لبنان: قراءة في تفجير برج البراجنة المزدوج في معقل حزب الله

هل كان «داعش» يثأر من عملية عرسال أم ما حصل في كويرس؟

لبنانيون يعاينون دراجة نارية في موقع التفجير الإرهابي في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم الخميس الماضي (رويترز)
لبنانيون يعاينون دراجة نارية في موقع التفجير الإرهابي في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم الخميس الماضي (رويترز)
TT

لبنان: قراءة في تفجير برج البراجنة المزدوج في معقل حزب الله

لبنانيون يعاينون دراجة نارية في موقع التفجير الإرهابي في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم الخميس الماضي (رويترز)
لبنانيون يعاينون دراجة نارية في موقع التفجير الإرهابي في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم الخميس الماضي (رويترز)

استهدف هجوم انتحاري، خلال الأسبوع الفائت، شارع عين السكة بمنطقة برج البراجنة، في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، على مقربة من مخيم برج البراجنة الفلسطيني، أسفر عن مقتل 43 شخصا وإصابة 244 آخرين. هذه الحادثة المروعة إن دلّت على شيء فإنها تدل على نهاية فترة طويلة من الهدوء حاولت خلالها الحكومة اللبنانية وحزب الله اتخاذ إجراءات صارمة للحد من نشاط شبكات المتطرفين. أما تحليل مثل هذه التفجيرات فلا يمكن إجراؤه بمعزل عن السياق الأمني، حيث شهدت الساحة اللبنانية المحلية العديد من الخروق الأمنية خلال الأسابيع الأخيرة. كذلك لا يمكن النظر إليها بعيدا عن المتغيرات على الساحة السورية والإقليمية، بعدما نجح النظام السوري بمساعدة حزب الله، في الأسبوع الفائت، في فك الحصار عن مطار كويرس وطرد تنظيم داعش من محيطه. هذه الخسائر قد تفسّر هجوم الضاحية بوضعه في خانة عمليات ممنهجة على المستوى الإقليمي وليس فقط لبناني.

