يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

أسئلة «الإصلاح السياسي» أم «التنوير» أيهما يجب أن يأتي أولاً في المملكة بعد عقد ونصف من الإرهاب

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»
TT

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

تتواتر الأخبار أخيرًا على المستوى المحلي حول قرار «البيت السياسي» السعودي بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حسم تنفيذ «القصاص» في من صدرت بحقهم أحكام قضائية من الإرهابيين الملطخة أيديهم بالدماء من جماعات العنف الديني المسلح، من الطائفتين الشيعية والسنية.
عبرت الرياض، في عقد ونصف العقد، منعطفات سياسية وجودية في مواجهة صعود موجات إرهاب غير مسبوقة عالميا، استهدفت الداخل السعودي. كانت مجاميع «الإسلام السياسي» المصنفة كإرهابية محليا من «الإخوان المسلمين» إلى «القاعدة» إلى حركات المجاميع الشيعية شرق السعودية إلى «داعش»؛ تسعى جاهدة لخلخلة الأمن للدولة الأقوى في محيطها الإقليمي.

في عام 2008، بينما كانت «القاعدة» تدخل في حالة موت سريري على أيدي رجال الأمن السعودي، كان أمير مكافحة الإرهاب، الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية حينها، وولي العهد السعودي اليوم، يقول لريتشارد هولبروك، السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة: «الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»، بحسب تقرير منشور في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. كان الجرح الوجداني للذاكرة الوطنية عميقا.
لكن قبل الذهاب بعيدا في هذا الاستقراء الصحافي، لا بد من توطئة فكرية سريعة؛ ففي عام 1997 أصدر دانيال برومبرغ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون الأميركية، كتابا بعنوان: «التعدد وتحديات الاختلاف.. المجتمعات المنقسمة كيف تستقر؟»، بالمشاركة مع مجموعة من أساطين العلوم السياسية وعلماء الاجتماع السياسي، الباحثين والمتخصصين في التغيير الديمقراطي في دول العالم الثالث.
تحت مقالته في الكتاب المعنونة بـ«الخطاب الإسلامي وتقاسم الديمقراطية»، يشرح حالة سياسية سماها «الحداثة التكتيكية والأصولية الإصلاحية»، قائلا: «الحداثة التكتيكية تقتضي الاستخدام التلقائي للموضوعات المستحدثة لدفع برنامج أصولي إلى الأمام. وبالمقارنة بأشكال الآيديولوجية الإسلامية (...) التي يمكن أن تتخذ شكلا سياسيا منظما، فإن الحداثة التكتيكية أداة خطابية يستخدمها الإصلاحيون (يقصد المؤلف الإصلاحيين الأصوليين) لتأمين دعم المجموعات الاجتماعية، مثل الأنتلجنسيا (الأنتلجنسيا كأبسط تعريف: المثقفون والمتعلمون ذوو النزعة النقدية التقدمية)، التي بخلاف ذلك لن تؤمن بالمشروع الأصولي».
ويضيف شرحا مستفيضا للفكرة، نقتطع منه: «ترتبط الحداثة التكتيكية ارتباطا وثيقا بالأصولية الإصلاحية (...) تتلاءم الطبيعة النفعية للإسلام (الإصلاحي) من حيث الجوهر مع برنامج تدريجي، يَعقِد الإسلاميون من خلاله تحالفات مع مجموعات شتى. فالإصلاحيون يتكلمون بلغة أصولية عندما يخاطبون أتباعهم الخُلّص، ويستحضرون أفكار الأمة والشريعة الإسلامية والوحدة، ولمخاطبة حلفائهم المحتملين من الطبقة الوسطى المهنية والأنتلجنسيا ورجال الأعمال، يعمد الإصلاحيون (الأصوليون) إلى انتقاء الأفكار والموضوعات والرموز التي يستقونها من مخزن الحداثة». في هذا السياق، يلاحظ خبراء حركات العنف المسلح أن «الإرهاب الديني» في المنطقة يعيد تكرار نفسه في دورة زمنية تقارب كل 20 - 25 عاما. وفي كل مرة تعود بمفاهيم إرهابية أكثر تطورا على مستوى عقلها السياسي وتجدد أفكارها وطرائق بحثها عن منابع اقتصاديات إرهاب مبتكرة، فضلا بالطبع عن الغرام الأصولي بكل ما هو حديث في التقنية.
