مثقفون عرب يحيون ذكرى محمد مندور.. ويستعيدون أفكاره

احتفى مثقفون مصريون وعرب الأسبوع الماضي بذكرى مرور خمسين عاما على رحيل شيخ النقاد محمد مندور، أحد دعاة التجديد الأدبي، وصاحب «المنهج الآيديولوجي» في النقد، الذي تُوفي عام 1965 عن عمر يناهز اثنين وخمسين عاما، ألّف خلالها أكثر من ثلاثين كتابا في شتى قضايا الفكر والأدب، وترجم ثمانية كتب عن الفرنسية والإنجليزية.
عقدت الاحتفالية على مدار يومين بالمجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا في القاهرة، وافتتحها وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، بمشاركة أدباء ومفكرين وسياسيين من مصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس. تضمنت الاحتفالية سبع جلسات وموائد مستديرة لمناقشة كتابات مندور الأدبية والصحفية، التي لا تزال طرية، كما تناول الباحثون أفكاره التقدمية التي سبقت ما نادت به ثورة «25 يناير» من مساواة وعدالة اجتماعية، حيث إنه كان متأثرا بالتيار الاشتراكي الفرنسي، لكنه لم ينبهر بالحضارة الغربية كما حدث مع مبتعثين كثر، بل قام بانتقاد الديمقراطية الغربية في كثير من كتاباته.
وحول أهمية الاحتفالية، قال وزير الثقافة المصري: «مندور مثال للمثقف الشامل الواعي، فلم يكن ناقدا أدبيا فقط، بل سياسيا وصحفيا بامتياز، وله دور رائد في الثقافة المصرية والعربية، فلم يهتم فقط بالأعمال الأدبية، لكنه عمل على نقد كل التخصصات، وهو ما كان جليا واضحا في شخصية محمد مندور الذي لقب بـ(شيخ النقاد)، لما قدمه من إسهامات عظيمة في عالم الفكر والسياسة».
وقالت الدكتورة أمل الصبان، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، إن «الاحتفال بمندور إنما يمثل احتفاء بقيم التنوير والحداثة، فقد اعتنق مندور فلسفة النقد الديمقراطي، وكانت فترة بعثته التي بلغت تسع سنوات في فرنسا هي المكون السياسي والعاطفي له، فمارس فور عودته إلى مصر نشاطه الفكري، وكانت تؤرقه الوسيلة التي يطرح بها أفكاره، ووجد أن الصحافة هي السبيل إلى توصيل فكره، كما انضم إلى حزب الوفد».
وأشارت الصبان إلى أن «محمد مندور أعلن إيمانه بضرورة استقلال الأدب بمنهجه عن غيره من العلوم، وألا يأخذ بالنظريات الشكلية عن العلوم الأخرى. وما زالت كتاباته مراجع ودراسات لا يستغني عنها الباحث والأديب والناقد. تجربة مندور تجربة خصبة وتحتاج إلى دراسة ومتابعة».
وحول معاركه الأدبية، خاصة مع طه حسين والمازني، قالت: «كان مندور تلميذا مخلصا لأساتذته، لكنه كان ثائرا عليهم، ناقدا لهم بعد أن كتب تقريرا حول طريقة التدريس في الجامعة، لذلك بقي حيا في تاريخ الأمة من خلال كتاباته، بالإضافة إلى خوضه عديدا من المعارك الأدبية».
وشارك في الاحتفالية نجل المحتفى به، طارق مندور، الذي استهل حديثه قائلا: «كتب محمد مندور في عديد من فنون السرد، لكن لم يسعفه الزمن في نشر ما كتبه، كما أنه جمع في ترجماته بين الشعر والمسرح، والتي ارتبطت بالتنوير الديمقراطي، لمحاولة تصدير فكر مستنير إلى الشعب، ولذلك قمت بنشر بعض هذه الكتابات، عن (هيئة قصور الثقافة)، و(مكتبة الأسرة)».
