مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

تحوي صورًا تعود للقرن الـ18.. وكان من زوارها نجيب محفوظ وأمينة رزق والرئيس محمد نجيب

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
TT

مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف

بواجهة زجاجية كلاسيكية في شارع شريف بوسط القاهرة، تقبع مكتبة عتيقة تعرض كتبًا بشتى اللغات وقطعًا فنية تحمل التراث المصري والفرعوني، اشتهرت باسم «المكتبة الألمانية» نظرًا لأنها الوحيدة المتخصصة في بيع كتب بالألمانية بالقاهرة. إنها مكتبة «لينرت ولاندروك» أقدم المكتبات الأجنبية في مصر والشرق الأوسط.
حوائط وجدران المكتبة تنضح بالتراث الشرقي والمصري، تحمل لقطات من حكايات البشر المرئية ترويها وجوه وملامح مصريين عاشوا عبر عقود مضت، وصور تحمل نفحات من تاريخ مصر ومعالمها الشهيرة وكيف جرت عليها تقلبات الزمن عبر أكثر من 100 عام. يعود تاريخ مكتبة «لينرت ولاندروك» إلى عام 1904 إلا أن ما تحويه من صور يعود تاريخها إلى ما هو أقدم، فهو يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر.
بمجرد دخولك للمكتبة سوف تنسى الوقت وتهيم في روعة الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسات الفنان «لينرت رودلف فرانز» (1878 - 1948) المولود في بوهيميا بأوروبا الوسطى آنذاك، وكان عاشقا للتصوير ومفتونا بالفوتوغرافيا، وكان يتجول حاملا الكاميرا في أنحاء أوروبا سيرا على الأقدام يلتقط كل ما يلفت ناظريه إلى أن وصل إلى إسبانيا فشخص ببصره نحو الشرق، قادته روح الاستكشاف إلى تونس عام 1903 وبهره سحرها؛ ففيها عرف سحر الشرق وعشق التراث العربي. وهناك التقى بصديق عمره رجل الأعمال «لاندروك أرنست هينرش» (1878 - 1966) المولود في مقاطعة «راينسدوف ساكسون» الألمانية، والذي شاركه الهوس بفكرة تصوير الأماكن والأشخاص، واتفقا على شراكة تجمعهما يقوم فيها لينرت بالتصوير والإبداع، ولاندروك بالتمويل وتولي عملية بيع الصور وتسويقها. ويروي د. إدوارد لامبلييه، حفيد لاندروك لـ«الشرق الأوسط»: «كان لينرت يمتلك بصيرة ورؤية فنان محترف، فكان دوما يقول: (ما أقوم به سوف يخلده التاريخ)، وسانده لاندروك وبعد عودتهما لسويسرا قررا العودة مرة أخرى لتونس فقام بتوثيق الحياة اليومية فيها وصحرائها ووديانها وبيوتها، والرجال والنساء بأزيائهم، واتفقا على أن يؤسسا مكانا لبيع الصور في أشهر شوارعها آنذاك شارع فرنسا». ومن تونس الخضراء إلى مصر، ساقهما الشغف والولع بالتصوير إلى أرض الكنوز الفرعونية التي تجذب البعثات والمستكشفين، فحققا نجاحا كبيرا، لكن ما إن نشبت الحرب العالمية الأولى واجه الصديقان وهوايتهما خطرا محدقا، حيث ظن الفرنسيون أنهم ألمان، فتم تأميم محلهما بتونس ونزعت ملكيته، فقرر لينرت السفر وأقام قليلا في الجزائر، وحينما حاول لاندروك اللحاق به اعتقل وتم ترحيله إلى سويسرا.
يستطرد لامبلييه: «عاد لينرت إلى سويسرا حتى خروج صديقه من السجن وتزوج لينرت من أوجيني شميت من إلزاسيا التابعة لفرنسا حاليا، وتزوج لاندروك من إميليه لامبليه من تورجاو بسويسرا، وأسسا عام 1920 شركة باسم ناشر وفنون شرقية ومقرها بالعقار رقم 11 بشارع إمبليان في مدينة لايتسيك».
