«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

وظيفة تغري بتحقيق الشهرة والثراء السريع

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين
TT

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

«الناشط السياسي».. ظاهرة تربك المصريين

وجوه جاءت واختفت في الضباب ولم يعد يتذكرها أحد إلا بالكاد. كان «دومة»، الشاب المصري الذي يضع طاقية على رأسه، ناشطًا سياسيًا، واليوم هو في السجن. مثل عشرات آخرين طواهم المجهول، لم يأتِ اسمه على لسان أي مرشح من ألوف المرشحين لانتخابات البرلمان الجديد. وفي الجانب الآخر حملت فتيات مثل «إسراء»، ابنة القاهرة، لقب ناشطة لأكثر من سنتين، واحتلت شاشات التلفزيون، إلى أن نزل الستار وانطفأت الأضواء. ومع ذلك جاءت طائفة جديدة من هذه الشريحة التي تحمل صفة «ناشط سياسي» لتتسبب في إرباك المشهد، وإخافة المصريين من المستقبل. صراخ على شاشات التلفزيون وتهويل على واجهات الصحف.
جسم غريب خرج للمرة الأولى من قمقم الثورة واستمر يثير الفزع بعد ذلك فوق كباري القاهرة، في وقت كانت فيه البلاد تعاني من مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية جراء الانتفاضة التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وما تلاها من تداعيات. جسم غريب لكنه أخذ يتآكل وينكمش رويدا رويدا. واليوم بعد أن جرى الانتهاء من انتخاب أول برلمان في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تستطيع أن تجلس على ضفة النيل وتدفئ نفسك بشرب «خليط حُمُّص الشام» الحار من الأكواب الطويلة. وتتأمل ظاهرة «النشطاء». كيف بدأت وإلى أين يمكن أن تنتهي.

من فراغ الحياة الحزبية في مصر، وخلال أقل من أربع سنوات، طفا كثير من الأسماء على السطح. اليوم.. يسأل بائع «حُمُّص الشام» من تحت كشافات الكوبري عمن كانوا يحملون صفة «نشطاء سياسيين» في الأيام الأولى للثورة. أين اختفوا؟ يسأل عن شاب مثل وائل غنيم، الذي حقق في وقت وجيز شهرة دولية. لماذا لم يرشح نفسه في انتخابات البرلمان الحالية؟ يقلِّب البائع «الحُمُّص» ويقدمه للزبون، ويعود ليسأل مرة أخرى عن أسماء كانت تملأ الدنيا ضجيجًا عن فساد السلطة وغياب الحريات، لا إجابة. هكذا بكل بساطة. ثم ماذا عن النشطاء الجدد الذين أثاروا، لشهور، الذعر في العاصمة بسبب «القنابل البدائية»؟
كان يوجد في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك أكثر من عشرين حزبا سياسيا. كانت أحزابا هشة. وزاد عدد الأحزاب منذ «الثورة» حتى الآن إلى قرابة المائة حزب، لكنها لم تتمكن، على ما يبدو، من إقناع عامة الشعب بالانخراط فيها أو التفاعل معها. مرت من هنا جحافل الجماعات الدينية ومرت جماعات الاشتراكيين والناصريين واليمينيين، لكن حين تنظر لا تجد لها أثرا.
حتى بعد الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، ظلت غالبية الأحزاب بقادتها وكوادرها تقف كالمتفرج من بعيد. فشرارة الثورة الأولى خرجت من تحت أصابع الشبان المحترفين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحداث الثورة الثانية ولدت على أيدي شبان آخرين أقنعوا المصريين بـ«التمرد».
* ناشطون «متخصّصون»
بغض النظر عمَّن حملوا صفة «نشطاء» وفشلوا في استكمال المسيرة، وخسروا استحقاق اللقب لأسباب مختلفة، مثل «غنيم» و«دومة» و«إسراء»، إلا أن العامل المشترك يبدو أنه يتلخص في أن معظم هؤلاء لم تكن لديه «سابقة أعمال سياسية يعتد بها». يقول المحامي الشاب الذي شارك في الثورتين، كريم راضي، وهو مدير «مبادرة محامين من أجل الديمقراطية»، إن هذا الوضع الغريب ينطبق أيضًا على من ورثوا صفة «الناشط السياسي» بعد «ثورة» 2013 وحتى اليوم. ويضيف: «الأمر اتخذا أبعادا جديدة بظهور تسميات أخرى مثل (الناشط الحقوقي) و(الناشط الإعلامي)، بينما لا تعرف ما هي وظيفته الأصلية».
