (داعش) في منطقة غير كردية (مثل الرقة). ولا بد من أن يتولى فريق ما الحكم بعد تحرير الأرض. لذلك يبدو أن الأكراد ليسوا متحمسين لتولي هذا الأمر، الذي قد يظهرهم كأنهم يقمعون السكان المحليين العرب»، وفق عيتاني. ويشاطر عيتاني في هذا الرأي بيطار الذي يرى أن تحرير المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش غير ممكن إلا من خلال مساعدة المجموعة السنية العربية «الصحوات»، التي عرفت في ما مضى كحركة عراقية مناهضة لـ«القاعدة».
ملاحظة أخيرة لا بد منها هنا.. فحتى لو تحققت السيطرة على مدينة الرقة نتيجة تراجع قوة «داعش»، فهل سيتمكن الأكراد المسيطرون على الأرض من الصمود في وجه هجمات التنظيم المتطرف على المدى الطويل؟ وهل سيتمكنون من سد الثغرة مع السكان المحليين ويحصلون على ثقتهم وقبولهم كقوات أمنية؟
هذا الأمر يصعب جدا أن يتحقق من دون صلات عميقة ونقاط التقاء مصلحية قوية بين العرب والأكراد.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.