يذهب لامبلييه إلى دولاب عرض زجاجي يحوي أقدم الكاميرات الفوتوغرافية وآلات لعرض الصور الفوتوغرافية في العالم، أشبه بصندوق الصور الذي يلهو به الأطفال، وأختام «لينرت لاندروك» الأصلية، متأملا صور جده وصديقه وما صنعاه على مر السنين، ويروي بفخر شديد، وهو ينظر إلى ثروته الثمينة التي لا يرغب في التفريط فيها، قائلا: «في عام 1924 عاد (لاندروك) إلى مصر مع زوجته وابنها كورت لامبلييه وهو والدي وكان ابنها من زوج سابق، كما عاد لينرت مع زوجته وابنتهما إيليان، نزلا بالإسكندرية بعد رحلة بحرية على متن الباخرة الإيطالية تيفيري، وفي القاهرة أسسا (شركة لينرت ولاندروك) في عمارة (بناني) رقم 21 بشارع عدلي بوسط القاهرة. بعدها أسسا مقرا بشارع الجمهورية، لعرض بطاقات بريدية وصور ومطبوعات فنية وكروت المعايدة، وكان موقعه ما بين فندقي شبرد والكونتيننتال، جاب لينرت خلال هذه الفترة مصر من الإسكندرية للنوبة، مصورًا ما كانت عليه الحياة في مصر وترك لنا تراثا ثريا من آلاف الصور النادرة».
ويشير حفيد لاندروك إلى أن لينرت جذبه الحنين مرة أخرى لتونس، «باع نصيبه لجدي ورحل لتونس عام 1930 ليستقر في واحة (جفسة) ومكث بها حتى وافته المنية عام 1948». وظل لاندروك وابنه لزوجته كورت لامبليه يحافظان على تجارة الصور والكروت وتوسعا ببيع الكتب التاريخية والسياحية عن مصر وأوروبا باللغات الأجنبية، حتى ذاع صيت المكتبة واستطاعا الصمود رغم كل الصعوبات والحروب والأزمات الاقتصادية التي مرت بمصر خلال القرن العشرين، بل ودخلا مجال النشر أيضًا وأدخلا تقنية الصور الملونة إلى مصر. توفي الجد لاندروك تاركًا لكورت لامبليه تركة عظيمة، حافظ عليها وساعده ابنه د. إدوارد في الحفاظ على صيت ومكانه المكتبة، رغم أن الاحتلال البريطاني أغلقها من قبل بسبب اعتقاده أنهم ألمان، ولكن بعد فترة عادت المكتبة أقوى وبقرار من وزير الثقافة المصري د. ثروت عكاشة تم افتتاح فرع لها بداخل المتحف المصري لعرض الصور الرائعة التي تؤرخ لتاريخ مصر البشري للسائحين.
استطاع سعيد محمد وحسن رزق المسؤولان عن إدارة المكتبة اكتشاف «الأفلام الزجاجية» في أحد مخازن المكتبة عام 1982 بعد أن كانت مهملة، وأبلغا مالكها إدوارد لامبلييه، الذي فرح كثيرا وقرر إعادة طباعة صور لينرت الأصلية بجودة ممتازة، مما لقي إعجاب عدد كبير من عشاق التراث المصري والشرقي وسحر الأبيض والأسود، وكان من بينهم: الصحافي والأديب الفرنسي فيليب كاردينال، الذي كتب مقالا عن هذا العمل ونشر عنه كتابين باللغة الفرنسية، كما شجعه تشارلز هنري فافرود، مدير متحف الإليزيه بلوزان بسويسرا، وأقام للصور النادرة معرضا في سويسرا، كما حثه على أن يتم الاحتفاظ بأصل الألواح الزجاجية في المتحف بسويسرا. ورغم ما مرت به مصر، وتأميم المكتبة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن إدوارد لامبلييه لم يرغب قط في مغادرة مصر، بل اضطر مرغما لدراسة الجيولوجيا في سويسرا، وما إن سنحت له الفرصة للعودة عاد لمصر واستطاع إعادة افتتاح المكتبة، فلم يستسلم كما فعل عدد كبير من الأجانب من مختلف الجنسيات الذين ولدوا بمصر وهجروها، بل أصر على الحفاظ على تاريخ المكتبة ودورها، فهو عاشق لمصر ويسافر فقط لزيارة ابنته وأحفاده ويعود ليحرس كنوزه.