بدأ لقب «الناشط السياسي» يتكوّن في أفق الحياة المصرية بشكل واضح بعد أن احتلت الجماهير الغاضبة ميدان التحرير لإجبار مبارك على الخروج من السلطة. وقتها وجد عشرات الشبان والفتيات أنفسهم أمام الكاميرات المسلطة عليهم.. تطلب منهم أن يتحدثوا وأن يفسروا ما يحدث وعن أهدافهم. ومن خلال هذا الحراك الشعبي والغياب الحزبي «ظهر كثير من الناس بشكل غير مفهوم»، كما تقول داليا زيادة، وهي شابة تشغل مديرة مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية. وتضيف: «كثيرٌ من هؤلاء لم يكن لهم أي سابقة أعمال أو تاريخ يستندون إليه. كان الإعلام يبحث عن طريقة لتوصيفهم ووجد أقرب شيء هو مصطلح (ناشط سياسي)».
ومع ذلك توجد ملاحظة تتعلق بالتحول الذي طرأ على «النشطاء السياسيين» خلال السنوات الأربع الأخيرة، كما يقول محمد عبد اللطيف، وهو شاب محامٍ وعضو في ائتلاف الشباب الاشتراكي الذي تكوَّن خلال «الثورة». ففي البداية كانت الظاهرة ترتبط بوجود هؤلاء «النشطاء» في الشوارع وسط المظاهرات والاحتجاجات، لدرجة أن كثيرا منهم دُعي لاجتماعات مع قيادات الدولة أثناء عملية البحث عن طريق جديد لفترة ما بعد مبارك ثم فترة ما بعد مرسي.
ويضيف عبد اللطيف: «الثورة أدت إلى أزمة اقتصادية، ومن هنا عزف الناس عن المظاهرات. أدى ذلك إلى اختفاء (النشطاء) الذين ارتبطت أسماؤهم بتقلبات الشارع وحرائق الميادين والصدامات مع قوات الأمن في ذلك الوقت، وحل محلهم جيل جديد يطمح إلى الشهرة ويحترف التنظير دون علم في وسائل الإعلام، إلى درجة إصابة الناس بالإحباط والذعر. لهذا أصبح الاستمرار في استخدام لقب (ناشط) مثيرا للسخرية».
في كواليس قناة تلفزيونية يملكها رجل أعمال موالٍ للحكومة جلس معدّ القناة يلقّن الضيف، وهو «ناشط» جديد، بما ينبغي أن يقوله في الحلقة. المطلوب اتهام عناصر جماعة الإخوان التي تصنفها الدولة كـ«منظمة إرهابية» بأنهم وراء غرق مدينة الإسكندرية في مياه الأمطار، لأنهم سدوا بالوعات صرف المياه بالإسمنت.
* انتشار.. ودولار
غالبية الضيوف في القنوات المصرية لا يتقاضون مكافأة عن المشاركة في الحلقة، لكن انتشاره إعلاميا يسهل استضافته بعد ذلك في قنوات عربية وأجنبية تدفع بالدولار واليورو، إضافة إلى الشهرة والنفوذ. وعقب الحلقة أجاب الضيف وهو يهم بركوب سيارة التلفزيون التي جاءت به عما إذا كان لديه أدلة على قيام الإخوان بسد مصارف ثاني أكبر المدن المصرية، قائلا بكل بساطة: «هؤلاء يفعلون أي شيء».
المصري أطلق على نفسه قديمًا وصف «الرجل القادر على دهان الهواء بالطلاء»، للتعبير على قدرته على فعل أي شيء يمكن أن تتخيله أو لا تتخيله. ومع ذلك لديه من الإدراك ما يمكن أن يميز به الغث من السمين، رغم فقر الحال إجمالا. ففي أقل من شهر تمكن الملايين من حشد أنفسهم للإطاحة بحكم جماعة الإخوان، وكان من بين من هتفوا بـ«سقوط حكم المرشد» في ميدان التحرير بائع «حُمُّص الشام»، وعدد من زبائنه الذين يترددون عليه فوق كوبري الجامعة الشهير الواصل بين محافظتي القاهرة والجيزة.