تقع السعودية بثقلها الديني موضع القلب من العالم الإسلامي، في مرمى هذه الجماعات «السنية والشيعية»، وهي تقف كند صلب يحارب «ذهنية التطرف الديني سياسيا» بكل أطيافها المذهبية كثقل اعتدال في كل أزمات المنطقة.
ومع ذلك، التجربة السعودية مع الإرهاب الحديث في العقد ونصف العقد الأخير لافتة للنظر في نجاحها الباهر في جوانب وتراجعها في جوانب أخرى يمكن تطويرها كمنظومة مرافقة لمعالجاتها الأمنية، التي ما إن أدخلت تنظيم القاعدة في حالة موت سريري حتى استيقظت المنطقة على شبح «داعش»، الذي يفوق «القاعدة» وحشية ويجد ملاذات آمنة في بيئات جغرافية محاذية.
بعد أيام من فاجعة باريس، ظهر على قناة فرنسية باحث فرنسي يُلقي بتهم عشوائية عن تمويل السعودية لـ«داعش» وعن كون التنظيم منظمة «وهابية» تتبنى الأدبيات السعودية.. إلخ من الحديث المثير للشفقة المعرفية.
فالرياض تتعرض لهجمات من «داعش» أكثر مما يتلقى العالم الغربي، والرياض في خندق العالم المتحضر، والظل المُجنّح لصقورها في القوة الملكية الجوية يطارد الإرهابيين شمالا وجنوبا، وتقصف طائراتها «داعش» مع فرنسا وبقية قيادات المجتمع الدولي. والسعودية قدمت تجربة فريدة على مستوى القضاء على «القاعدة»، بشهادات غربية مرموقة، وهي أحد أنشط ممولي صندوق مكافحة الإرهاب العالمي، ولم تتبع سياسة طائفية ولا مرة واحدة في حياتها السياسية، ودعمت نوري المالكي كممثل للدولة العراقية في أكثر أوقاته إساءة للسعودية.. نهر طويل من الحجج والأدلة التي ليس هناك أسهل من استحضارها لتقديمها كمرافعة للتأكيد على نزاهة مواقف الرياض السياسية والأخلاقية من الإرهاب.
لكن بعيدا عن النرجسية الوطنية، وإذا استثنينا القراءات المغرضة من قبل بعض المهتمين في العالم الغربي، ومثقفي الداخل، فهناك شريحة واسعة من الجادين لم تستطع الرياض تقديم خطاب «ثقافي» مقنع لها يشرح ويرافق دوافع الرياض السياسية.
إضافة إلى أن الخطاب الإعلامي والثقافي والسياسي المؤسسي لم يحدّث آليات تأثيره في الجماهير بمختلف المستويات الثقافية، فالخطاب المقنع لطبقة الأكاديميين يتطلب مهارات مختلفة عن الخطاب الموجه لطبقة المثقفين، ومختلفة عن الموجه كذلك لطبقة المتابعين التقليديين.
حسنا.. من أين جاءت تهمة إلصاق «داعش» بـ«الوهابية» المرتبطة بالتالي بالهوية أو اللمسة السعودية؟ هناك خلط متعمد من قبل «الحركيين الإسلاميين» بفرض العنف كجزء من هوية المنظومة «السلفية» المحلية، رغم أن «الإرهاب الإسلامي المتطرف الحديث» حاضنته التنظيرية على مستوى العالم العربي مصرية من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» وما تفرع منها من أذرع أكثر تشددا. بل وحتى بعض قيادات القاعدة الأوائل المؤثرين عسكريا كانوا من بعض كفاءات الجيش المصري، مثل عصام القمري الذي كان برتبة رائد في الجيش المصري، ومحمد إبراهيم مكاوي، وهو مكتشف الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس «القاعدة» في العراق، إضافة إلى زعيم القاعدة اليوم أيمن الظواهري (مصري)، فضلا عن عبد الله عزام الذي يحمل الجنسية الفلسطينية، وأبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش (عراقي).
