صنعاء.. الصراع بين التقليدية والحداثة

بطولة المدينة وتنوّع الساردين للروائية اليمنية نادية الكوكباني

صنعاء.. الصراع بين التقليدية والحداثة
TT

صنعاء.. الصراع بين التقليدية والحداثة

صنعاء.. الصراع بين التقليدية والحداثة

تُشكِّل رواية «صنعائي»، للقاصة والروائية اليمنية نادية الكوكباني، منعطفًا مهمًا لجهة تعاطيها مع مدينة صنعاء كبطل حقيقي من أبطال الرواية، وعنصر فاعل من عناصرها الرئيسية التي هيمنت على مدار النص منذ جملته الاستهلالية حتى الجملة الأخيرة التي ختمت بها الرواية وكانت حاضرة بقوة حضور الكائن الحي تمامًا، فهي تتنفس، وتشعُر، وتُحب، وتُحاصَر، لكنها لا تموت لأنها خالدة في عقول اليمنيين وقلوبهم، ونابضة في وحدات الدم التي تجري في عروقهم وشرايينهم. مِن هنا فإنّ أي دراسة نقدية لهذه الرواية سوف تكون قاصرة ما لم تأخذ صنعاء في الاعتبار وتضعها في مقدمة الشخصيات، ذلك لأنها الشخصية الرئيسية التي تُهيمن على المسار السردي ولا تترك لبقية الشخصيات على الرغم من أهميتها إلاّ أن تكون شخصيات ثانوية أو مؤازرة في أفضل الأحوال.
لا شك في أن صنعاء هي القطب المغناطيسي الجاذب لكل الأحداث والشخصيات، بدءًا من الرواة الأربعة للنص وهم صبحية، وحميد، وغمدان، وحورية المسك، وانتهاءً بـ«الفندم» الذي يحب هذه المدينة بطريقته «الأنانية» الخاصة التي أوصلت البلاد إلى شفير الهاوية.
تقوم هذه الرواية على بنية معمارية رصينة يمكن أن نردّها إلى التخصص الدقيق للكاتبة، فهي مهندسة معمارية متخصصة في نظريات التصميم المعماري، وقد وجد التصميم الهندسي الدقيق طريقه إلى الرواية فحبَكها مثل تُحفة فنية تماهى فيها جمال الشكل مع عظمة المضمون، ليخلق في خاتمة المطاف نصًا من نسيج وحده، كما يحتفي بالعديد من عناصر الترقب والمفاجأة والإدهاش.
ثمة أسرار كثيرة وشخصيات غامضة في هذه الرواية، أولاها شخصية جبران علي، والد الراوية صبحيّة، والمرأة الغامضة حورية المِسك، ورجل المأدبة، والغامض الكبير حميد، وشخصية الفندم الأكثر غموضًا لأنها هي الأقدر على ملء المساحات المختفية في النص.
لا تُعوِّل الكوكباني على عنصر محدد من عناصر الرواية كالحدث، أو الشخصية، أو الزمكان، أو اللغة، ذلك لأن رهانها ينصب على معالجة الحدث بطريقة فنية تكشف عن التناغم الدقيق بين العناصر آنفة الذكر بطريقة لا تسمح بتسيّد عنصر على آخر، وإنما تتيح لها أن تتناضح ويغذّي بعضها بعضًا مثل الأواني المستطرقة، إذ تبدو كل الشخصيات على مستوى واحد من البوح والمكاشفة وإن اختلفت الأدوار، وتقاطعت المصائر.
يتصاعد عنصر التشويق منذ الفصل الأول الذي يلتقي فيه حميد بصبحيّة ويُحبها، لكنها لم تكن المرأة الوحيدة التي تستقطب مشاعره، فهو مُوزَّع بين زوجته، وحورية المسك في الأقل، هذا إذا وضعنا جانبًا النساء الثلاث اللواتي أحبهنّ في صباه وشبابه. ومع ذلك فإنه خاطب صبحية قائلا: «أحبكِ يا زهرة ويا نجمة في الفضاء المعلق مثل فتى قروي فتنتهُ المدينة وبهجتها. أنا في مقام الحُب، بل هو مقام الوجد الذي سيبعثني للحياة من جديد صُبحيتي» (ص125). وإذا كان حميد معلّقًا في مقام الوجد فعليه أن يفي بشروط المحبة والتوحّد بالمحبوبة عن طريق الزواج، لا أن يطرح عليها سؤالا جارحًا مُدمرًا من قبيل: «كم عرفتِ قبلي من الرجال؟» (ص168)، ليخذلها ويكشف لها أنه مجرد حبيبٍ من ورق، وعاشقٍ من أوهام لم يقدِّر جرأتها وهي تمشي معه في شوارع صنعاء القديمة من دون أن تقيم وزنًا لرأي الناس لأنها تحبه بصدق ولا تجد غضاضة في التعبير عن مشاعرها الداخلية لرجل أحبته بكل جوارحها واطمأنت إليه من دون أن تعرف ماضيه الغامض الذي سوف يتكشف تباعًا.
