مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

تحوي صورًا تعود للقرن الـ18.. وكان من زوارها نجيب محفوظ وأمينة رزق والرئيس محمد نجيب

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
TT

مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف

بواجهة زجاجية كلاسيكية في شارع شريف بوسط القاهرة، تقبع مكتبة عتيقة تعرض كتبًا بشتى اللغات وقطعًا فنية تحمل التراث المصري والفرعوني، اشتهرت باسم «المكتبة الألمانية» نظرًا لأنها الوحيدة المتخصصة في بيع كتب بالألمانية بالقاهرة. إنها مكتبة «لينرت ولاندروك» أقدم المكتبات الأجنبية في مصر والشرق الأوسط.
حوائط وجدران المكتبة تنضح بالتراث الشرقي والمصري، تحمل لقطات من حكايات البشر المرئية ترويها وجوه وملامح مصريين عاشوا عبر عقود مضت، وصور تحمل نفحات من تاريخ مصر ومعالمها الشهيرة وكيف جرت عليها تقلبات الزمن عبر أكثر من 100 عام. يعود تاريخ مكتبة «لينرت ولاندروك» إلى عام 1904 إلا أن ما تحويه من صور يعود تاريخها إلى ما هو أقدم، فهو يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر.
بمجرد دخولك للمكتبة سوف تنسى الوقت وتهيم في روعة الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسات الفنان «لينرت رودلف فرانز» (1878 - 1948) المولود في بوهيميا بأوروبا الوسطى آنذاك، وكان عاشقا للتصوير ومفتونا بالفوتوغرافيا، وكان يتجول حاملا الكاميرا في أنحاء أوروبا سيرا على الأقدام يلتقط كل ما يلفت ناظريه إلى أن وصل إلى إسبانيا فشخص ببصره نحو الشرق، قادته روح الاستكشاف إلى تونس عام 1903 وبهره سحرها؛ ففيها عرف سحر الشرق وعشق التراث العربي. وهناك التقى بصديق عمره رجل الأعمال «لاندروك أرنست هينرش» (1878 - 1966) المولود في مقاطعة «راينسدوف ساكسون» الألمانية، والذي شاركه الهوس بفكرة تصوير الأماكن والأشخاص، واتفقا على شراكة تجمعهما يقوم فيها لينرت بالتصوير والإبداع، ولاندروك بالتمويل وتولي عملية بيع الصور وتسويقها. ويروي د. إدوارد لامبلييه، حفيد لاندروك لـ«الشرق الأوسط»: «كان لينرت يمتلك بصيرة ورؤية فنان محترف، فكان دوما يقول: (ما أقوم به سوف يخلده التاريخ)، وسانده لاندروك وبعد عودتهما لسويسرا قررا العودة مرة أخرى لتونس فقام بتوثيق الحياة اليومية فيها وصحرائها ووديانها وبيوتها، والرجال والنساء بأزيائهم، واتفقا على أن يؤسسا مكانا لبيع الصور في أشهر شوارعها آنذاك شارع فرنسا». ومن تونس الخضراء إلى مصر، ساقهما الشغف والولع بالتصوير إلى أرض الكنوز الفرعونية التي تجذب البعثات والمستكشفين، فحققا نجاحا كبيرا، لكن ما إن نشبت الحرب العالمية الأولى واجه الصديقان وهوايتهما خطرا محدقا، حيث ظن الفرنسيون أنهم ألمان، فتم تأميم محلهما بتونس ونزعت ملكيته، فقرر لينرت السفر وأقام قليلا في الجزائر، وحينما حاول لاندروك اللحاق به اعتقل وتم ترحيله إلى سويسرا.
يستطرد لامبلييه: «عاد لينرت إلى سويسرا حتى خروج صديقه من السجن وتزوج لينرت من أوجيني شميت من إلزاسيا التابعة لفرنسا حاليا، وتزوج لاندروك من إميليه لامبليه من تورجاو بسويسرا، وأسسا عام 1920 شركة باسم ناشر وفنون شرقية ومقرها بالعقار رقم 11 بشارع إمبليان في مدينة لايتسيك».
