عقوبات الإرهاب دون تمييز.. والشفافية تبدّد الشائعات

السعودية تستمر في حربها ضد الفئات الضالة بدءًا بالنصح ومنع التمويل وصولاً إلى تشريع القوانين

أحد المتهمين بالإرهاب أمام المحكمة في ألمانيا أغسطس الماضي (إ. ب. أ)
أحد المتهمين بالإرهاب أمام المحكمة في ألمانيا أغسطس الماضي (إ. ب. أ)
TT

عقوبات الإرهاب دون تمييز.. والشفافية تبدّد الشائعات

أحد المتهمين بالإرهاب أمام المحكمة في ألمانيا أغسطس الماضي (إ. ب. أ)
أحد المتهمين بالإرهاب أمام المحكمة في ألمانيا أغسطس الماضي (إ. ب. أ)

مع أول قطرة دم أراقها إرهابي تجاه الأبرياء ولد السؤال: متى تحين ساعة القصاص، لا سيما، أن جزءًا من استراتيجية الحرب على الإرهاب تقنين العقوبات ضده والمسارعة بمحاكمة الإرهابيين ردعًا لهم، ومراعاة نفسيات الأهالي والضحايا، إضافة إلى كونه من حزمة طويلة ومتنوعة من أساليب الحرب على الإرهاب التي تستخدم «العصا والجزرة»؟
لقد نُعتت الاستراتيجية السعودية بالفرادة من قبل مؤسسات إعادة تأهيل الإرهابيين عبر العالم، وذلك لأنها تقدم جانب الجزرة دائمًا في مواقفها، وخصوصا، فيما يخص الأفراد الذين لم يتورطوا بالدم مباشرة أو كانوا جزءًا من قناعات عنفية وتكفيرية بسبب التغرير بهم. وكذلك لإعطائهم الفرصة تلو الأخرى بأمل صلاحهم عبر برامج إعادة التأهيل التي حققت فيها السعودية مراتب متقدمة جدًا لاقت إعجاب الكثير من المراقبين لملف الإرهاب في العالم.
لا تعد مسألة تقنين محاربة الإرهاب أو محاكمة المتورطين في أحداث العنف جديدة. فتطبيق نظام مكافحة الإرهاب وتمويله في نسخته الجديدة بدأ العمل به 2013، بعد إقراره الذي يضم 40 مادة قانونية. ويستند النظام إلى تعريف دقيق وقانوني للجريمة الإرهابية قطعًا للطريق على المزايدين في موضوع نوعية العقوبات، فالجريمة الإرهابية وفقًا للقرار «كل فعل يقوم به الجاني، تنفيذًا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي في شكل مباشر أو غير مباشر، يقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة، أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر، إلى آخره ..».
وينص النظام على أن أحكامه سارية على كل شخص، سعوديًا كان أم مقيمًا، ارتكب خارج السعودية جريمة من الجرائم المنصوص عليها، ومنها «التحريض على تغيير نظام الحكم في السعودية، وتعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، وحمل الدولة على القيام بعمل أو الامتناع عنه، والاعتداء على السعوديين في الخارج».
وعلى مستوى المتابعة والتنفيذ، فقد فوض النظام وزير الداخلية مسألة إصدار الأمر بالقبض على من يشتبه في ارتكابه جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام، أو تفويض من يراه وفق ضوابط يحددها. وشدد النظام على أنه «لا يجوز الإفراج المؤقت عن أي متهم إلا بأمر من وزير الداخلية أو من يفوضه، وأن لوزير الداخلية - أو من يفوضه - الأمر بمراقبة الرسائل والخطابات والمطبوعات والطرود وسائر وسائل الاتصال والمحادثات».
ولم ينس النظام ضرورة العناية بالموقوفين على ذمة ملفات إرهابية، حيث دعا وزارة الداخلية إلى إنشاء دور تسمى «دور الإصلاح والتأهيل» تكون مهماتها الاعتناء بالموقوفين والمحكوم عليهم في أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام، وتسهيل اندماجهم في المجتمع، وتعميق انتمائهم الوطني.