وأوضح طارق مندور، أن أباه كان ديمقراطيا اشتراكيا وليس ليبراليا، وكانت ثورة «23 يوليو» تعبيرا عن أحلامه. «لقد كان يشارك منذ طفولته في المظاهرات ضد الاحتلال، وتم فصله من المدرسة الثانوية، إلا أن الطابع العسكري للثورة أرهق مندور وفكره، فقد كان يرى في الديمقراطية مدخلا أساسيا لأي تغيير صحيح، لذا تم منع مندور من ممارسة أي دور سياسي بعد ثورة يوليو».
بينما أكد الناقد شعبان يوسف أنه لم تكن هناك خصومة بين مندور و«ثورة يوليو»، كما أنه في الوقت نفسه ليس واحدا من رجال «يوليو»، ولم يكن منشدا خاصا لثورة «يوليو»، بل كان ناصحا رجالها. وقال: «مندور قيمة سياسية وفكرية كبيرة، كتب في النقد القديم والحديث، وتعددت معاركه الأدبية إلى اللغويات، وخاض معارك فكرية مع كثير من مفكري العصر، أمثال عباس العقاد وطه حسين»، مشيرا إلى أن «المعارك لم تكن هي السمة الأساسية التي اتسم بها مندور، لكنه كان معلما بالفعل، متأثرا في ذلك بما حصل عليه من علوم لغوية وفكرية وجمالية في رحلته إلى فرنسا».
وأضاف يوسف: «انشغل مندور بالمسرح فكتب عن توفيق الحكيم كتابا مهما، وعن مسرحيات أحمد شوقي، وكان عضوا في لجان التحكيم المسرحي منذ منتصف الخمسينات».
وقال الناقد والمترجم إبراهيم فتحي إن «مندور كان يعتمد في نقده أساسا على الانطباعات التي تخلفها الأعمال الأدبية في نفسه، وكان يرى أن من أساسيات النقد البحث عن الأصالة الفردية المتميزة للكاتب»، بينما ذهب الناقد الدكتور فتحي أبو العينين، إلى أن «محمد مندور خلال سنواته العشر الأخيرة اتجه إلى صياغة نظرية جديد في حقل النقد الأدبي، وهي (النقد الآيديولوجي)، حيث تكشف كتاباته عن نوع من الجدلية بين النقد الأدبي وممارساته السياسية ونشاطه الحزبي في (الوفد)، والطليعة الوفدية، نظرا لتأثره بالفكر الاشتراكي، والفكر الإصلاحي، ومبادئ الثورة الفرنسية».
وعن محمد مندور السياسي، أشار المفكر اللبناني، كريم مروة، إلى أن «أولى كتاباته في السياسة كانت عام 1936، ونشرها في الصحف الفرنسية. وكانت مقالات مكرسة لدعم حزب الوفد في مواجهة الإنجليز لتهيئة الشروط الضرورية لاستقلال مصر السياسي. لقد وجد نفسه مشدودًا إلى حزب الوفد، فانضم إليه، لكنه سرعان ما اختلف فكريا مع قيادات الحزب، وكانت تلك الركيزة لتأسيس الطليعة الوفدية». ولفت مروة إلى أن مندور ظل ينادي بضرورة قيام دولة مدنية تمارس دورها بشكل ديمقراطي في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، كما كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية.
وقال الدكتور عبد الرحمن حجازي، إن «مندور طور النقد من النهج النصي إلى التحليلي، ثم التأثيري، ثم الآيديولوجي»، بينما يرى الدكتور مصطفى ناصف، أن مندور كان «يفض الاشتباك» بين القضايا الأدبية والقضايا التاريخية، وأنه أول من لفت إلى أن النقد الغربي يعود في تطوره إلى التراث العربي. وأشار الباحث الأردني يوسف أبو العدوس، أستاذ اللغة العربية بجامعة اليرموك، إلى أن مندور «كان رائدا في مساره النقدي وتطبيقه النقد المنهجي، داعيا إلى تطبيق فقه اللغة، وكان يرى أن الذوق هو الحكم في كل ما يمت إلى الأدب بصلة، ومجلده عن النقد عند العرب قديما كان يمثل خطا فكريا جديدا وقتها ويربط الحداثة بالتراث».