لا بصمات دامغة سعودية في ما يطلق عليه «أدبيات الجهاد العالمي الأولى» إلا ما جاء لاحقا ممثلا في شخص الإرهابي أسامة بن لادن، وشهرته كزعيم في الحقيقة هي كتنفيذي بارع وممول سخي لا كبصمات فكرية تنظيرية ابتدعها، بل كان تحوله السياسي متأثرا بأدبيات «الإخوان» في أفغانستان. وهو ما يتفق عليه الباحثون المحليون منهم والغربيون، مثل الباحث النرويجي توماس هيغهامر والصحافي الأميركي لورنس رايت، من أن بذور الحركة الحزبية والعنيفة تجلت في «الجماعات السلفية» التي تبنت الأدبيات الإخوانية، بل إن الباحثة الأميركية كارينا أرمسترونغ بلغت حد نفي الجوهر القتالي لـ«السلفية التقليدية».
أحد أهم الفوارق بين الحركات «السلفية» والحركات المتبنية لأدبيات الإخوان المسلمين، أنها ليست ذات طابع ارتدادي على الداخل «الوطني» بأعمال عنف، ومعروف للمتابع قصة المعسكرين «الجهادية في أفغانستان المتبنية للمنهج السلفي.. والأخرى المتبنية للأدبيات الإخوانية». فالمنضمون من السعوديين لمعسكر جميل الرحمن «شيخ السلفيين» هناك إبان الحرب الأفغانستانية عادوا إلى البلاد من دون أي حراك عنفي يمس السلم الاجتماعي. على عكس العائدين من المعسكر الإخواني مثل «القاعدة» وزعيمها بن لادن المتأثر بالأدبيات الإخوانية، والذي ارتد على الداخل السعودي بأعمال تخريبية وتفجيرية، واستهداف للأبرياء والمدنيين.
الفرق الجوهري بين العقيدة «السلفية» والعقيدة «الإخوانية»، هو أن الأولى تميل للتشدد فقهيا في فضاءات الحقوق الاجتماعية والثقافية مثل حقوق المرأة والتسامح مع الحريات الفردية، لكنها تكاد تكون تميل للعزلة في تركها الخوض السياسي لرجال السياسة.. في المقابل تجد العقيدة الإخوانية متخلفة ومتطرفة سياسيا لكنها متقدمة فقهيا من ناحية المرأة وفضاءات الحريات الشخصية، وهذا ما تجلى في حكم «الإخوان» لمصر، فبينما كان مرسي يصدر استكمالا دستوريا يضعه فوق القانون ويفرض نفسه كحزب ديني شمولي، فإنه كان في الوقت نفسه يجدد للمراقص الليلية تراخيصها لثلاث سنوات.
في لقاء مع نادر بكار، مساعد رئيس حزب النور «السلفي» المصري، قال إن «(الإخوان) أول من يستدعون السمت السلفي عند الحاجة للحشد الديني بإطلاق اللحية مثلا رغم أنهم في الظروف العادية يحلقونها».
والحال أن «الوصمة الوهابية»، كما يحب الغربيون تسميتها أو «السلفية» بشكل أدق لـ«داعش»، هي وصمة «ثقافية» وليست وصمة «سياسية». الجماعات الإرهابية أخذت من «الإخوان» تطرفها المسلح، وأخذت من «السلفية» تشددها الفقهي. فأصبح لدى المتابع العادي الغربي أو حتى في العالم العربي خلط بديهي، فهو يرى جهاز «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في مناطق حكم «داعش»، ويستلهم حضور هذا الجهاز في الحياة السعودية، ويرى السمت الديني من اللحية إلى تقصير الثوب لـ«داعش» مشابها لأدبيات «السلفية» السعودية، ويشاهد «داعش» يستشهد بذات المراجع الدينية مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن بقراءة مجتزأة مشوهة، فمن الطبيعي أن يُضلل بتفصيلات معرفية تجعله لا يفرق بين الهوية السياسية والأخرى الثقافية لتنظيم معقد كـ«داعش» في مشهد إعلامي ملئ بالمتطرفين والانتهازيين الذين يجدون شرعية ومنابر ليكرسوا هذه النظرة.
