من التاريخ: أثينا و الديمقراطية

من التاريخ:  أثينا و الديمقراطية
TT

من التاريخ: أثينا و الديمقراطية

من التاريخ:  أثينا و الديمقراطية

إذا ما سألت غربيًا عن مصدر الديمقراطية، فهو حتمًا سيجيبك عن السؤال بكلمة «أثينا»، فهي النموذج أو حتى الحلم الديمقراطي الذي يتمناه كثيرون في يومنا هذا بوصفه نظاما للحكم في العالم، فالمثال «الأثيني» هو الأساس الذي بُني عليه هذا النظام، ولعل الفيلسوف السياسي أرسطو (أرسطاطاليس) استطرد كثيرًا في كتابه «حول السياسة» لشرح الديمقراطية الأثينية وما لها وما عليها. وعلى الرغم من قدم هذه التجربة التي ترجع إلى ما يقرب من 25 قرنًا من الزمان، فإنها لا تزال مثالاً فكريًا يعجب به كثيرون بوصفه أفضل النظم الديمقراطية من حيث التمثيل المباشر للشعب، أو لأنها قد حكمت أثينا وغيرها من الدويلات اليونانية بشكل سلس، ولكن الثابت أن هذه التجربة الديمقراطية العميقة انتهت إلى نظام ديكتاتوري عقب مأساة الهزيمة العسكرية.
الثابت تاريخيًا أن القبائل اليونانية قد هاجرت من الشمال إلى الموانئ الدافئة لشبه جزيرة المُورة، واستقرت في هذه الأراضي الخصبة وبدأت تكون ما يسمى «الدويلة» أو «المدينة الدولة City State» التي تمثل توصيفًا واقعيًا لشكل المجتمعات اليونانية في ذلك الوقت. ولقد برزت أثينا بصفتها دويلة ضمن الدويلات الأخرى في موقع جيواستراتيجي بارز، وتمتلك كثيرا من الثروات الطبيعية مقارنة بغيرها، كما أنها ملكت كثيرا من الأراضي الخصبة، وهو ما سمح لهذه الدويلة أكثر من غيرها بتكوين نظام اقتصادي متوازن بين التجارة والصناعة والزراعة، مما أثر مباشرة على شكل المجتمع ذاته وخلق الطبقات الطبيعية فيه.
بدأت أثينا رحلتها السياسية، شأنها شأن الدول الأخرى بنظام ملكي، ومع التطور الاقتصادي بدأت الطبقات المختلفة تسعى لدور في التنظيم السياسي للدويلة الأثينية، وهو ما دفع النبلاء لتكوين مجلس لهم استطاع مع مرور الوقت التعدّي على السلطات الطبيعية للملك. هذا فتح المجال للتحوّل نحو نظام يسمى في العلوم السياسية بالنظام «الأوليغارشي Oligarchy» بعد تراكم قوة النبلاء ونفوذهم، خاصة بعدما طبّقت أثينا نظامًا أشبه ما يكون بالنظام الرأسمالي سيطرت فيه طبقة النبلاء على الدورة الاقتصادية في البلاد، وكانت الطبقة الدنيا هي التي دفعت الثمن بطبيعة الحال، خاصة بعد أن أفلست الطبقة الفقيرة بسبب المديونية التي أدت لتحولهم من مزارعين إلى عبيد مع مرور الوقت بسبب الديون، وهو ما بات يهدد الطبقة الوسطى أيضًا. وقد كان ذلك كفيلاً بدفع التغيير السياسي في هذه الدويلة تدريجيًا إلى أن عيّن الوالي سولون لإدخال الإصلاحات على النظام السياسي اليوناني. وهو ما أدى إلى سلسلة من القرارات التي قبلتها طبقة النبلاء على مضض شديد، وكان على رأسها إنشاء «مجلس الأربعمائة» للمساهمة في الحكم بما يسمح بدخول الطبقة الوسطى والدنيا في النظام السياسي، كما أنشئت «محكمة عليا» مفتوحة للجميع يصار إلى انتخابها من بين المواطنين، إضافة إلى إلغاء العبودية الناتجة عن المديونية وتحديد ملكية الأراضي ومنح المقيمين حق المواطنة، كما فرضت منع البطالة.
مع كل ذلك، فإن هذه الإصلاحات ساهمت بدور أقوى للطبقات المختلفة، لكنها لم تسيطر بالكامل على نفوذ طبقة النبلاء وقوتهم. ومنعًا لتفاقم الأوضاع، لجأت القيادة الأثينية إلى سياسة توسعية جديدة لمحاولة توحيد دويلتها عبر الاستيطان والسيطرة على الدويلات الأخرى المجاورة، ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع من ظهور الديكتاتورية مرة أخرى، في العصر المعروف بـ«عصر الطغاة». وعلى الرغم من بزوغ نجم بيزيزتراتوس بوصفه نموذجًا لـ«المستبد العادل»، فإن سياساته لم تستطع احتواء التوترات الطبقية في البلاد، ثم زاد الأمر سوءًا بعدما ورث ابنه الحكم وكان مثالاً للعنف والدموية. هذا الوضع أدى لتكاتف الجميع تحت قيادة أحد النبلاء يدعى كلايسثينيس الذي استطاع وضع حد للسلطة المطلقة بالانقلاب على آخر الطغاة، وصياغة