يذهب لامبلييه إلى دولاب عرض زجاجي يحوي أقدم الكاميرات الفوتوغرافية وآلات لعرض الصور الفوتوغرافية في العالم، أشبه بصندوق الصور الذي يلهو به الأطفال، وأختام «لينرت لاندروك» الأصلية، متأملا صور جده وصديقه وما صنعاه على مر السنين، ويروي بفخر شديد، وهو ينظر إلى ثروته الثمينة التي لا يرغب في التفريط فيها، قائلا: «في عام 1924 عاد (لاندروك) إلى مصر مع زوجته وابنها كورت لامبلييه وهو والدي وكان ابنها من زوج سابق، كما عاد لينرت مع زوجته وابنتهما إيليان، نزلا بالإسكندرية بعد رحلة بحرية على متن الباخرة الإيطالية تيفيري، وفي القاهرة أسسا (شركة لينرت ولاندروك) في عمارة (بناني) رقم 21 بشارع عدلي بوسط القاهرة. بعدها أسسا مقرا بشارع الجمهورية، لعرض بطاقات بريدية وصور ومطبوعات فنية وكروت المعايدة، وكان موقعه ما بين فندقي شبرد والكونتيننتال، جاب لينرت خلال هذه الفترة مصر من الإسكندرية للنوبة، مصورًا ما كانت عليه الحياة في مصر وترك لنا تراثا ثريا من آلاف الصور النادرة».
ويشير حفيد لاندروك إلى أن لينرت جذبه الحنين مرة أخرى لتونس، «باع نصيبه لجدي ورحل لتونس عام 1930 ليستقر في واحة (جفسة) ومكث بها حتى وافته المنية عام 1948». وظل لاندروك وابنه لزوجته كورت لامبليه يحافظان على تجارة الصور والكروت وتوسعا ببيع الكتب التاريخية والسياحية عن مصر وأوروبا باللغات الأجنبية، حتى ذاع صيت المكتبة واستطاعا الصمود رغم كل الصعوبات والحروب والأزمات الاقتصادية التي مرت بمصر خلال القرن العشرين، بل ودخلا مجال النشر أيضًا وأدخلا تقنية الصور الملونة إلى مصر. توفي الجد لاندروك تاركًا لكورت لامبليه تركة عظيمة، حافظ عليها وساعده ابنه د. إدوارد في الحفاظ على صيت ومكانه المكتبة، رغم أن الاحتلال البريطاني أغلقها من قبل بسبب اعتقاده أنهم ألمان، ولكن بعد فترة عادت المكتبة أقوى وبقرار من وزير الثقافة المصري د. ثروت عكاشة تم افتتاح فرع لها بداخل المتحف المصري لعرض الصور الرائعة التي تؤرخ لتاريخ مصر البشري للسائحين.
استطاع سعيد محمد وحسن رزق المسؤولان عن إدارة المكتبة اكتشاف «الأفلام الزجاجية» في أحد مخازن المكتبة عام 1982 بعد أن كانت مهملة، وأبلغا مالكها إدوارد لامبلييه، الذي فرح كثيرا وقرر إعادة طباعة صور لينرت الأصلية بجودة ممتازة، مما لقي إعجاب عدد كبير من عشاق التراث المصري والشرقي وسحر الأبيض والأسود، وكان من بينهم: الصحافي والأديب الفرنسي فيليب كاردينال، الذي كتب مقالا عن هذا العمل ونشر عنه كتابين باللغة الفرنسية، كما شجعه تشارلز هنري فافرود، مدير متحف الإليزيه بلوزان بسويسرا، وأقام للصور النادرة معرضا في سويسرا، كما حثه على أن يتم الاحتفاظ بأصل الألواح الزجاجية في المتحف بسويسرا. ورغم ما مرت به مصر، وتأميم المكتبة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن إدوارد لامبلييه لم يرغب قط في مغادرة مصر، بل اضطر مرغما لدراسة الجيولوجيا في سويسرا، وما إن سنحت له الفرصة للعودة عاد لمصر واستطاع إعادة افتتاح المكتبة، فلم يستسلم كما فعل عدد كبير من الأجانب من مختلف الجنسيات الذين ولدوا بمصر وهجروها، بل أصر على الحفاظ على تاريخ المكتبة ودورها، فهو عاشق لمصر ويسافر فقط لزيارة ابنته وأحفاده ويعود ليحرس كنوزه.