الاحتواء السياسي بين التيارات السلفية والإخوانية ومنظريها دائما يتمركز حول امتلاك الشرعية الدينية التي تبدو في عمقها العلمي تميل للجانب السلفي «شعبيا» فيما تميل لصالح «الإخوان» كفة الشرعية السياسية.
يصنف الفلاسفة حقب التنوير إلى ثلاث مراحل، الأولى هي التنوير البريطاني القائم على قيم الفضائل الاجتماعية، ثم التنوير الفرنسي القائم على العقلانية ضد القطعية الدينية، وأخيرا التنوير الأميركي القائم على الحريات السياسية.
إشكالية الرسالة الأميركية المؤمنة بالديمقراطية و«تنوير الحريات» أنها تريد تطبيقها في المنطقة دون شرطي التنوير اللذين سبقاها، وهما تنوير قيم الفضيلة الاجتماعية وقيم تطوير النقد الديني واحترامه كمقدس شخصي للأفراد لا كقطعيات غير قابلة للنقاش العام. لذا فقد جاءت بوعود حرية لمجتمعات ترزح تحت ضغطي الأمية والآيديولوجيا الدينية باستقطابها أبناء الطبقات المسحوقة في المجتمعات. فكانت النتيجة فوضى «الربيع العربي» الذي باتت الجماعات الإرهابية تنمو فيه كما ينمو العشب في الخرائب. تستطيع السعودية، عملاق الصحراء، أن تعيد تشكيل المعمار المعرفي الديني في العالم الإسلامي، بفضل قيمتها الدينية والسياسية والاقتصادية، واليوم العسكرية، بأن تتبنى مشروع هوية داخليا يؤنسن شخصيتها الدينية التي تحارب الإرهاب على الأرض بلا هوادة. وتعيد فتح باب الاجتهاد في الفقه «الاجتماعي»، وقد يكون مشروعا ملهما لمحيطها.
لكن الواقع يشير إلى أن السعودية الحديثة ليست قادرة بعد على إنتاج «مفكرين دينيين» سعوديين، لأن المؤسسات في الواقع كجامعات وجهات حكومية تخرّج «مشايخ دينيين» لا «مثقفين دينيين» قابلين للتطور ليصبحوا فقهاء.
إشكالية هذا الواقع الذي لا ينتج «مفكرين دينيين» أنه نابع من أن قيمة وتقدير «شيخ الدين» التقليدي يقومان على القدرة على الحفظ والاستظهار، لا على الفهم والنقد والتنقيح والتكييف العصري للمفاهيم الدينية. وبالتالي هي لا يمكن لها كمؤسسة تقليدية أن تقود خطابا تطويريا داخليا، ليس لأنها مستفيدة من بيروقراطيتها كمؤسسة فقط، بل ولأنها لا تملك مهارات معرفية يشترطها هذا التحديث والترّقي.
التنوير الأوروبي أعطى درسا عندما اعترف بأنه لم يكن لينجح هذا النجاح لولا تبني الكنيسة متمثلة في القس الأشهر «توما الإكويني» ومجموعته من القساوسة الذي عكفوا على دراسة الفلسفة وعلم المنطق.
كانت تلك أولى مقاربات البعد الروحي للدين والبعد العقلاني للعالم الحديث الذي يبحث عن المنطق والقصة القابلة للتصديق بأدلة «علمية».