يمتلك حميد ثقافة واسعة، ومعرفة جيدة بالفن التشكيلي، أسهمت في توسيع المساحة المشتركة بينهما، وأتاحت لهما تكرار اللقاءات سواء في مرسمها أو في بعض المقاهي المبثوثة في قاع المدينة القديمة. فهي أصلا فنانة تشكيلية مبدعة تنجز أعمالا لافتة للانتباه، لكن حميد طعنها في الصميم حينما اعتبرها امرأة عابرة في حياته، ولم يتخيلها أمًا لأطفاله القادمين، وهي التي رفضت أن تقيم أي علاقة عاطفية قبل أن تتعرف عليه لأن نقطة النور الكامنة في قلبها هي التي قادتها إليه.
تتكشف شخصية حورية المسك حينما تبوح لصبحية بكامل قصتها العاطفية مع حميد الذي لم يفكر بها كزوجة أيضا لأن وهج الحُب، من وجهة نظره، يذوي عندما يصل إلى مرحلة الزواج.
يزيل غمدان الصِبري جانبًا من الغشاوة حينما يبوح بقصة والده الذي قُتل أمام البنك فلقبوه بالسبع، لكن المتخاذلين والفارّين من أرض المعركة أو «حصار السبعين يوما» عادوا ليسطّروا بطولاتهم المُختلقة ويقولوا بالفم الملآن: «لن يحكمنا أبناء المناطق الشعبية ونحن وجهاء القوم» (ص223).. في حين أن هؤلاء الشعبيين هم الذين صمدوا بوجه القوات الملكية ومنعوها من الاستئثار بالسلطة ثانية.
ربما تكون الرسالة التي خبأتها الأم عن صبحية لمدة تسع سنوات هي التي أماطت اللثام عن كل شيء، فعرفت أن والدها كان مناضلا، وأن جوهر الصراع في المجتمع المدني كان بين القوى التقليدية التي تخشى من قوى الحداثة والمدنية التي جسّدها شباب الجيش وشرائح واسعة من المجتمع المدني أثناء الدفاع عن مدينة صنعاء المحاصرة.
لم تترك الكوكباني تيمة إلاّ وطرقتها في هذه الرواية التي تجمع بين الأدب والفن، والتاريخ والسياسة، والحب والخيانة، والسجن ودهاليزه السرية في صنعاء، وبالذات «سجن القلعة» الذي كانت تزج فيه السلطات المجانين الذين يصرخون طوال الليل ليمنعوا السجناء حتى من نعمة الإغفاءات الخاطفة!
يمكن القول إن حميد ووالدها فضّلا الهرب بدلا من المواجهة والتصحيح، فلقد هرب الأب أمام حفنة من الانتهازيين، بينما هرب «العقيد المتقاعد» حميد أمام ثلة من الفاسدين سوف ينهبون ثروات البلد ويضعون مقدّراته بيد عائلة واحدة أو شخص واحد سوف يظل جاثمًا على صدور اليمنيين نحو أربعة عقود تقريبًا. يسلّط الفصل السابع الضوء على شخصية «الفندم» الذي سأل الراوية عن أبيها وكأنه يعرف جميع المناضلين اليمنيين، لكنها اكتشفت بحس الأنثى أن الرئيس الذي يصافحها ويربت بيده الأخرى على يدها إنما يوحي بإعجابه بها، ورغبته الفاضحة فيها. إن هذا المشهد الذي استمر لبضع دقائق معدودات يكشف للقارئ دناءة النفوس الصغيرة التي لا تتناسب مع منصب الرجل الأول في الدولة.
لم تهمل الكوكباني الجانب السياسي منذ ستينات القرن المنصرم حيث يصادف القارئ أسماء الرؤساء الستة الذين تناوبوا على حكم اليمن، وهم عبد الله السلال، عبد الرحمن الإرياني، إبراهيم الحمدي، أحمد الغشمي، عبد الكريم العرشي، وعلي عبد الله صالح الذي حوّل البلاد إلى ضيعة تابعة له ومسرح لحروبه العبثية التي سحقت البلاد والعباد.
كانت دعوة القصر الجمهوري نقطة مفصلية جمعت العديد من النقائض والأشخاص الذين أسهموا لاحقًا في حل العقدة الروائية، حيث يأتي حميد وغمدان في زيارة لمرسمها وكل واحد منهما يحمل الصورة الجماعية التي التقطوها مع الفندم في القصر الرئاسي كي تعرّف الناس بتاريخ والدها وبتضحياته الجمة من أجل الوطن. وافقت صبحية على الفكرة شرط أن يتركوا لها حرية اختيار المكان الذي ستضع فيه الصور الجماعية الثلاث.
وفي الختام لا بد من التنويه ثانية بأن لغة الكوكباني السلسة هي عنصر مُضاف من عناصر النجاح التي تشتمل عليها هذه الرواية الجميلة شكلا ومضمونا.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.