قراءة معاصرة لأشكال التواصل الإنساني

«تواصل» للمخرج الفلسطيني عزيز عيد يحاكي نصوصًا لحسين البرغوثي

من العرض
من العرض
TT

قراءة معاصرة لأشكال التواصل الإنساني

من العرض
من العرض

على الرغم من غيابه جسديًا، يحضر المفكر والشاعر والأديب والأكاديمي حسين البرغوثي الذي أثر في جيل كامل، في عرض قدمه طلابه ومريدوه، الذي بات لبعضهم حضور مميز في حقول الأكاديمية، والأدب، والفنون، وحاكوا فيه مقتطفات من نص «الفراغ الذي رأى التفاصيل» الذي تلاقح فيه التمثيل والرقص والموسيقى، وكان فيه للجسد حكاية. وللنصوص البرغوثية رتوش لا تكتمل الحكاية دونها. وارتكز العرض، الذي حمل اسم «تواصل» للمخرج الفلسطيني عزيز عيد، على عدة متوازيات جعلت منه ليس فقط عرضًا تركيبيًا يجمع التمثيل، بالموسيقى، بالنص الملقى، وبالرقص، الذي كان له حضوره الطاغي في «تواصل»، بل عرض تجريبي بامتياز.
ومن هذه المتوازيات ما هو تقني كالخيال والظل، والحركة والسكون، والتمدد والانكماش، ومنها ما هو حسي، ليس من السهل التعبير عنه بالكلمات، حيث جدلية الفراغ واللافراغ، وجدلية العلاقة الأزلية بين الذكر والأنثى، وجدلية الحنين، والانكفاء على الذات في مواجهة الانفتاح على آخر، بكل تأويلات الآخر، وهو ما عكسته المسرحية في لوحاتها.
حاول العمل تقديم قراءة معاصرة لأشكال التواصل الإنساني في وقتنا الحاضر في ظل تأثير التطور التكنولوجي، والاستهلاك المفرط للوسائل الإلكترونية، التي حلت بديلا عن التواصل الفيزيائي والحسي بين الناس، وما أنتجه من أنماط تغريب عن الذات، وبالتالي انحراف في السلوك، حيث يهدف العمل وفق مخرجه إلى البحث في أدوات التواصل الإنسانية الأولية والأساسية، وإعادة تسليط الضوء على أهميتها، وكان هذا جليًا في اللوحات التي يتحول فيها الممثلون الراقصون إلى آليون، مما يحمل إلى الذهن على الفور على المقارنة ما بين الرومانسية البشرية، إن جاز التعبير، وعبر عنها فريق العمل في لوحاته الأولى، وما بين الرومانسية الروبوتية أو الإلكترونية، التي عكسها في لوحات تمثيلية راقصة لاحقة.
العرض، كما يقول عيد، رحلة باتجاه العودة إلى الذات، من أجل إحداث تواصل إنساني اجتماعي، ورحلة بحث عن جماليات في العلاقات الإنسانية، ولكني أرى أنه ليس كذلك فحسب، بل هو عودة إلى العقل في زمن اللاعقل، وعودة إلى الانفتاح في زمن الانكفاء على الذات، وفي زمن «التعدعش»، إن جاز التعبير، وكأنها الحسرة على زمن تقودنا فيه عقولنا التي ابتكرت التكنولوجيا إلى حيث المزيد من التطرف في غالبية الأحيان، وإلى المزيد من سفك الدماء.
ويتميز عرض «تواصل»، الذي قدم في قصر رام الله الثقافي، ويعرض قريبا في جامعة بيرزيت، بالأداء الرفيع لكل من سلمى عطايا، وفارس أبو صالح، ومعالي خالد، الذين قدموا رقصًا وتمثيلاً مغايرًا عن تجارب سابقة لهم، في محاولة لمحاكاة نص البرغوثي، الذي أعده وترجمه عن الألمانية رياض مصاروة، بلغة الجسد في حين كان للعناصر الأخرى ومنها تصميم الرقصات لبترا برغوثي، وتصميم وتنفيذ الإضاءة لخليل خالد، واللوحات التشكيلية للفنان بشار خلف، دورها في إنجاح العمل، الذي أنتجه ملتقى بلاطه الثقافي بتمويل من مؤسسة عبد المحسن القطان. وكان كتاب «الفراغ الذي رأى التفاصيل» لحسين البرغوثي، قد صدر عام 2006 عن بيت الشعر الفلسطيني «دار الزاهرة»، ودار البيرق العربي للنشر والتوزيع، واشتمل على خمسة نصوص عبّر من خلالها البرغوثي عن علاقته بالمكان باعتباره موضوعًا فلسطينيًا. وتوزّع الكتاب بين «الفراغ الذي رأى التفاصيل»، و«ذاكرة عادية في زمن غير عادي»، و«الأنا والمكان، و«عن المكان المنقرض»، و«وهم البداية وشبح المكان».



«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».