الرياض، بثقلها الاستراتيجي في المنطقة، قادرة على تقديم رؤية متوثبة لوطن فتي وطامح لغد أفضل وسعيد بمكتسباته الوحدوية الوطنية، لكن هذا لن يتحقق إن لم يحافظ على مكتسباته الوجودية بالسعي نحو وقف دورة الإسلام الراديكالي الرابعة، بعد دورة «الإخوان المسلمين»، ثم «القاعدة»، ثم «داعش».
يرى الدكتور خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في المغرب، أن «النخبة الدينية عموما - و(الفقيه) على وجه الخصوص - قادت عبر زمن ممتد مسيرة الفعل المجتمعي الإسلامي. ولم يكن ذلك بفعل القوة المادية العسكرية للفقيه، وإنما بفعل الاختيار الطوعي الجماعي، الذي كان ينظر للفقيه باعتباره الوجه العملي للمرجعية الإسلامية. ومع تحولات المجتمعات الإسلامية، وتقهقر ذهنية الفقيه بتركه الاجتهاد وانغماسه في التقليد وفقه المختصرات ازداد تقهقر وعي الأمة».
ومع الهجمة الاستعمارية، وبعد ميلاد الدولة القُطرية، ازداد عجز النخبة السائد عن مواجهة الإشكاليات المتراكمة داخليا وارتباط الأزمة الحضارية بالخارج. فبقي الوعي الديني مهموما بمركزية الدفاع عن الدين وحصونه المهددة من الخارج الاستعماري، ومن الداخل المبتعد عن عقيدة السلف الصالح فهما وتنزيلا، بحسب يايموت.
هكذا انتقلت النفسية الدفاعية، التي اعتبرت العقيدة وعلم التوحيد دفاعيين ومكتفيين بذاتهما، إلى ذهنية عامة ومنطلق مركزي لرؤية للعالم، يتم من خلالهما عرض تصور الفقيه وارتباط منظومته المعرفية بغيرها من المنظومات العلمية المستجدة (سياسة، ثقافة، اقتصاد، فن).
تستطيع السعودية اليوم أن تتبنى تجربة بناء معمار معرفي «سلفي» جديد كمناهج دراسية لكليات شريعة محددة في بعض الجامعات تكون منفتحة وتشجع على الاجتهاد الفقهي «الاجتماعي» كأبحاث ودراسات ومناهج بحث، وتخرّج هذه الكليات طبقة مثقفة دينيا وفقهيا تحت مظلة الدولة، تسهم وترسم الرؤى الفكرية للأجهزة الحكومية الدينية، من المنظومة التعليمية إلى منظومة الأجهزة الدينية التي تتعامل مع الجمهور، مثل «هيئة الأمر بالمعروف»، بحيث يكون هناك إضفاء ديني فقهي محلي على الخطوات التنموية التنويرية التي ترغب الدولة في تطبيقها، لكن الفهم الديني أحيانا يكون عائقا أمامها، مثل حلول البطالة في أوساط السعوديات مثلا.
يرى الدكتور مصطفى حجازي، أستاذ علم النفس والمفكر اللبناني، في كتابه اللامع «التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، أنه «لا يُمْكِنُ للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غُبنًا، فالارتقاء إما أن يكون جماعيًا عامًا، أو هو مجرد مظاهر وأوهام». ويضيف: «يتهرب الرجل من مأزقه بصبه على المرأة من خلال تحميلها كل مظاهر النقص والمهانة التي يشكو منها في علاقته مع المتسلط وقهره والطبيعة واعتباطها. ولذلك يفرض على المرأة أكثر الوضعيات غبنًا في المجتمع المتخلف. إنها محط كل إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية على حد سواء. وهي تُدفع نتيجة لذلك إلى أقصى حالات التخلف. لكنها من هوة تخلفها وقهرها ترسّخ تخلف البنية الاجتماعية من خلال ما تغرسه في نفوس أطفالها من خرافة وانفعالية ورضوخ».