على جانبي الكوبري تتقاطع المئات من لافتات الدعاية الانتخابية التي تروّج لمرشحين للبرلمان الذي سيبدأ أعماله خلال أيام.. أسماء معروفة بانتمائها إلى الحزب الذي كان يرأسه مبارك، وأخرى من أحزاب المعارضة التقليدية وشخصيات مستقلة. لم يكن هناك اسم يذكر ممن يحمل لقب «ناشط سياسي». يراقب عمرو عمارة، قائد الشباب المنشقين عن جماعة الإخوان، مجريات العملية الانتخابية وهو يقول بكل وضوح إنه رفض أكثر من مرة أن تطلق عليه وسائل الإعلام لقب «ناشط سياسي.. هذا وصف أصبح ممقوتًا».
ويضيف عمارة أن مصطلح «ناشط سياسي» انتشر «كالنار في الهشيم خلال السنوات الأربع الأخيرة، لكنه ارتبط في كثير من الأحيان بالبحث عن الارتزاق والمكسب المادي. أنا ضد هذا المصطلح لأنه تحول إلى وظيفة لمن لا وظيفة له. ويقول كثير ممن يظهرون على شاشات التلفزيون تحت اسم (ناشط)». إن وسائل الإعلام هي التي أطلقت عليهم هذا الاسم. ويدرك عدد من هؤلاء، على ما يبدو، أن اللقب لم يعد يعني شيئا ذا قيمة. لهذا يسعى بعضهم، مثل عمارة، إما للانخراط في أحد الأحزاب السياسية، وإما لتأسيس حزب جديد، لكي يكون مقنعا للرأي العام.
* معنى فارغ
حتى المحلل السياسي محمد العزبي، يتكلم عن أنه لاحظ في الفترة الأخيرة إدراك الرأي العام للمعنى الذي أصبح فارغًا لكلمة «ناشط». هذا المصطلح ظهر في غفلة من الزمن وانتشر في الإعلام المرئي والمواقع الإخبارية، و.. «أرى أنه في طريقه إلى الزوال». هناك «ناشط» استعانت به إحدى القنوات للهجوم على دول صديقة، و«ناشط» آخر ظل في وقت سابق يضخم من قدرات الإرهاب على ضرب القاهرة حتى أصاب الناس بالذعر والخوف من الخروج إلى الشوارع.
يعود راضي للتذكير بأن «أكثر من تكلّموا باسم الثورة، في بدايتها، كانوا انتهازيين.. هذا تسبب في تشتيت القوى الثورية وإضعاف الحركة المطالبة بالديمقراطية وإرباك المشهد برمته سواء للسلطة أو للشارع السياسي نفسه». صفة «الناشط السياسي» ظهرت منذ القدم في كثير من دول العالم، لكنها أطلقت على شخصيات تمكّنت من إحداث تغيير في بلدانها. وارتبط الاسم أيضًا بقيادات في بلدان مختلفة استمرت لسنوات تسعى لتحقيق مكاسب سياسية من خلال الإضرابات والمظاهرات والمفاوضات. كانت الصفة تعبر عن تيار اجتماعي أو آيديولوجيا، وذلك من خلال حزب أو ائتلاف محدد المعالم، له خطاب واضح يعكس مطالبه وأهدافه.
* دور المراسلين الأجانب
هذا لم يحدث في «الثورة» المصرية. كان المراسلون يفدون إلى ميدان التحرير ويسألون عمّن هو الزعيم. وحيث إنه لم تكن هناك إجابة، استعان إعلاميون أجانب وهم يلهثون لكتابة قصص منطقية للقراء، بمصطلح «activist» أي «ناشط» على الشبان والفتيات المتحمّسين. ولهذا تقول داليا زيادة إن كلمة «ناشط» جاءت بهذه الطريقة من الإعلام في ذلك الوقت المبكر من «الثورة».