ولا يقف نظام جرائم الإرهاب عند حدود العمل المسلح أو التكفير والإقصاء أو الانتماء إلى التنظيمات المتطرفة أو حتى السفر إلى مناطق التوتر والقتال. بل يتعدى ذلك إلى مسألة في غاية الأهمية بحسب مراقبين، وهو تجريم تمويل الإرهاب ولو بالمال، إذ ينص القرار على تجريم تمويل الإرهاب ويشمل «كل فعل يتضمن جمع أموال، أو تقديمها، أو أخذها، أو تخصيصها، أو نقلها، أو تحويلها - أو عائداتها - كليًا أو جزئيًا لأي نشاط إرهابي فردي أو جماعي، منظم أو غير منظم، في الداخل أو في الخارج، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر من مصدر مشروع أو غير مشروع. أو القيام لمصلحة هذا النشاط أو عناصره بأي عملية بنكية أو مصرفية أو مالية أو تجارية، أو الحصول مباشرة أو بالوساطة على أموال لاستغلالها لمصلحته، أو للدعوة والترويج لمبادئه، أو تدبير أماكن للتدريب، أو إيواء عناصره، أو تزويدهم بأي نوع من الأسلحة أو المستندات المزورة، أو تقديم أي وسيلة مساعدة أخرى من وسائل الدعم والتمويل مع العلم بذلك؛ وكل فعل يشكل جريمة في نطاق إحدى الاتفاقيات الواردة في مرفق الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب».
وأبرز ما جاء في نص القرار أبرز مظاهر التلبس بالفعل الإرهابي أو التطرف الفكري بما يشمل ذلك «المطالبة بتغيير نظام الحكم في السعودية، أو تعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، أو محاولة حمل الدولة على القيام بعمل أو الامتناع عنه، أو الاعتداء على السعوديين في الخارج، أو الإضرار بالأملاك العامة للدولة في الخارج، بما في ذلك السفارات أو غيرها من الأماكن الدبلوماسية أو القنصلية التابعة لها. كما يتضمن القيام بأي عمل إرهابي على متن وسيلة مواصلات مسجلة لدى السعودية أو تحمل علمها، ويتبع ذلك كل عمل يمس مصالح السعودية، أو اقتصادها، أو أمنها الوطني أو الاجتماعي».
ولا ببريء نظام مكافحة الإرهاب نفسه من الخطأ بل يتعامل بكل شفافية قانونية. إذ وضع مواد مفصّلة يمكن العودة إليها في النسخة الأصلية من مواد النظام الذي نشر في جريدة «أم القرى»، لكن النقطة اللافتة في هذا السياق هو إمكانية التظلم أو رفع الشكوى من قبل من أصابهم الضرر في خطوة تؤكد حرص الدولة على عدالة النظام والتأكيد أنها ليست مسألة قمع أو بوليسية دولة كما يحاول المغرضون تصوير ذلك، وينص النظام المادة 25 على أنه «يحق لمن أصابه ضرر من المتّهمين أو المحكوم عليهم في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام - نتيجة إطالة مدة توقيفه، أو سجنه أكثر من المدة المقرّرة، أو نحو ذلك - أن يتقدم إلى وزير الداخلية أو نائبه بطلب التعويض قبل التقدم إلى المحكمة الجزائية المتخصصة، وتنظر في الطلب لجنة تسوية تشكّل لهذا الغرض بقرار من الوزير لا يقل أعضاؤها عن ثلاثة يكون من بينهم مستشار شرعي ومستشار نظامي، وتصدر قرارات اللجنة بالأغلبية خلال مدة لا تتجاوز 60 يومًا من تاريخ تقديم الطلب».
ولكن مع كل هذه التحرّزات لكي تتحقق العدالة في الحرب الشاملة على الإرهاب، تظل هناك أصوات نشاز تمارس دورها المكشوف والمتكرر عبر تشويه أي نظام أو تطور يطرأ على ملف الإرهاب. ومعظم هؤلاء من المستفيدين من حالة التوتر سواء في الخارج أو التشغيب المجتمعي في الداخل لأسباب سياسية، من دون أن يدرك هؤلاء خطورة الدور الذي يقومون به. إن الإرهاب اليوم يسعى للبقاء والتمدد عبر إعادة بعث مشروع «الدولة» بعدما كان أكبر مطامحه الضغط على الأنظمة العربية عبر استهداف مصالح الولايات المتحدة والغرب. لكن أسلوب إدارة الحرب على الإرهاب، مع الوقت، وعبر طيلة هذه السنوات، استطاع التأثير على مسار العمليات الإرهابية ليصبح أقل فأقل، بينما يزداد تجذره في الداخل الإسلامي والعربي ليصبح جزءا من النسيج الاجتماعي.
السعودية تجدّد حربها على الإرهاب في كل نقطة تحول زمنية يتعاظم فيها هذا السرطان الخبيث، وبكل الوسائل بدءًا بالنصح والإرشاد وإنشاء مراكز التأهيل، ومرورًا بمنع كل وسائل التمويل واستقطاب الكوادر، وصولاً إلى تشريع القوانين لمكافحة الإرهاب وتطبيقها دون تمييز أو مراعاة فالكل في نظر القانون واحد.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.