قد يستغرق بناء مؤسسات جادة كهذه أكثر من 15 سنة لتبدأ في التأثير في المشهد بعد غربلة خريجيها واختيار المثقفين دينيا المخلصين منهم كوجاهات اجتماعية دينية لديها منطق معرفي بجانب منطقها الديني «السلفي» يجعلها أكثر تسامحا اجتماعيا.
بينما يصر الكثير من المحللين على فرض استلهام تجارب خارجية محيطة على السعودية لتحريكها، يتجاهل الكثيرون أن السعودية تملك مقومات أن تكون نموذجا بدورها، ولديها من الكفاءات والتجارب الوطنية الداخلية والخارجية ما يجعل إعادة صياغتها ثقافيا ليست أمرا صعبا لو وجدت رؤية استراتيجية سعودية جديدة، لديها فلسفتها في خلق نموذج تنوير يشبهها ويتفهم طبيعة تراكيبها الاجتماعية الثرية التي هي مصدر قوة لـ«الهوية السعودية» الجامعة.
نحت الهوية «الوطنية» لعقد ونصف عقد كامل قادم، يتطلب ابتكار أنماط تواصل جماهيري مختلفة مع الداخل والخارج.. وبقدر ما تخطو الرياض خطوات انفتاح فقهي «اجتماعي»، سيتم استثمارها في تسويق صورتها العامة، بقدر ما ستشعر التنظيمات الإرهابية التي تتبنى الأدبيات المتطرفة كفقه اجتماعي بوحشة آيديولوجية في المحيط الإقليمي، وبقدر ما سيصبح الأصدقاء أكثر ثقة في كون الرياض حليفا للمجتمع الدولي يستحق الدفاع عن قيمه وعن قيادته الاعتدال الديني إقليميا.
وبالتالي، تخلص نفسها من شبهها بالتنظيمات المتطرفة كـ«فقه اجتماعي» وتجرد «الإخوان المسلمين» ومنظريهم من ميزة الفقه المنفتح اجتماعيا والمُضَلِل سياسيا.
تستطيع السعودية اليوم أن تقدم نموذجا فريدا ربما للمرة الأولى في المنطقة يمزج بين «اليمين الثقافي الليبرالي» المحافظ سياسيا والتنويري معرفيا، المؤمن بأن الدولة (المؤسسة) هي من يجب أن يقود التغيير والتنوير ومن يصنع النخبة. لكنه للتعبير عن نفسه لشرائح الجماهير المستهدفة يستخدم المثقف حججا ذات أدبيات مدنية تملك مفردات عقلانية قادرة على مخاطبة طبقة المثقفين في الداخل والخارج ومراكز الدراسات والمؤسسات الفكرية.
وعلى النسق نفسه، تتبنى الدولة تيارا دينيا بكل سماته «السلفية» لكن بجوهر معرفي أكثر إيجابية يسهم في دفع التنمية الاجتماعية لا عرقلتها. وحتى التعايش بين الهويات الطائفية في السعودية لا بد أن يقاد من التيارين اللذين يتناغمان في خدمة الدولة الوطنية، فتيار اليمين الليبرالي من المثقفين سيقدم حججه الفلسفية العقلانية المتمدنة، فيما الشخصية الدينية المتطورة للمؤسسة الدينية تدفع في اتجاه مفاهيم فقهية دينية حديثة تكرس الهوية الجامعة، السعودية. دون إغفال أن يجري التحديث المعرفي ذاته على المجاميع الشيعية المتطرفة ذات المفردات المدنية الحداثية منهم أو مجاميع الأدبيات الدينية بخلق تيار شيعي وطني بذات قيم الحداثة الثقافية والدينية لكن داخل المجاميع الشيعية.
لتكن فلسفة «الرؤية السعودية» الحديثة هي الروح التي تحرك مؤسسات الدولة في منظومة متناغمة تملك رؤية منسجمة يقوم فيها كل بدوره، لينحت «الهوية السعودية» ويعيد إنتاجها طامحة ليس إلى تغيير تكتيكي وقتي بل لتغيير استراتيجي لو نجح ربما يغير تاريخ المنطقة للأبد.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».