أوليفييه روا: المشكلة هي «أسلمة» الراديكالية.. لا راديكالية الإسلام

قدم عالم السياسة أطروحته حول الشباب العدمي والإرهاب في فرنسا بالتشكيك في وجهة نظر الرئيس

فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
TT

أوليفييه روا: المشكلة هي «أسلمة» الراديكالية.. لا راديكالية الإسلام

فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)
فرنسي أثناء تقديمه باقة ورود لضحايا العمليات الإرهابية في باريس الشهر الماضي (أ. ب)

أفرزت العمليات الإرهابية التي كانت العاصمة الفرنسية باريس مسرحًا لها يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. ردود فعل متباينة وسط النخبة الفرنسية. ففي الوقت الذي سارعت النخب السياسية الحزبية لاستغلال الأحداث المؤلمة وجعلها جزءًا من التعبئة الانتخابية ضد الخصوم السياسيين؛ سارعت النخب الاقتصادية للتنبيه إلى تأثير الإرهاب على الاقتصاد الوطني، مسجلة أن خسائر هذا المجال وصلت لملياري يورو، وأن القطاع السياحي مس بشكل كبير. وفي ظل التعبئة العامة التي سجلت في الوسط النخبوي الفرنسي، ظهر مرة أخرى عالم السياسة الفرنسي أوليفييه روا الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، بأطروحته المتميزة؛ وقد ساعده في ذلك ما راكمه من خبرة بحثية كبيرة، جعلت منه أكبر متخصص فرنسي في الحركات الإرهابية.

