من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها
TT

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

إذا كانت ديمقراطية أثينا هي القبلة التاريخية والفكرية للنظم الديمقراطية لأنها أول مكوّن ديمقراطي منذ فترة زمنية طويلة، فإن التاريخ على مدار أكثر من ألفيتين من الزمان طورها بشكل مختلف شهد مراحل نموها بوصفها نظاما راسخا للحكم في كثير من الدول. ومع ذلك، فقد وضع التاريخ الديمقراطية على المحك في كثير من المناسبات، بل إنها شهدت في مناسبات كثيرة حالة إجهاض سياسي ليستعاض عنها بنظم أسوأ من الديكتاتوريات المتداولة، وهو ما جعل تاريخ مسيرة الديمقراطية من الفكر إلى التطبيق حافلاً بكثير من التأملات التي قد يكون من المناسب طرحها للمناقشة أو التفكر حولها على أساس الخطأ والصواب؛ منها ما يلي:
أولاً: الثابت أن الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا ليست بأي حال من الأحوال نتاجًا لسمو الإنسانية وفكرها بقدر ما هي نتاج لظروف المتغيرات السياسية والاجتماعية في الدول عبر التاريخ. فأثينا ذاتها لم تطبق هذا النظام رغبة منها في السمو السياسي، بل نتيجة طبيعية لظهور حالة نفوذ طبقي لا أعتقد أنها متطابقة مع الجدلية المادية الماركسية بقدر ما تمثل طموحًا طبيعيًا للمشاركة في عملية الحكم وصناعة السياسة من قبل الطبقات الاجتماعية في هذه الدويلة. والثابت تاريخيًا أيضًا أن هذا ما حدث نفسه في التاريخ الغربي الحديث، فلم نسمع عن الديمقراطية أو حتى الحكم الليبرالي بشكل مؤثر إلا مع ظهور المتغيرات الاجتماعية وظهور طبقة رجال الأعمال والصناعة وبداية ضمور طبقة الأرستقراطية مع تغير النظم الاجتماعية/ الاقتصادية القائمة، وهو مما يجعل الديمقراطية في التاريخ مسيرة أكثر منها قرارًا.
ثانيًا: إن الديمقراطية بوصفها نظاما للحكم متعدّدة النماذج، وأكثر المجتمعات التي طبقت الديمقراطية المباشرة كانت دويلة أثينا، وهو ما استعرضناه جليًا في مقال الأسبوع الماضي، ولكن الحقيقة الأساسية الثابتة أيضًا في هذا المجال هي أن سلوك الديمقراطيات أمر محفوف بالمخاطر يؤثر عليها بطبيعة الحال، فسلوك النظم الديمقراطية ليس معناه صيانة الديمقراطية ذاتها أو مبادئها. إن الديمقراطية وحدها غير كافية لضمان استمراريتها، بدليل أن الدويلة الأثينية كانت على الطريق القويم إلى أن بدأت تنحرف في سياساتها التوسعية، مما أدى إلى نهاية الدويلة ووأد فكرة الديمقراطية ذاتها. وفي أغلب الأحوال، فهي دائمًا ما تستلزم صيانة فكرية وسلوكية لشعوبها وسياسييها على حد سواء، فتطرف الشعب وتشنج الساسة في المجتمعات الديمقراطية بداية للعودة إلى الوراء.
ثالثًا: هناك فكر سائد في المجتمعات الغربية بأن الإنسانية وصلت إلى غايتها بالمنظومة الديمقراطية التي لا خلاف على سموها مقارنة بأي نظام سياسي آخر في ظل ظروف أغلبية الدول. ولقد شاب ذلك وجود نوع من الحتمية الفكرية بأن معركة نظم الحكم حسمها التاريخ لصالح الديمقراطية التي يعدها البعض أفضل النظم الإنسانية في «الحرب المقدسة» على النظم التي تخالفها. ولكن خطورة هذا الفكر في حقيقة الأمر أنه يحمل بين طياته ولدى معتنقيه، بداية ما قد يبدو أنه «نقيض الأطروحة» للمضمون ذاته، وهو ما يدفع المجتمعات الديمقراطية إلى حالات محددة لاتباع سياسات متناقضة مع مفهوم الديمقراطية ذاته. فلو اتبعنا فرضية الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلاً للسلم في سياستها، أو الفرضية المغلوطة بأن الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضا، فإننا نجد أنفسنا أمام بداية الطريق إلى الخطر. وهذا ما حدث عندما تجملت دويلة أثينا سياسيًا واعتبرت نفسها سامية على غيرها من الدويلات المجاورة، فاتبعت سياسة خارجية عنيفة، فصارت دويلة معتدية، فانتهت بالقضاء على واقعها الديمقراطي. وهو ما حدث نفسه في مناسبات أخرى على رأسها الديمقراطية الألمانية عندما سقطت «جمهورية فايمار» لصالح الطغيان النازي، والأكثر استغرابًا هو أن سقوطها أتى من خلال الديمقراطية ذاتها التي أفرزت الحزب القومي الاشتراكي (النازي) بزعامة أدولف هتلر، إلى مقاليد الحكم.