نظام سياسي كفل له لقب «أبو الديمقراطية الأثينية». كلايسثينيس وسع «مجلس الأربعمائة» فبات يضم خمسمائة عضو يصار إلى اختيارهم بالقرعة، وهو ما شكل بداية لمفهوم السلطة التنفيذية، حيث تنبثق عنه عشر لجان معنية بإدارة الدولة؛ على رأسها المحافظون في المدن المختلفة، وذلك دون انتقاص من سلطات مجلس النبلاء بوصفه أداة شبه تشريعية يحق لها رفض أو قبول مقترحات وسياسيات «مجلس الخمسمائة». كذلك نصت التعديلات على تنظيم الانتخابات لهذه المناصب بشكل دقيق منعًا للتفرد في القرار، وأصبحت الجنسية حقًا للجميع على أساس الإقامة في أثينا. وبهذا بدأت هذه الدويلة في تطبيق الديمقراطية المثالية المباشرة بما يمثل نموذجًا يكاد يكون فريدًا في التنظيم السياسي عبر التاريخ.
بعدها، وصل هذا النظام إلى قمته خلال حكم الزعيم اللامع الحكيم بيريكليس، وغدا النموذج الديمقراطي الأكثر تنظيمًا في أثينا، وصار يحقّ للمجلس اقتراح القوانين. كما نظّم بيريكليس ما هو معروف بـ«مجلس جنرالات» تختاره الجمعية، وهو ما يعدّ تطورًا أكثر تنظيمًا للسلطة التنفيذية في البلاد. وتولى بيريكليس قيادة هذا المنصب الذي يوازي اليوم رئيس الوزراء في النظم البرلمانية، الذي بدأ يعدل سلطات «مجلس الخمسمائة» تدريجيًا بشكل يحافظ على النظام السياسي وتوازناته منعًا لأي جهة أو شخص من الانفراد بالسلطة. أيضًا بات أول نظام يضع معايير التوازن وتوزيع السلطات، خاصة بعدما صاغ نظامًا قضائيًا أكثر تنظيمًا وإتاحة للجميع تحت إشراف المحكمة العليا، وجرى تثبيت نظام المحلفين بالقرعة بحيث تؤخذ قرارات المحاكم من خلال حكم المواطنين أنفسهم بالأغلبية المطلقة. ومن هنا اقتبس نظام المحلفين (Jury) المتبع في كثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
وقد كان من الممكن أن يستمرّ هذا النظام بشكل طبيعي ولمدة زمنية طويلة، إلا أن واقع السياسة عكس غير ذلك. وكان هناك عاملان أساسيان أثّرا مباشرة في زوال الديمقراطية الأثينية: الأول كان الصراع مع الإمبراطورية الفارسية عندما حاولت الأخيرة احتلال اليونان فدخلت معها في حروب ممتدة انتهت بتحالف الدويلات اليونانية لإلحاق الهزيمة بتلك الإمبراطورية الكبيرة بعد سلسلة من المعارك الشهيرة على رأسها معركة «ثيرموبولي» ومعركة «ماراثون».. وغيرهما. غير أن الحرب أضعفت أثينا بشكل كبير ووضعت عليها الضغوط الاقتصادية والسياسية. أما العامل الثاني الذي دمّر هذه التجربة الناشئة، فكان من صنع أثينا ذاتها بعدما لجأت لسياسة توسّعية وصفتها الكتب التاريخية بأنها سياسة «إمبريالية»؛ إذ سعت هذه الدولة لاحتلال الدويلات الأخرى والسيطرة، مما دفع كثيرا من هذه الدويلات إلى تطبيق مبدأ توازن القوى من خلال التحالف مع عدوّ أثينا المتمثل في دويلة إسبرطة، التي خشيت أن تؤدي هذه السياسة التوسّعية إلى القضاء عليها، فبدأت ما هي معروفة بـ«الحرب البيلوبونية» التي يمكن متابعة تفاصيلها من خلال الكتاب الشيق للكاتب اليوناني القديم ثيوسيديدس، وهي الحرب التي انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبرطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.
وهكذا وئدت التجربة الديمقراطية اليونانية وعادت أثينا مرة أخرى إلى نموذج «الحاكم المستبد»، وخرجت هذه الدويلة من التاريخ الفكري والسياسي ولم تعد إليه مرة أخرى. لكن فكرة الديمقراطية كانت قد نبتت في الأذهان وصارت جزءًا من النسيج الثقافي والتراث اليوناني إلى أن أنهضتها الظروف السياسية الغربية مجددًا بفضل عوامل التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي بداية من القرن السادس عشر، حتى رسخت مفهوما للفكر والتطبيق السياسيين ولكن بشكل مختلف بحلول القرن العشرين.
واقع الأمر أن التجربة الأثينية تمثل نموذجًا سياسيًا يحتاج إلى كثير من التعمق فيه، فهي مبعث لكثير من الاستنتاجات والأفكار، بل والتأملات التي تستحق منا بعض التمحيص في الأسبوع التالي.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.