مهرجان القاهرة يكشف واقع السينما المصرية

خيم الحزن على مهرجان القاهرة بأسره إثر انتشار نبأ وفاة الناقد السينمائي المغربي مصطفى مسناوي، ولا عجب في ذلك كون الراحل كان مشهودًا له بالوفاء والمعرفة وحسن الأخلاق معًا. ولم يسجل عليه الدخول في معارك نقدية كالتي تشهدها الساحة من حين إلى آخر. الذي حدث أنه وصل في السادس عشر قادمًا من المغرب وغادر الحياة صباح الثامن عشر عندما أصيب بنوبة قلبية لم تمهله كثيرًا.
لم يغير غياب الزميل شيئًا من نشاطات المهرجان بالطبع، لكنه أرخى بثقله عليه بلا ريب. ولو لم يكن هناك هذا القدر المتواصل من الأفلام المعروضة لاضطر كثيرون إلى الانطواء تحت ثقل هذه الأحزان. لكن الأفلام بدورها لا تخلو من تلك الأعمال التي لا تستطيع إنقاذ الحدث الماثل من حالة جمود غير مستحبّة. والمنتشر هنا هو الانقسام حيال كل شيء وأي شيء بحيث تضيع الحقيقة حتى لو كانت بسيطة.
فالنقاش المتداول في حلقات كثيرة هو إذا ما كانت هذه الدورة أفضل من الدورة السابقة أو أسوأ منها. وهذا النقاش تحديدًا بدأ حتى من قبل أن ينجز المهرجان يومه الثاني، ما يؤكد أن سوء النية أمر غير مستبعد لدى بعض أصحاب هذا الرأي على الأقل، إذ لا يمكن الحكم على المهرجان تبعًا ليومين أو ثلاثة من أيامه، ولا تقييمه كليًا وعمليًا بنصف المعلومات المتوفرة حوله، فالميزانية محدودة (البعض يقول أكثر مما كانت في العام الماضي) والظروف السياسية والأمنية المحيطة تهيمن على الحدث لدرجة كبيرة. ثم هناك تلك الظروف الخارجية التي تحدثنا عنها سابقًا والمرتبطة باحتلال المهرجانات الكبيرة الأخرى الصف الأمامي من حيث قدرتها على الحصول على أفضل المتاح من الأفلام الجديدة.
* مشكلة غير منظورة
تقول رئيسة المهرجان ماجدة واصف لـ«الشرق الأوسط»: «كنا وجهنا بعض الدعوات إلى عدد من الممثلين والممثلات العالميين وبينهم ممثلون أميركيون، بل وأخذنا في عين الاعتبار أسماء شعبية محبوبة لدى قطاع كبير من هواة السينما مثل جان - كلود فان دام. لكن حادثة الطائرة حلت علينا فجأة فألغى الجميع رحلاتهم المسبوقة باستثناء كلوديا كاردينالي التي تحدثت طويلاً عن حبها لمصر وللمهرجان».
هذا كان دائمًا مشكلة غير منظورة عند وصول ممثلين أو مخرجين محتفى بهم في القاهرة: الإعلام المحلي لا يسعى لمعرفة مستمدّة من مهنة وحرفة السينمائي، بل رأيه في مصر ومعالمها السياحية وإذا ما كان لديه مانع من تمثيل فيلم مصري.
بالعودة إلى النقاش الدائر حول أي من الدورتين الأخيرتين هي الأفضل، فإن الميزانية المحدودة عنت حجب الجوائز المالية. لكن حتى هذا التبرير يتحوّل هنا إلى احتمال عندما يؤكد لك البعض أن التمويل ما زال لكنّ جزءًا منه توزّع على عدد كبير من الموظفين والمحسوبين على أجهزة وزارة الثقافة بحيث لم يعد ما وصل منه إلى المهرجان ذاته كافيًا.
* السبكي منتجًا فنيًا!
في العام الماضي، خاض المهرجان إعادة إحياء جعلت الجميع يتحدّث عنه كفاعل رئيسي في الحياة الثقافية في السينما العربية. لكن في حين أنه من السهل المقارنة هنا واعتبار أن ذلك وحده يميّز المهرجانين لصالح الدورة السابقة، إلا أنه لا يجب أن ننسى اختلاف قرارات كل رئيس واختلاف أساليبه ورؤيته، وحقيقة أن الدورة السابقة تعرضت لكثير من النقد المبرح في الوقت ذاته كما بعد انتهاء أيامها.
في الدورتين كانت هناك أخطاء من النوع الذي يلي الخطط الموضوعة. مثلاً لم يتم حتى الآن إنشاء عازل يحيّد لجان التحكيم عن الجمهور بحيث يتم تخصيص صالة واحدة للجان التحكيم المختلفة تشاهد فيه الأفلام التي تشترك في مسابقات المهرجان على نحو منفصل. مثل هذا التخصيص ليس للتمييز، بل لمساعدة لجان التحكيم تخطي مشكلات الضغط عند بوابة الدخول ثم - لاحقًا - المشكلة المزمنة عندما يرفع كثير من المشاهدين هواتفهم الجوالة ليكتبوا عليها أو ليقرأوا ما وصلهم من صور أو كتابات، إلى جانب التعليقات والأحاديث الجانبية.