اصطحبني سعيد محمد، مدير المكتبة، في جولة بين مقتنيات المكتبة وقد صنفت بعناية تامة، كتب بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، في مجالات العلوم الإنسانية والهندسة والطب واللغات والروايات الأجنبية، وأخرى لتعليم الأطفال اللغات. وفيما يشبه قاعة عرض منفصلة تضم أروع ما صورت عدسات لينرت، توجد أرفف لألبومات صور نادرة لفلسطين والقدس قبل الاحتلال الصهيوني، والتي تعد وثائق تاريخية للدفاع عن الأرض الفلسطينية، وأخرى لتونس والجزائر، وأخرى لمصر وهي أكثرها عددا وتم تصنيفها حسب فترات زمنية وحسب الأماكن والمحافظات التي التقطت بها، فضلا عن صور لعدة مدن أوروبية تعود لبدايات القرن العشرين، يحكي سعيد ونحن نتجول بين ممرات المكتبة العامرة: «طورنا من تقنية طباعة الصور فأصبح يمكن للزائر اختيار الصورة التي يريد اقتناءها ونوع الورق أو القماش ونوع الإطار لنعدها له ويمكنه إهداؤها كتذكار قيم، كما يأتي إلينا عدد من المخرجين والسينمائيين لتصوير بعض مشاهد الأفلام والمسلسلات أو لاقتناء صور تفيد في السياق الدرامي لأفلامهم خاصة الوثائقية»، وحينما سألته عن أشهر زوار المكتبة الذين قابلهم طوال سنوات عمله التي تخطت الثلاثين عاما، قال شاردا للحظات: «أتذكر جيدا في بداية عملي هنا أول رئيس لمصر الرئيس محمد نجيب كان يأتي لاقتناء المجلات الأجنبية التي كنا متخصصين في بيعها، كذلك السيدة أمينة رزق، وبالطبع الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يمر من آن لآخر لاقتناء بعض الموسوعات الأجنبية بالإنجليزية والفرنسية، كذلك أيضًا أتذكر المخرج يوسف شاهين، ومؤخرا الأديب علاء الأسواني الذي كان يقتني كتب طب الأسنان بالإنجليزية، وآخرين كثر لكن ذاكرتي لا تسعفني لتذكر الجميع»، ويأتي سعيد بكتاب مصور ضخم بعنوان «Egypt The Land of Pharaohs: In the historical Photographs»، كاشفا عن المقدمة الإنجليزية الممهورة بقلم نجيب محفوظ والتي كتب فيها: «نشأت أسمع عن لينرت ولاندروك وقد احتفظت بصورهم التي ظلت معي حينما كنت أشق طريقي في الحياة»، وهذا الكتاب من إصدارات المكتبة، مشيرًا إلى أنه نظرا للإقبال على الصور الفوتوغرافية لمصر زمان تسعى المكتبة من حين لآخر لإصدار مجموعات لينرت ولاندروك في كتب مصورة ذات طباعة فاخرة لتصل للأجيال القادمة.
وكما هو حال اللوحات والأعمال الفنية الأصلية لكبار الفنانين في العالم، تمنحك «لينرت ولاندروك» شهادة موثقة تثبت بأنك تمتلك صورة أصلية من مجموعة لينرت ولاندروك النادرة بتقنية النيجاتيف الزجاجي. وبأسى شديد يقول سعيد: «للأسف نعاني من سرقة صورنا وتزييفها وإعادة طبعها، وحاليا نخوض ضد هؤلاء المزورين معارك قضائية للحفاظ على حقوق الملكية، كما أن الكثير من الصور الخاصة بنا انتشرت على الإنترنت لكن أكثر ما يسعدني هو حب الشباب لتاريخ بلادهم وحنينهم لحقب لم يعايشوها»، مشيرًا إلى صورة للرجل القارئ التي يتم تداولها بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تجسد رجلا بملابس رثة يقرأ بانهماك وسط أرفف من الكتب.
في الطابق العلوي للمكتبة، التقينا المدير الآخر للمكتبة حسن رزق، الذي تجول معنا فيما يشبه قاعة عرض متحفي أخرى، وإنما للفنانين المصريين المعاصرين، تضم مشغولات يدوية ومنحوتات ولوحات زيتية صنعتها أنامل فنانين موهوبين من مختلف محافظات مصر بداية من أسوان وحتى سيوة وسيناء، ويقول: «نحاول دعم الفنانين الشباب بتقديم أعمالهم وعرضها للبيع والترويج للفلكلور المصري بمختلف صوره، وهنا يمكن لزوار المكتبة الاستراحة واحتساء كوب من القهوة أو الشاي والاستمتاع والتجول بناظرهم وسط المعروضات المبهرة، كما نستضيف حفلات توقيع للكتب ومعارض فنية». التجول في أرجاء المكتبة متعة لا نظير لها، فبعد مرور 4 ساعات ما بين أرجائها، شعرت أنه لن يكفيني يوما كاملا للاطلاع على كنوزها، واقتناء كل ما أستطيع منه، ما بين الصور والبراويز واللوحات والكتب المصورة والروزنامات الرائعة التي تحمل صورًا رائعة لمصر، أو القطع الخزفية والرخامية والمزهريات والثريات المصنوعة من الملح السيوي أو المشغولات السيناوية وغيرها، ولكن للأسف قلة من المصريين يترددون على المكتبة وأكثرهم من دارسي الألمانية واللغات الأجنبية، ويظل أكثر زوارها من الأجانب المقيمين أو الذين ولدوا في مصر وعايشوا مجد هذه المكتبة ويعرفون قيمة ما بها من كنوز يصطحبون أبناءهم وأحفادهم للتعرف على تاريخ البلد التي نشأوا فيها يقتنون نفحات منه لكن عبر الصور التي تخلده.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)