رابعًا: يدخل المفكّرون في فرضية نوع من الصراع بين الخير والشر على أساس الديمقراطية مقابل النظم غير الديمقراطية، بما يعيد للذاكرة الفكر الأثيني السائد خلال تجربتها الديمقراطية عندما وضعت لنفسها معيار السمو على باقي الدويلات اليونانية ولجأت لسياسات توسعية. كذلك يعيد إلى الذاكرة أيضًا مفهوم الحروب الدينية على أساس السمو الديني، كما حدث في الحملات الصليبية، التي اتخذت لنفسها ساترًا لسياساتها التوسعية على أساس سمو المجتمع المسيحي على غيره. ويبدو أن مثل هذا الفكر ليس بعيدًا عن التطبيق الآن على خلفية فرضية أن الديمقراطيات لها مهمة مقدسة نحو المجتمعات غير الديمقراطية بما لا تأخذ معه في الاعتبار تطورات هذه المجتمعات وأنها إما غير قادرة على الديمقراطية أو أنها بحاجة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية لاعتناق النظام الديمقراطي السليم، والأهم أن يكون هذا النظام متناسبًا بل ومتسقًا مع تركيبتها السياسية والاجتماعية.
خامسًا: يبدو وجود خلط كبير بين فكرة السمو الديمقراطي للنظم السياسية والمنتج السياسي المستخرج منه. فصحة النظام ومناسبته ليستا بالضرورة ترجمةً لصحة السياسة ذاتها، ذلك أن كثيرا من النظم الديمقراطية لا تنتج عنها سياسات سليمة أو حتى حكيمة أو منطقية، خصوصا أن صحة النظام لا تعني بالضرورة صحة سياساته. والمثال الذي يرد إلى الذاكرة حاليًا – وسبقت لي إثارته في أحد المقالات السابقة - هو أن أول تجربة ليبرالية في الشرق الأوسط برمّته كانت مصرية، ولكنها وئدت على أيدي نظام بريطاني شبه ديمقراطي في عام 1882. إن سلامة هيكل النظام أو عقيدته تختلف عن سلامة سياساته، وهذه قاعدة لا بد أن تؤخذ في الحساب عند خلط السياسة والفكرة بالحاضر والماضي.
لقد طرح المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما في كتابه الشهير «نهاية التاريخ وآخر رجل» فرضية أساسية، هي أن العالم وصل إلى غايته الفكرية والحضارية المنشودة في التركيبة الغربية الحالية المبنية على أساس الديمقراطية والحقوق الأساسية والرأسمالية. ولا غضاضة في أن نعترف بأن الديمقراطية تظل في معظم الأحيان من أفضل النظم السياسية المتاحة للشعوب، غير أن المعضلة الفكرية الحقيقية تكمن في بعض الأطروحات السابقة حول «الحتمية التاريخية» التي أقرّها فوكوياما وأمثاله حول مسار المستقبل المرتبط بالتاريخ، وهو الخطأ الحتمي نفسه الذي وقع فيه مؤسس الفكر الشيوعي كارل ماركس قبله بقرن ونصف من الزمان عندما فرض على المستقبل مسيرة لا مناص عنها على أساس مؤشرات التاريخ وتفسيره لها.
وهنا يشير النموذج الأثيني إلى عكس ذلك أيضًا؛ فالديمقراطية والتوجه الليبرالي، رغم أنهما من أفضل ما توصلت إليه البشرية لأغلبية المجتمعات، فهما ليسا بالضرورة مستمرين أو غير قابلين للتطور أو حتى غير قابلين للانتكاسة.. ذلك أنه مع الإيمان باستمرارية تاريخ الفكرة، فإن نهاية تطورها هي لحظة إعلاننا لنهاية إنسانيتنا، فتقديري أن أخطر ما يمكن أن يواجهنا اليوم هو وجود ديمقراطية بلا ديمقراطيين تمامًا كما نخشى من وجود ديمقراطيين بلا ديمقراطية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.