في ظل الصراع السياسي المحتدم في فرنسا كان من الطبيعي أن تثير العمليات الإرهابية التي شهدتها باريس يوم 13 نوفمبر 2015 الشارع الفرنسي، بأوساطه كافة، وأن تخصص صحيفة «لوموند» الرصينة المرموقة بتاريخ 24 نوفمبر 2015، صفحة كاملة طرح عبرها الأكاديمي الفرنسي أوليفييه روا (Olivier Roy)، تفسيره لطبيعة العمليات الإرهابية الباريسية من حيث المنفذين، وكيفية التعامل مع الإرهاب في فرنسا خصوصًا.
ولقد بدأ عالم السياسة روا أطروحته بالتشكيك في وجهة نظر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند المبنية على كون فرنسا في «حالة حرب». وسارع للتساؤل ووضع علامة التعجب بخصوص حقيقة هذا الزعم السياسي، طارحًا إشكالاً منطلقيًا يقول: «فرنسا في حرب! لكن ضد من وضد ماذا»؟ إذ لم يهاجم السوريون فرنسا حتى تعلن باريس شن هجومها على هذا البلد، ثم إن الذين ارتكبوا الفعل الإرهابي هم جزء من الكينونة الفرنسية الغربية، وليسوا من الشرق الأوسط. وتمرّدهم وراديكاليتهم ناتجة عن أزمة الثقافة في عصر العَلمنة والعولمة وارتدادات الدين والتدين.
وعليه فإن تفسير ما عاشته باريس بتاريخ 13 نوفمبر 2015، لا يمكن فهمه بربطه ربطًا مباشرًا بتاريخ «القاعدة» وما جرى في أفغانستان؛ وظهور «داعش» في العراق وسوريا، وقبلها الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر. إن روا باعتباره متخصّصًا في الحركات التي تطلق على نفسها مسمى «الجهادية»، يسجل أن هناك تحوّلاً جوهريًا طرأ على البنية الثقافية والسلوكية للشباب المسلم الأوروبي، حيث أخذ جانبه المعرفي والسلوكي يقترب ويتشابه بشكل كبير مع المنطلقات الفاشية واليسارية الجذرية المتطرفة. وفي الوقت نفسه يجد الشباب المسلم من الجيل الثالث نفسه في مجتمع لا يخلو من «الإسلاموفوبيا»، وهو يعيش في قطيعة مع آبائهم من حيث فهمهم للدين، ودور هذا الأخير في المجتمع، وعلاقته بالهوية. ومن جانب آخر، يجد هذا الجيل نفسه أمام تحدّي تأثيرات الصراع العربي الإسرائيلي.
بهذه الخطاطة المتشابكة يرسم روا، الأستاذ الجامعي في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، أطروحته التفسيرية لظاهرة «الإرهابيين الشباب»، باعتبارها جزءا من التحول الواقع في العالم الغربي نفسه، وقدرته على استيعاب الجيل المتمرد، الذي اختار الراديكالية باعتبارها تحيزًا سلوكيا قبل أن تكون مظهرًا من مظاهر التديّن المتشدد. وعلينا ألا ننسى في هذا الإطار نقطة مركزية في غاية الأهمية، وهي أن الإرهابيين كانوا جزءًا أصيلاً من عالم الجريمة، قبل أن يتحوّلوا إلى «راديكاليين إسلاميين».
إن العصيان والراديكالية، عند الجيل الثالث المسلم بفرنسا لا يمكن ربطهما بالتعليم الديني، ولا حتى بالتشدد الديني المحافظ، والأسرة؛ بل هو «التزام طوعي» سابق على الدين والتدين. وهذا المشكل لا نجده عند الجيل الأول والثاني من مسلمي فرنسا.
ويبدو أن صلابة هذه الأطروحة، دفعت روا، للتأكيد في مقالة له نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بتاريخ 17-11-2015، أن فرنسا التي «تحارب مع الولايات المتحدة (داعش) في الشرق الأوسط. هي القوة الغربية الوحيدة التي تحاربه في منطقة الساحل الأفريقي، بدءًا من مالي في 2013. ونشرت جزءًا مهما من جيشها هناك لهذا الغرض. ومساء الجمعة 13 نوفمبر 2015، تكبّدت فرنسا ثمن قتال (داعش)».
أما في حوار أوليفييه مع راديو «آر تي إس إينفو» RTS INFO يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015، فقد أكد على أن «فرنسا ليست في حرب ضد (داعش)..، التفجيرات تمت من طرف شبان فرنسيين، صحيح أن هذا التنظيم جند شبابا أصله من عالم المخدرات، وعندما ينتقل للتدين ينتقل للتطرف بسرعة».. وهذا ما لا تتناوله النخب الإعلامية والسياسية الفرنسية؛ والتي هاجمت ما أطلق عليه الإعلام الفرنسي مسميات نمطية تتصل بالتشدّد الديني في محاولة لاستغلال التعاطف والتضامن الشعبي لربح مكاسب سياسية انتخابية. يَعتبر أوليفييه روا، الجيل الثالث من مسلمي فرنسا الذين نفذوا الهجمات، متطرفين يجدون في الإسلام تعبيرا عن تطرفهم، ليس لأن الإسلام أو التعليم الديني متطرف؛ بل إنهم شباب لا نعرفهم، وهم يشعرون بانتمائهم للأمة الإسلامية، ولا يختلفون بشيء عن الفاشية واليسار المتطرف من حيث الاختيارات المتطرفة. وهم في واقع الأمر في قطيعة مع آبائهم وخبرتهم الدينية الصوفية والمجتمعية. علينا كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار أنهم شباب يمتهنون المهن، محامون، وموظفون، أطباء وهم يُحمّلون الإسلام تطرفهم عبر ممارسة التدين المتطرف، فيما يشبه محاولة لقولبة الدين نفسه وتحويله لمَجمع للمتطرفين. «إنهم لم يصبحوا راديكاليين لأننا علمناهم الإسلام الراديكالي في مدارس التعليم، والمحاضن الأسرية، بل إنهم يبحثون عن الإسلام الراديكالي لأنهم راديكاليون، ويريدون الراديكالية».
ولذلك، يدعو روا إلى إبراز الإسلام المعتدل المعاصر، وتمتيع المسلمين بحرية التدين وممارسته في المجتمع. ليس في المجتمع الفرنسي وحسب، بل كذلك في العالم العربي والإسلامي. لننظر ما يقوله روا لأحداث ما بعد 2011م، وإفرازاتها عربيًا. «عندما تركنا المسار الديمقراطي في تونس يسير بمسار طبيعي، وجدنا أن الوضع لم يتجه نحو التطرف والراديكالية الإسلامية، بل نحو حزب النهضة المعتدل. بالنسبة لنا في فرنسا يجب التوجه لشباب الجيل الثالث الراديكالي والتعرف عليهم، باعتبارهم فئة متنوعة. إن هؤلاء الشباب يتجهون لتكريس وضع يعتبرون فيه أنهم هم الإسلام، وهذه وجهة نظر أصولية، لها سبب جوهري يتجلى في أزمة الثقافة في زمن العلمنة والعولمة. وهذا يدفع للربط بين الثقافي والديني بشكل كبير عند المسلمين الفرنسيين».
بالنسبة لأوليفييه روا، في كتابه «الجهل المقدس: زمن الدين بلا ثقافة»، فإن «التعارض لا يقوم بين أديان معتمدة على ثقافات متضادة بل بين الأديان ودينامية العلمنة». لذلك يعود بمقالته المطوّلة في «لوموند»، ليؤكد أن هناك طريقتين لتفسير ما حدث بباريس من أحداث إرهابية: الأولى تتبنى التفسير الثقافي، والثانية تعتمد التفسير التقليدي. وترى الأولى أنه لا بد للإسلام - وفي الحقيقة كان على روا أن يتحدث هنا عن المسلمين - حتى يحقق الاندماج من إصلاح «عقدي» فيما يخص نظرة القرآن لـ«الجهاد».
ومن جهة أخرى، لا بد من تجاوز الإرث الاستعماري في علاقته بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط؛ وكذلك العنصرية و«الإسلاموفوبيا» على المستوى الداخلي الفرنسي. وما لم يعالج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فإن الثأر والراديكالية سيستمران. من هذا المنطلق، وجب الانتباه للعزلة التي يعيشها المتطرفون الشباب وسط المجتمع الإسلامي الفرنسي، فهم يعيشون خارج المسجد، وراديكاليتهم لم يكتسبوها من الشريعة الإسلامية، أو من اليوتوبيا الدائرة اليوم بسوريا. إنهم عدميون أكثر من كونهم يوتوبيين؛ فهم لم يكونوا أعضاء في جماعة الدعوة والتبليغ، أو الإخوان المسلمين، ولم ينخرطوا في أي عمل سياسي منظم، لكن هويتهم «المتشددة» هي نفسها هوية «داعش».
خلاصة القول عند أوليفييه روا، أن أسباب الإرهاب «بنيوية»، ومن ثم، فإن مواجهته لا يجب أن تقتصر على جانب معين في غياب نظرة شاملة. وما هو مؤكد أن الإرهابيين ليسوا تعبيرًا عن راديكالية المجتمع المسلم، بل إنهم انعكاس لتمرد فئة محددة من الشباب الفرنسي، اختاروا الإسلام لأنه لا يوجد في السوق غيره للتعبير عن التمرّد الراديكالي.
* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.