زيادة ولدت مع بداية حكم مبارك في مطلع ثمانينات القرن الماضي. وهي من جيل مصري يطمح إلى صنع مستقبل أفضل لبلاده. واختارتها مجلة «نيوزويك» الأميركية ضمن أكثر 150 سيدة مؤثرة على مستوى العالم. وتقول إنه مع ثورة يناير (كانون الثاني) «ظهر كثير من الناس بشكل غير مفهوم. لم يكن لهم أي سابقة أعمال أو تاريخ يستندون إليه. كان الإعلام يبحث عن طريقة لتوصيفهم ووجد أقرب شيء هو لقب (ناشط). هذه التسمية ظهرت في الإعلام الغربي أولا، وبعد ذلك جرى ترجمتها إلى اللغة العربية. وبدأ استخدامها كصفة منذ ذلك الوقت حتى الآن».
وتضيف قائلة إن مصطلح «الناشط السياسي» غير عملي، فالسياسي يفترض أن ينتمي إلى حزب وأن يمارس العمل السياسي، إلى جانب مهنته الأساسية، أما «الناشط السياسي» أو «الناشط الحقوقي» أو «الناشط الإعلامي»، فهي صفات استخدمها الإعلام «حتى يعطي توصيفا لمن ليس لهم توصيف محدد للظهور للمشاهدين والقراء».
وبالإضافة إلى وائل غنيم، ارتبطت أسماء كثير من الشبان والفتيات في خضم «الثورة» الأولى ثم الثانية بوصف «ناشط» أو «ناشطة». ومن الأسماء التي كانت مشهورة حينذاك، واختفى معظمها في الوقت الراهن، نوارة نجم، وعلاء عبد الفتاح، وأحمد دومة، وإسراء عبد الفتاح، وأسماء محفوظ، وغيرهم. غالبية هؤلاء من مواليد أواخر عهد السادات وبدايات عهد مبارك. ومع اختلاف المناخ السياسي، والمزاج الشعبي، خصوصا عقب الإطاحة بحكم مرسي والتفاف قطاع كبير من المصريين حول السيسي، يحاول كثير من المتعطشين للشهرة تكرار التجربة رغم تغير الظروف.
يقول عمارة: «كلمة (ناشط) أصبحت سبّوبة (أي مصدر للارتزاق).. أنا ضد هذا المصطلح بعد أن انتشر في كل مكان وأصبح عمل من لا عمل له». ويشير إلى أن بعض وسائل الإعلام المحلية أيضًا تتحمل جانبا من المشكلة، لأن بعض محطات التلفزيون التي تريد أن تنال من جهة ما تأتي بأي شخص لديه القدرة على توجيه الشتائم وتطلق عليه ناشط سياسي، بل تنقل عنه كلاما وتعبيرات، وأنه قال كذا وأكد على كذا.
وإلى جانب نشاطه الساعي لتكوين حزب سياسي، يعمل عمارة في القطاع الخاص. ويقول: «أنا أسأل هذا النوع من الناشطين السياسيين: ما مصدر رزقك؟ أنا أعمل في التسويق العقاري، وأنت ما عملك الخاص؟ المشكلة أن هناك من يستغل انتشاره في الإعلام كناشط سياسي ويبدأ في التعامل مع المجمع على أنه أصبح شخصية عامة وله نفوذ يقوم باستغلاله لتحقيق مكاسب خاصة. منشق عن أحد الأحزاب يتحول إلى ناشط سياسي.. منشق عن إحدى الجماعات الدينية يتحول إلى ناشط سياسي. بعض الدول تستضيف مثل هؤلاء في أفخم الفنادق وتقدم لهم بدلات سفر وألوف الدولارات لحضور ندوة أو مؤتمر تحت صفة ناشط سياسي أو ناشط حقوقي.
أمضى كريم راضي شهورًا في ميدان التحرير مع شباب الثورة. وظهر على قنوات التلفزيون عدة مرات، ويقول إنه كان يبادر ويطلب من القناة التي تستضيفه تحاشي تقديمه كناشط سياسي أو حقوقي، لأنه لم يكن يستسيغ هذه التسمية، إلى أن اكتشف أخيرًا أنها أصبحت، بالفعل، ترتبط بأشخاص يغيّرون مواقفهم حسب المصالح الشخصية.