والمتيّمون بحب مشاهدة الفيلم وسماعه دون سواه عليهم إما الصبر والتحمّل وإما مغادرة القاعة وتركها للباقين الذين يعتبرون أن الصالة هي امتداد للشارع أو المقهى.
لا شيء يُذكر حول غياب الأفلام المصرية ذات القيمة الفنية عن المسابقة ومعظم البرامج الموازية. لقد بات هذا الغياب أمرا واقعا مع استمرار المحاولات المتكررة لإدارة المهرجان جذب صانعي الأفلام للاشتراك بها في المهرجان.
هذا منح المنتج أحمد السبكي الفرصة لدخول المسابقة بفيلمين من إنتاجه هما «من ضهر راجل» (الذي حققه ابنه كريم السبكي) و«الليلة الكبيرة» لسامح عبد العزيز. وفي المؤتمر الصحافي الذي حضره المنتج لفيلم ابنه الأول سمع انتقادات ناعمة عن أعماله وأفلامه وتوجه معظمها إلى الفئات الشعبية وما الذي ينتظره من مهرجان القاهرة من خلال اشتراكه.
كذلك من أخبار «من ضهر راجل» كيف أن أحمد السبكي أحاط بذراعيه المخرج المصري محمد خان قبيل بدء العرض وقال موجهًا حديثه إلى الجمهور بصوت مرتفع: «أنا باجيب أفلامي مهرجان القاهرة بس إنت بتعرض أفلامك في الخارج».
دواعي ذلك أن فيلم محمد خان المقبل «قبل زحمة الصيف» سيشترك في مسابقة مهرجان دبي المقبل وليس في عداد الأفلام المشتركة في البلد المنتج. لكن الواقع هو أن الفيلم المذكور ما زال في مرحلة ما بعد التصوير، ما يجعل من اشتراكه في مهرجان القاهرة مستحيلاً.
* نجوم لزمن آخر
رأي بعض النقاد المصريين في وضع السينما المصرية وسيطرة شركة السبكي على السوق بسيط: في زمن مضى كان هناك كثير من المنتجين العاملين وكان العدد الإجمالي للأفلام المنتجة في مصر يزيد على خمسين فيلما في العام، ما يعني أن إنتاجات الجهة الواحدة، التي لا تزيد على سبعة أفلام في السنة، لم تكن لتستطيع تشكيل الغالبية حتى لو أرادت.
ما يحدث الآن في السينما المصرية هو أن غياب المنتجين الآخرين (بشكل عام) هو ما يتيح لإنتاجات السبكي أن تنفرد تقريبًا بالسوق المصرية، ما يجعل المنتج المعروف يبدو كما لو أنه قد سيطر على مقادير السينما المصرية كليًا.
إلى ذلك، فإن المحاولات الإنتاجية للسينما المعروفة بنزعتها الاستقلالية، وبالتالي الفنية، محدودة على نحو طبيعي. فهي ما زالت تكلّف ما قد لا تفي السوق به من جمهور، ما يجعل تواصلها أكثر عرضة للانقطاع من تلك التجارية في الغاية.
على صعيد آخر، تغيّر مفهوم النجومية على نحو شامل. الوجوه المعروفة التي شكلت نسيج نجومية الثمانينات والتسعينات مثل ليلى علوي ويسرا ومحمود حميدة (ومن قبلهم حسين فهمي ومحمود ياسين) لم تعد كثيرة العمل. تنتظر قيام مخرجين من وزن داود عبد السيد أو يسري نصر الله أو خيري بشارة أو محمد خان لانتقائهم، لكن هؤلاء لا يعملون على نحو متواصل، ما يجعلهم غائبين تمامًا عن الحضور لمعظم سنوات العقد. وفي حين أن بعض ذلك طبيعي، إلا أن غير الطبيعي أن معظم الوجوه الجديدة أخفقت في احتلال الصف الأول كنجوم دائمين. من فعل منهم، مثل محمد رمضان (بطولة «شد أجزاء») وتامر حسني (يظهر حاليًا في فيلم «أهواك») وأمل رزق وغادة عادل ودنيا سمير غانم، وجد نفسه وجهًا أولاً لبضع سنوات في مواجهة تقلّب غير مسبوق للسوق المصرية.
تتحكّم في كل ذلك عوامل كثيرة، من أهمها أن طريقة صنع الأفلام ذاتها قد تغيّرت وأن مفهوم ما هو المطلوب من صنع الفيلم الواحد تبدّل، والجرأة في تناول مواضيع أكثر تميّزًا بأسلوب عمل خاص وذاتي أصبح وضعًا غير محبّذ ونوعًا من الرقابة الذاتية التي تحد من تقدم السينما المصرية على النحو الذي تستعيد فيه بعض مجدها الغابر.