آمي أدامز لـ {الشرق الأوسط}: أنا امرأة حسّاسة ولا أجيد الدفاع عن نفسي

على الممثل أن ينتظر من المخرج التدخل في اختيارات معيّنة أو اقتراحات يراها ضرورية

آمي أدامز
آمي أدامز
TT

آمي أدامز لـ {الشرق الأوسط}: أنا امرأة حسّاسة ولا أجيد الدفاع عن نفسي

آمي أدامز
آمي أدامز

إذن لم تنل آمي أدامز الأوسكار يوم الأحد الماضي بل ذهب الأوسكار إلى منافسة شديدة الصلابة (والموهبة) اسمها كيت بلانشيت. ولا مقارنة بين الأسلوبين لسبب بسيط: كيت لا تناسب الدور الذي لعبته أدامز في «نصب أميركي» ولا أدامز تستطيع التعبير تماما عن ذلك الرحيق الارستقراطي الذي بثّته بلانشيت في تمثيلها لفيلم «بلو جاسمين».
لكن النتائج الفنية متساوية على نحو مذهل، وبالنسبة لآمي أدامز مجزية للغاية. دورها في «نصب أميركي» هو أعمق ما أدّته إلى اليوم. تتقلب فيه سلوكا ونفسا وعاطفة أكثر من مرّة من دون أن تفقد مكانها. تتماوج داخليا لكنها لا تنكسر أو تسقط تحت وطأة ما يحدث، ولا أمام ممثلين في قوة الشلة التي أحاطت بها: كرشتيان بايل وجنيفر لورنس وبرادلي كوبر.
ولدت سنة 1974، العام الذي تقع أحداث «نصب أميركي» في جواره. وبدأت التمثيل سنة 1999 وكما هي العادة الأدوار الأولى كانت قصيرة وعادية. اللاحقة كانت أكبر والحالية هي الأنضج.
هذا العام هو أهم أعوام مهنتها نظرا لهذا الفيلم. لكن «نصب أميركي» ليس العمل الوحيد الجديد اللافت لها، بل هي أيضا في «هي» (أو Her). مع أن دورها هناك صغير، لكنه محسوس ومعبّر عنه برقّة لامعة. هذا كله يتبع أدوارا مهمّة لها في «المقاتل» (للمخرج ديفيد أو راسل الذي أخرج «نصب أميركي») و«المتاعب مع المنحنى» (أمام كلينت إيستوود) و«ذ ماستر» مع واكين فينكس والراحل فيليب سيمور هوفمن.
* أنت في فيلمين في دورين مختلفين. الأول «هي» والثاني «نصب أميركي» وكلاهما مختلف عن الآخر كثيرا. ماذا يعني ذلك بالنسبة إليك؟‬
- كما تعلم هما دوران مختلفان أيضا بالنسبة للمدّة الزمنية الممنوحة لي. في «هي» هو دور مساند ومحدود، في «نصب أميركي» دور رئيس. واحد من الاختلافات بالضرورة هو ما يستطيع كل دور أن يتيحه للممثل من فرصة تكوين الشخصية، بصرف النظر عن حجم الدور، تكوينا صحيحا. هذا ما سعيت إليه لكن عليّ، وأعتقد أن ذلك يطبّقه أي ممثل آخر، أن أعترف بسهولة الدور الذي ينضوي عليه فيلم سبايك جونز («هي»)‬. تريد أن تمنح الشخصية لحما ودما وعظاما وأحاسيس بصرف النظر عن المدّة، لكن الدور كما هو مكتوب يساعد على ذلك لأنه عميق وفي الوقت ذاته واضح.
* هل كان سهلا لك الوصول إلى ما أنت عليه الآن من شهرة؟
- ليس هناك شيء سهل في الحياة. إذا كان هناك أي شيء سهل الوصول أو الحصول أو التطبيق أنا لا أعرفه. لكني أؤمن بأن من يسعى يصل. وهناك مراحل عدّة في حياة كل منا وبعضها لديه مراحل أقل عددا من مراحل آخرين نسبة للمناسبات التي يعيد فيها تكوين نفسه عند الوصول إلى نقطة معينة في حياته. حين كنت ما أزال في عشرينات عمري، كنت كثيرا ما أستجيب لتوجيهات الآخرين. اكتشفت في تلك المرحلة أني أحاول أن أطبق ما يريده الآخرون مني وأنني لا أستطيع أن أبقى في هذا الإطار مطلقا لأني سأكون أقرب إلى السكرتيرة مني إلى الممثلة.
* هنا بدأت تحقيق ذاتك؟
- نعم.
* متى تحديدا؟
- ربما حتى منتصف العقد الماضي أو في أواخره.
* هي المرحلة التي أخذت فيها تنصرفين نحو أدوار مميزة تؤدينها بطريقتك الخاصة. هل من أمثلة؟
- «جوليا وجوليا» و«ريب» كانا فاصلين مهمّين في حياتي.
* كلاهما مع ميريل ستريب.
- صحيح. الوقوف أمام ميريل ستريب هو الامتثال لخبرة طويلة وهي أفضل من أي مدرسة. تساعد على التفكير في كيف أتوقف عن أن أكون مجرد ممثلة وأن أمارس موهبة نابعة من خصائصي ومزاياي الفنية. هنا يمكن للمرء أن يعرف إذا ما كان موهوبا فعلا وقادرا على بلورة نفسه، أو أنه لا يستطيع ذلك والأفضل له البقاء ضمن أبسط المتطلبات وهي التمثيل تنفيذا فقط. المشكلة هنا هي أن هذا النوع الثاني من التمثيل ليس لك. أي ممثلة تستطيع أن تقوم به. النوع الأول هو كاملا لك ينبع منك ووجودك في دور ما ضمن شروطك وأسلوبك هو ما يمنح الفيلم القيمة الإضافية.