* من هو الناشط السياسي الحقيقي؟
راضي الذي يعمل ضمن فريق «الشبكة العربية لحقوق الإنسان»، يرى أنه «أصبح من الصعب معرفة الناشط السياسي الحقيقي من الناشط السياسي غير الحقيقي.. الأمر يحتاج إلى فترة من الزمن حتى تعرف أن هذا الناشط مدّعٍ. هو يرفع شعارات، ومع أول فرصة له لتحقيق مصالحه الشخصية، يبدأ في الظهور على حقيقته. ويضيف أنه يمكن أن تمر سنة كاملة قبل أن ينكشف للرأي العام مثل هؤلاء المنظرين المزيفين.. «مثلا هناك كثيرون ركبوا الثورة منذ بدايتها، وتحدثوا باسمها، وبعد ذلك أصبحوا أول من يهاجمها. لماذا؟ لأن مصالحهم انقضت. كانوا أول من دعا للتظاهر ثم بدأوا بعد ذلك يهاجمون من يدعو إلى التظاهر. كان من الصعب أن تحدد الموقف من هؤلاء في وقت ظهورهم».
وفي المقابل، كما يقول راضي أيضا، هناك شخصيات محترمة تظهر في الإعلام سواء من الشباب أو غير الشباب.. هؤلاء لهم مبادئ يدافعون عنها ولا تتغير مع مرور الوقت، وهذا يمكن أن تطلق عليه السياسي الحقيقي، وهؤلاء قادمون من خلفيات حزبية أو من خلال أنشطة حقيقية على الأرض. هذا لا ينفي أيضًا أن بعض الناشطين المزيفين يمكن أن يكونوا قادمين من حزب سياسي، لكنه يفتقر إلى المبادئ والآيديولوجيا التي يزعم الانتماء إليها.
ويضيف أن الأمر نفسه ينطبق على «الناشط الحقوقي»، لأن «هناك من يوظف نشاطه الحقوقي باختلاف السلطة الحاكمة أو تغير الظروف.. يبدأ في تجزئة المبادئ.. مثلا يدافع عن فئات معينة وفئات يتجاهلها.. يزيد درجة الحرارة في خطاب ينتقد فيه السلطات حين تنتهج نهجا معينا ضد تيار سياسي بعينه، ويخفض من درجة الانتقاد إذا كانت السلطة تستهدف تيار سياسي آخر أو جهة أخرى. هذا أمر لا يمت إلى النشاط الحقوقي بصلة».
القضية بطبيعة الحال لها علاقة بالشهرة والثراء السريع. هذا أغرى البعض ممن ليست لهم صفة أو مركز، لتقديم أنفسهم على أنهم «نشطاء». «ما المانع إذا كانت السيولة الإعلامية على هذه الشاكلة من السهولة؟» كما يقول راضي، ويضيف أن كثيرا من هؤلاء النشطاء المزعومين تمكنوا من الحصول على أموال من الخارج وتمويل من منظمات دولية، وظهرت عليهم النعمة من خلال عملهم الهش، و.. «هناك حالات فجة. مثلا أحدهم كان لا يملك طعام يومه، واليوم أصبح يمتلك السيارات الفارهة».
ويتابع قائلا إن مثل هذه الأوضاع بدأت بالفعل بعد ثورة يناير، واستمرت إلى الآن، رغم أن الناس بدأوا ينفرون من مثل هؤلاء الأشخاص ومن وسائل الإعلام التي تروج لهم. «منذ الثورة انفتح المجال العام، وبدأت وجوه كثيرة تظهر، وحققت كثيرا من هذه الشخصيات الثراء بشكل غير مفهوم وغير معروف مصدره».
تسببت «طائفة النشطاء» بما تروجه من نظريات غريبة وغير واقعية، بإصابة المواطنين بالحيرة بشأن المستقبل، وتسببوا في الخلط بين الغث والسمين، وبين الصدق والكذب. كما يقول كريم راضي، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة «جعلت قوى الثورة تتشتت. أدت إلى إرباك المشهد سواء أمام السلطة أو أمام الشارع. كما تسبب في إضعاف الحركة المطالبة بالديمقراطية».