وقال الدكتور حلمي شعراوي، المدير السابق لمركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة، إن «محمد مندور كان نموذجا لما يسمى (المثقف العضوي)، والمفكر المنشغل بكيفية توظيف فكره في الحياة الاجتماعية، فقد اشتغل في الأدب والنقد، والسياسة، والحياة الاجتماعية.. قاد مجموعات من اليسار للانضمام إلى حزب الوفد».
وأشار أحمد بهاء الدين شعبان، رئيس حزب الاشتراكي المصري الأسبق، إلى أن «كتابات محمد مندور ما زالت حاضرة بقوة، لأن كل القضايا التي كتب عنها ما زلنا نعاني منها حتى الآن، مما يؤكد جمود الوطن العربي منذ نحو سبعين سنة. فقد نادى بالعدالة الاجتماعية وحرية الصحافة، والنقد الفكري، والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي جميعها مشكلات لا يزال يعاني منها الشعب المصري. وكان يرى أن تنظيم السلطات وضمان حقوق المواطنين ضرورتان أساسيتان لبناء الجمهورية المطلوبة».
وعلى هامش المؤتمر، نظم معرض خاص لكتب مندور من إصدارات وزارة الثقافة؛ وأصدر المجلس الأعلى للثقافة عددا من الكتب الخاصة به منها «محمد مندور شيخ النقاد»، و«محمد مندور ذكريات أدبية»، كما أصدر «المركز القومي للترجمة» عددا من ترجمات محمد مندور.
وبالتزامن مع الاحتفالية أصدرت «دار الهلال» كتاب «كتابات لم تُنشر» ضمن سلسلة «كتاب الهلال» الشهرية. ويضم الكتاب بين دفتيه مجموعة من مقالات مندور التي كتبها قبل ثورة 1952، وظلت مبعثرة في مجلات وصحف مختلفة، في فترات متباينة، إلى أن أصدرها الناقد الراحل رجاء النقاش عقب وفاة مندور قبل خمسين عاما. وظل الكتاب بعيدا عن متناول القارئ منذ ذلك الوقت.
صدر الكتاب بمقدمة عنوانها «محمد مندور.. ناقدا ومناضلا وإنسانا» للناقد الراحل محمود أمين العالم، الذي كان يرى أن مندور علم من أبرز أعلام الفكر التنويري المصري والعربي الذي يجمع بين العقلانية والوطنية والرؤية الاجتماعية والإنسانية المتقدمة.. وأن آراءه النظرية تتسق مع مواقفه العملية، وتكاد حياته تكون تجسيدا حيا لفكره، فهو «ابن التراث الإنساني العقلاني عامة، والتراث العربي الإسلامي العقلاني خاصة، والثقافة العربية التقدمية في مصر بوجه أشد خصوصية، وتمكن من توحيد كل ذلك في صيغة متسقة».
وتسجل مقدمة الكتاب أنه «عندما توفي الدكتور مندور في 19 مايو 1965 شعر كثيرون أنهم خسروا رائدا عظيما من رواد النضال المخلص في بلادنا، فلقد كان مندور رائدا في الميدان الأدبي، وكان منذ أن بدأ يكتب داعية من دعاة التجديد الأدبي، وكان التجديد الذي يدعو إليه هو تجديد الأصالة والعمق، وليس تجديد (الموضة) ولا تجديد الذين يحاولون لفت الأنظار إليهم بأي وسيلة ممكنة، على عكس هذا كله كان مندور، فكانت دعوته إلى الشعر المهموس - على سبيل المثال - هي دعوة إلى الصدق.. دعوة إلى العودة بالأدب العربي إلى المنبع الوحيد الأصيل لكل أدب عظيم وهو: النفس الإنسانية».