قرب الممثل
* في «نصبٌ أميركي»، وهو فيلمك الثاني تحت إدارة ديفيد أو راسل بعد «المقاتل»، ظهرت مع مجموعة أكبر من الأسماء المهمّة حاليا: كرشتيان
بايل وجنيفر لورنس وبرادلي كوبر وجيمي رَنر.. كيف كان العمل مع هذا الفريق؟
- هؤلاء هم مجموعة رائعة من الأشخاص. وأنا سررت كثيرا للعمل معهم. برادلي وجنيفر ملتزمان جدا حيال الدور الذي يؤديه كل منهما. وهما ممثلان ممتازان. لكن هناك اثنان مختلفان من كرشتيان بايل وأنا مثّلت أمامهما. في «المقاتل» هو مختلف تماما عن «نصب أميركي»، ليس فقط من حيث الدور والشخصية التي يؤديها.. هذا هو الاختلاف الطبيعي، لكن من حيث شخصيّته هو. يختلف كثيرا لأنه ينساق بإيمان غريب للعمل. وهذا الاختلاف هو ما يجعل العمل أمامه عملية إبداع رائعة.
* ماذا عن المخرج؟
- ديفيد كان أيضا مختلفا في الفيلمين. في «المقاتل» كان أكثر هدوءا. وحتى أسلوب عمله في ذلك الفيلم يختلف عن أسلوب عمله هنا. الآن أصبح أكثر حيوية وأكثر صراخا (تضحك). أصبح دائم الحركة. لا يكترث لشاشة «المونيتور» حين يحضّر أو يصوّر، بل هو دائما على مقربة من الممثل ومن المشهد بحيث لا يفوته شيء خلال العمل. لديه طاقة مثيرة للدهشة.
* هل هو مخرج ممثلين؟ هل يدير الممثل على نحو صحيح؟ أم أن الممثل هو من يأتي إلى المشهد جاهزا؟
- الاثنان. على الممثل أن يأتي جاهزا في كل الأحوال، لكن عليه أيضا أن ينتظر من المخرج التدخل في اختيارات معيّنة أو أن يقترح أمورا يراها المخرج تساعد الفيلم من وجهة نظره وخبرته. ديفيد أو راسل يملك الساحة كاملة وهو من سيخبرك موقعك في تلك الساحة. لديك فكرة أين ستذهب معه وما المطلوب منك، لكن ليس لديك فكرة عن طول المشهد الذي ستؤديه، ولا عما سيطلبه منك خلال تأدية المشهد.
* أعتقد أن سبايك جونز (مخرج «هي») يختلف تماما..
- سبايك هادئ ولطيف جدّا. يطلب من الممثل ما يطلبه همسا والفيلم تحت إدارته عملية خاصّة وشخصية. حين كان يوجّه واكين فينكس (بطل ذلك الفيلم) كان كمن يبوح بأسراره. كنت أشعر بأن علي مغادرة المكان نتيجة ذلك. ديفيد معاكس لذلك تماما. وهو يتحدّث إلى الممثل طويلا وبحميمية لكن ليس هناك مجال كبير للمناقشة. يقرر أن الممثل يعرف ما يريد لكنه يريد التأكد من أنه سيقوم أيضا بما يريده هو منه.
* هذا الفيلم الذي نتحدّث عنه يدور حول فن الاحتيال والنصب. هل تعرضت للنصب؟
- نعم.
* متى؟
- وصلت إلى لوس أنجليس وأنا في الرابعة والعشرين من عمري. وعشت فيها وهذا يكفي لكل أنواع التجارب (تضحك). عليك أن تعلم أنني كنت بريئة وساذجة. لم أكن أعلم أن عدم المباشرة هو صفة عمل دائمة. لم أصدّق ما اكتشفته لاحقا من كيف يستغل البعض البعض الآخر، وأحيانا ما كنت أتساءل كيف يسمح أحد لنفسه أن يخادع أو أن يستغل شخصا آخر؟ لكني في النهاية أدركت أن علي أن أتجاوز ذلك كله لأن الوقوف عنده لا يفيد.