العزبي الذي يظهر بين حين وآخر على قنوات التلفزيون المصري وفي بعض وسائل الإعلام ينفي بشدة أن يكون ممن يحملون صفة «ناشط». ويقول: «أنا لا أعتبر نفسي ناشطًا، بل أنا مواطن مصري وباحث سياسي أبحث في ما وراء الأخبار والأحداث». ويضيف: «لم يكن لي في يوم من الأيام علاقة بهذا النوع من الذين يطلقون على أنفسهم لقب (ناشط)، لأنني منذ اللحظة الأولى أدركت تماما أن هذا الاسم هو مهنة من لا مهنة له»، مشيرًا إلى أن هناك «كثيرا من نماذج الناشطين ممن نبذهم المجتمع أو دخلوا السجون بسبب تورطهم في أعمال عنف وإرهاب أو الحصول على تمويل من الخارج للإضرار بالدولة».
ويعد العزبي من الشبان الذين انخرطوا في الزخم السياسي الكبير الذي تفجر بعد الثورة، إذ إنه كان متحدثا لبعض الوقت باسم «جبهة ثوار وحكماء». ويقول إنه «يوجد كثير ممن أطلقوا على أنفسهم نشطاء، استفادوا من التمويلات المالية ومن تحقيق مراكز وشهرة إعلامية، لكنهم لم يحققوا أي شيء له مردود يشعر به المجتمع».
* مطالب ومصالح شخصية
ويرى أن سبب استمرار ظاهرة «الناشط السياسي» ما زالت كما هي.. «أقصد بذلك حالة الانفلات الأخلاقي التي سادت مصر منذ أحداث الثورة الأولى وحتى الآن، فكل من له مطلب يخرج على الإعلام بصفة ناشط ليتحدث ويملأ الدنيا عويلاً، حتى يستطيع تنفيذ مطالبه الشخصية. هذه وظيفة لجلب الرزق».
ومثل المحامي عبد اللطيف، الذي يداوم على السهر على كوبري الجامعة الذي تفضله عائلات وسط القاهرة، يعتقد العزبي أن الرأي العام بدأ يدرك خطورة اسم «الناشط»، وبدأ يلفظ هذه الصفة التي لا أساس لها. ومن جانبه يضيف عبد اللطيف: «غضب الناس ممن يطلق عليهم الإعلام (النشطاء) ازداد بعد أن استضافت قنوات التلفزيون كثيرا منهم، إذ إنهم قاموا بتضخيم الأخبار عن التفجيرات التي قامت بها بقايا الجماعات المتطرفة. حين كان يقع انفجار صغير في مكب للنفايات مثلا كانوا يصورون الأمر كأن القاهرة تحترق. هذا أصاب الناس بالذعر».
وفي بلد يعاني من الفقر والأمية الثقافية، فإن الأمر يبدو أنه لا يتعلق فقط بطائفة «النشطاء»، ولكن المشكلة تخص وسائل الإعلام وإثارتها مواضيع تخرج أحيانا عن حدود المنطق، لا سيما في القطاع الخاص. فقد فوجئ المشاهدون بـ«ناشط» يؤيد مزاعم أحد المذيعين بشأن مسؤولية أميركا عن إحداث الزلازل وإطلاق البراكين وتوجيه أماكن نزول الأمطار وجريان السيول في الأماكن التي تريدها. ويقول مسؤول في الحكومة المصرية إن البرلمان الجديد سيقرّ إنشاء مجلس أعلى للإعلام لترتيب البيت في هذا القطاع المؤثر على الرأي العام.
في مثل هذا الوقت من شتاء العام الماضي كان هناك نوع من الناشطين يظهرون على الشاشات ويهوّلون من حجم الحوادث الإرهابية والقنابل البدائية التي كانت آثارها ما زالت مستمرة منذ الإطاحة بحكم مرسي. حينذاك لم يكن في مقدور كثير من المصريين التمشي في الليل على ضفاف النيل. كان كوبري الجامعة، مثل بعض الكباري الأخرى، مهجورا على طوله البالغ نحو 500 متر.
اليوم تغيرت الحال وأصبح يمكن الجلوس والسهر على المقاعد البلاستيكية وتناول المشروبات الساخنة. وبينما أضواء السيارات تمرق بين جانبي النهر، وبعيدا عن تنظير «نشطاء» التلفزيون، يواصل الزبائن الاستماع لتعليقات بائع «حُمص الشام» عن الأمل في مستقبل أفضل، بينما النسيم البارد ينساب منعشا من الضفة الأخرى.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.