اصطحبني سعيد محمد، مدير المكتبة، في جولة بين مقتنيات المكتبة وقد صنفت بعناية تامة، كتب بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، في مجالات العلوم الإنسانية والهندسة والطب واللغات والروايات الأجنبية، وأخرى لتعليم الأطفال اللغات. وفيما يشبه قاعة عرض منفصلة تضم أروع ما صورت عدسات لينرت، توجد أرفف لألبومات صور نادرة لفلسطين والقدس قبل الاحتلال الصهيوني، والتي تعد وثائق تاريخية للدفاع عن الأرض الفلسطينية، وأخرى لتونس والجزائر، وأخرى لمصر وهي أكثرها عددا وتم تصنيفها حسب فترات زمنية وحسب الأماكن والمحافظات التي التقطت بها، فضلا عن صور لعدة مدن أوروبية تعود لبدايات القرن العشرين، يحكي سعيد ونحن نتجول بين ممرات المكتبة العامرة: «طورنا من تقنية طباعة الصور فأصبح يمكن للزائر اختيار الصورة التي يريد اقتناءها ونوع الورق أو القماش ونوع الإطار لنعدها له ويمكنه إهداؤها كتذكار قيم، كما يأتي إلينا عدد من المخرجين والسينمائيين لتصوير بعض مشاهد الأفلام والمسلسلات أو لاقتناء صور تفيد في السياق الدرامي لأفلامهم خاصة الوثائقية»، وحينما سألته عن أشهر زوار المكتبة الذين قابلهم طوال سنوات عمله التي تخطت الثلاثين عاما، قال شاردا للحظات: «أتذكر جيدا في بداية عملي هنا أول رئيس لمصر الرئيس محمد نجيب كان يأتي لاقتناء المجلات الأجنبية التي كنا متخصصين في بيعها، كذلك السيدة أمينة رزق، وبالطبع الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يمر من آن لآخر لاقتناء بعض الموسوعات الأجنبية بالإنجليزية والفرنسية، كذلك أيضًا أتذكر المخرج يوسف شاهين، ومؤخرا الأديب علاء الأسواني الذي كان يقتني كتب طب الأسنان بالإنجليزية، وآخرين كثر لكن ذاكرتي لا تسعفني لتذكر الجميع»، ويأتي سعيد بكتاب مصور ضخم بعنوان «Egypt The Land of Pharaohs: In the historical Photographs»، كاشفا عن المقدمة الإنجليزية الممهورة بقلم نجيب محفوظ والتي كتب فيها: «نشأت أسمع عن لينرت ولاندروك وقد احتفظت بصورهم التي ظلت معي حينما كنت أشق طريقي في الحياة»، وهذا الكتاب من إصدارات المكتبة، مشيرًا إلى أنه نظرا للإقبال على الصور الفوتوغرافية لمصر زمان تسعى المكتبة من حين لآخر لإصدار مجموعات لينرت ولاندروك في كتب مصورة ذات طباعة فاخرة لتصل للأجيال القادمة.
وكما هو حال اللوحات والأعمال الفنية الأصلية لكبار الفنانين في العالم، تمنحك «لينرت ولاندروك» شهادة موثقة تثبت بأنك تمتلك صورة أصلية من مجموعة لينرت ولاندروك النادرة بتقنية النيجاتيف الزجاجي. وبأسى شديد يقول سعيد: «للأسف نعاني من سرقة صورنا وتزييفها وإعادة طبعها، وحاليا نخوض ضد هؤلاء المزورين معارك قضائية للحفاظ على حقوق الملكية، كما أن الكثير من الصور الخاصة بنا انتشرت على الإنترنت لكن أكثر ما يسعدني هو حب الشباب لتاريخ بلادهم وحنينهم لحقب لم يعايشوها»، مشيرًا إلى صورة للرجل القارئ التي يتم تداولها بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تجسد رجلا بملابس رثة يقرأ بانهماك وسط أرفف من الكتب.
في الطابق العلوي للمكتبة، التقينا المدير الآخر للمكتبة حسن رزق، الذي تجول معنا فيما يشبه قاعة عرض متحفي أخرى، وإنما للفنانين المصريين المعاصرين، تضم مشغولات يدوية ومنحوتات ولوحات زيتية صنعتها أنامل فنانين موهوبين من مختلف محافظات مصر بداية من أسوان وحتى سيوة وسيناء، ويقول: «نحاول دعم الفنانين الشباب بتقديم أعمالهم وعرضها للبيع والترويج للفلكلور المصري بمختلف صوره، وهنا يمكن لزوار المكتبة الاستراحة واحتساء كوب من القهوة أو الشاي والاستمتاع والتجول بناظرهم وسط المعروضات المبهرة، كما نستضيف حفلات توقيع للكتب ومعارض فنية». التجول في أرجاء المكتبة متعة لا نظير لها، فبعد مرور 4 ساعات ما بين أرجائها، شعرت أنه لن يكفيني يوما كاملا للاطلاع على كنوزها، واقتناء كل ما أستطيع منه، ما بين الصور والبراويز واللوحات والكتب المصورة والروزنامات الرائعة التي تحمل صورًا رائعة لمصر، أو القطع الخزفية والرخامية والمزهريات والثريات المصنوعة من الملح السيوي أو المشغولات السيناوية وغيرها، ولكن للأسف قلة من المصريين يترددون على المكتبة وأكثرهم من دارسي الألمانية واللغات الأجنبية، ويظل أكثر زوارها من الأجانب المقيمين أو الذين ولدوا في مصر وعايشوا مجد هذه المكتبة ويعرفون قيمة ما بها من كنوز يصطحبون أبناءهم وأحفادهم للتعرف على تاريخ البلد التي نشأوا فيها يقتنون نفحات منه لكن عبر الصور التي تخلده.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».