* من الأمس
* في تمثيلك هذا الفيلم تظهرين جانبا جديدا من شخصيتك.
سابقا أنت على يمين هذا الخط أو على يساره. لكنك هنا تمثلين جانبا مزدوجا. تطلبين من المشاهد التعاطف معك لكنك في الواقع تشاركين في النصب وإلى حد معين النصب على الرجلين معا كوبر وبايل..
- نعم إلى حد ما. هي امرأة تعرف أولويّاتها وتحب بايل وإن كانت توجّه له انتقادات لاذعة وتتصرف لبعض الوقت حياله كما لو لم تعد تهتم به. هذا لم يكن سهلا علي وكان مهما عندي الاستماع إلى إدارة المخرج بكثير من العناية لأنه هو من يعرف ماذا يريده من الشخصية. في السيناريو هناك نص يدعوك للتصرّف، وعلى الممثل والمخرج إيجاد التبرير لهذا السلوك أو ذاك. ديفيد ينقل الممثل إلى نقطة عميقة وجديدة لا يمكن له أن يكتشفها وحده.
* ما أوّل فيلم شاهدته أثر عليك وجعلك تقررين أن تصبحي ممثلة؟
- بصراحة Grease (تضحك). أعلم أنه فيلم مراهقات لكني كنت مراهقة بدوري آنذاك. حين أدركت أنني أريد أن أصبح ممثلة انتقلت لمتابعة الممثلات اللواتي نجمع على أنهن رائعات وموهوبات إلى حد لا يمكن نكرانه. كنت تحت تأثير الممثلة فيفيان لي. بهرتني حين لعبت «ذهب مع الريح».. كيف لها أن تكوّن حياة في الشخصية التي لعبتها. وهناك أوليفيا دي هافيلاند.
* تختارين ممثلات قديمات. ليس هناك تأثير من ممثلات أقرب إلى العصر الذي نحن فيه؟ ميريل ستريب، جسيكا لانغ أو ربما ناتالي وود..
- أحببت دائما الأفلام القديمة وطريقة شغلها. لذلك أحب ممثليها وممثلاتها. طبعا أقدر الأسماء التي تذكرها وسبق أن تحدثت عن ميريل ستريب، لكن التأثير الأول، كما فهمت من سؤالك، عليه أن يبدأ من نقطة أبعد.
* ثلاثة أفلام تحبّينها أكثر من غيرها؟
- «فرتيغو» و«ذهب مع الريح» و«إصلاحية شوشانك».
* هل تتعاملين مع تقنيات اليوم؟
- تقصد الإنترنت وسكايب وفيسبوك وسواها؟ أنا جاهلة بمثل هذه الأمور تماما. ما أحبه في الحياة هو أنني ولدت قبل هذا العصر. لذلك حين قدّم لي ديفيد سيناريو «نصب أميركي» الذي تعود أحداثه كما تعلم إلى السبعينات سعدت به جدا. هو يعبّر عن فترة كان كل شيء لا يزال يجري إنسانيا أو عبر البشر بشكل مباشر.
* ماذا يزعجك في التقنيات الحديثة؟
- يزعجني أنها خطرة جدا وهي ليست لكل الناس. أنا شخصية معروفة وعلي دائما أن أكون حذرة من أن يتصل أحد بي ليخبرني أن شيئا مسيئا لي منشور على الإنترنت. شيء لم أقم به أو لا أعرف عنه شيئا أو لم أقم به مطلقا. أنا امرأة حساسة ولا أجيد الدفاع عن نفسي وهذا يسبب بعض القلق. لذلك أفضل البقاء بعيدا عن «الميديا الاجتماعية» بأسرها.
* «نصب أميركي» يدور في الماضي. «هي» في المستقبل. أيهما تفضلين؟
- سؤال صعب فقط لأن التفضيل هنا لا يعني عمليا الكثير. أنتمي إلى الماضي أكثر مما أجد نفسي في الحاضر أو في المستقبل. لكن الماضي لا يخلو أيضا من مشكلات ولو أنها لا تتساوى مع حجم المشكلات التي نعيشها اليوم. في «هي» قلق على المستقبل كوضع إنساني. هذا أيضا يجعلني حذرة منه.
* «نصب أميركي» يدور حول الفساد السياسي في السبعينات. هل تعتقدين أن رسالته تنضوي أيضا على الفساد السياسي في عالمنا اليوم؟
- أعلم أن هذا الجانب كان في بال ديفيد حين كان يصوّر الفيلم. كان يتحدّث إلينا عن الحاضر وكيف أننا اليوم بتنا فاقدين للهوية الخاصّة بفعل فساد يحيط بكل شيء.. في السياسة وفي الاقتصاد وفي شتى الأوضاع الاجتماعية. نعم أعتقد أنه أراد من المشاهد أن يفكر في الحاضر على الرغم من أن الأحداث وقعت قبل عقود.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)