ظهر الإرهاب بعنف من جديد في لبنان آخذًا هذه المرة شكل تفجير انتحاري مزدوج في محلة برج البراجنة المكتظة بالسكان داخل الضاحية الجنوبية، التي تعرف بأنها معقل حزب الله في لبنان.
لقد دخل انتحاريان إلى الشارع الرئيسي في محلة برج البراجنة المعروفة بالسوق الشعبية في عين السكة سيرا على الأقدام. فقام الانتحاري الأول بتفجير نفسه أمام فرن، تلاه إقدام إرهابي آخر على تفجير نفسه بالقرب من موقع الانفجار الأول بعد بضع دقائق فقط، مما أدى إلى وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين.
التحقيقات الأولية كشفت عن وجود انتحاري ثالث عثر على جثته على الأرض مزنّرا بحزام ناسف لم ينفجر. وبحسب شهود عيان قتل الانتحاري الثالث متأثرا بإصابته في التفجير الثاني، لكن المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود لم يؤكّد هذه الرواية، بل صرّح بعد تفقده مكان التفجيرين الإرهابيين في برج البراجنة بأن «العملية كانت مزدوجة، وهما تفجيران، ولم يثبت إلى الآن أن الانتحاريين كانوا ثلاثة، والموضوع قيد المتابعة».
هذا التفجير المزدوج هو الأول الذي يستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت منذ يونيو (حزيران) 2014 عندما انفجرت سيارة مفخخة أسفرت حينها عن مقتل ضابط من الأمن العام حاول توقيف الانتحاري. وقبل ذلك، وبين يوليو (تموز) 2013 وفبراير (شباط) 2014، تعرّضت معاقل حزب الله لتسع هجمات.
هذه المرة، ما إن وقع تفجيرا برج البراجنة حتى أصدر «داعش» بيانا تبنى فيه هذا الهجوم. وبناءً على المعلومات التي جرى تناقلها، والتي لا يمكن لـ«الشرق الأوسط» أن تؤكدها، فإن اثنين من الانتحاريين، هما من الجنسية الفلسطينية، قاما بالتفجيرين. وعلى الرغم من أن هذه المعلومات ما زالت غير مؤكدة، فإنه تجدر الإشارة إلى ما أوردته مؤخرا صحيفة «الأخبار» اللبنانية القريبة من حزب الله، حول إلقاء القبض قبل بضعة أسابيع من الأمن العام على فلسطيني اعترف بالتخطيط لسلسلة من الهجمات الإرهابية في لبنان نيابة عن «داعش» كانت ستستهدف الطائفة الشيعية والجيش اللبناني.
فضلا عن ذلك، كان الأمن العام اللبناني قد أوقع في قبضته خلال قبل بضعة أسابيع التوأمين زياد وجهاد كعوش (من مواليد 1991)، وقيل إن الاثنين من أهمّ الكوادر القياديّة في «داعش» داخل مخيّم عين الحلوة، القريب من مدينة صيدا، عاصمة جنوب لبنان. كما ذُكر أن جهاد كعوش تلقّى تعليمه الديني في الجزائر، حيث تتلمذ على أيدي مشايخ هناك. أما شقيقه زياد، فقد اجتمع بمسؤولين كبار في «داعش» في مدينة الرقة السورية، عاصمة المنظمة المتطرفة، في سوريا لتنسيق «عملية أمنية في لبنان» بهدف «إثارة النعرات الطائفية».
غير أن الحاج ماهر عويض، وهو مسؤول «أنصار الله»، الفصيل المسلح الفلسطيني في عين الحلوة، الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي، أكد أن الأخوين كعوش ما كانا من الشخصيات الرئيسية في خلية «داعش» في لبنان، بعكس ما نشرته التقارير الإعلامية. مع هذا، فإن تفجيري برج البراجنة يضعان المخيمات الفلسطينية على غرار عين الحلوة، بالنسبة لكثيرين، هدفا سهلا للشك والاتهام بأن منها تنطلق الأنشطة المتطرفة، وكان على مر السنين قد أوقف في برج البراجنة عدة شخصيات متطرفة على علاقة بخلايا حركيين متطرفين.
في لبنان، معروف أن اللاجئين الفلسطينيين (والسواد الأعظم منهم من المسلمين السنّة)، مثلهم مثل غالبية السنّة اللبنانيين، يميلون إلى دعم الثورة السورية ويعارضون تدخل حزب الله في الحرب السورية ومساندته لنظام بشار الأسد. وخلال السنوات الأخيرة ألقي القبض على عدة خلايا أهمها تلك التابعة لنعيم عباس، في حين لا تزال مجموعة من المتطرفين تعمل خارج سلطة الدولة والأجهزة الأمنية. وهنا يقول الحاج عويض صراحةً إن كثرة من الشباب في عين الحلوة تؤيد «داعش»، متابعا: «من الصعب تحديد من يدين بالولاء لأي جماعة. لكن، بشكل عام تنجذب العناصر التابعة لجماعة (شباب مسلم)، وهي جماعة إرهابية بقيادة بلال بدر، إلى (داعش)، وهناك الفصائل التي تؤيد (فتح الإسلام) و(جند الشام).. التي يتألف كل منها من خمسة عشر فردا». ويستطرد الحاج عويض: «على الرغم من أن بعضهم أقرب إلى جبهة النصرة وبعضهم الآخر إلى (داعش) فإنهم جميعا يتعاونون في نهاية الأمر بعضهم مع بعض».
وبالعودة إلى تفجير برج البراجنة فإن هذه الحادثة تضع لبنان وحزب الله و«داعش» أمام سيناريوهين: الأول، أنه من المحتمل أن يكون هذا التفجير المزدوج مرتبطا بالهجوم الذي وقع قبل أسبوعين ضد «هيئة علماء المسلمين للقلمون» الذين جرى استهدافهم بانفجار قنبلة في بلدة عرسال البقاعية الواقعة على الحدود اللبنانية الشمالية الشرقية مع سوريا، التي تشكل جيبا سنيا داخل منطقة تقطنها أغلبية شيعية بشمال شرقي لبنان، والتي باتت مأوى للعديد من اللاجئين السوريين، وكذلك مسلحي المعارضة السورية في المناطق الريفية المحيطة بها. ولقد نسبت تلك العملية في حينها لـ«داعش»، ووفقا لمصادر إعلامية كان سببها خلافات مع «جبهة النصرة». غير أن التنظيم في لبنان، بعكس حاله في سوريا، يتشارك الأهداف نفسها مع «جبهة النصرة»، حيث إن فصائل مثل «جماعة عبد الله عزام» و«جند الشام» أو «فتح الإسلام» فضلا عن «شباب طرابلس» مثل شادي مولوي أو خلية الشيخ حبلص.. كلها تدين بالولاء للمجموعتين معا، وغالبا ما تتعاون الواحدة مع الأخرى في ميدان المعركة، تماما كما حصل في الجولة الأخيرة من الاشتباكات مع الجيش اللبناني في طرابلس، عاصمة شمال لبنان. السيناريو الثاني، المتصل بالوضع الإقليمي، يتعلق باستحالة فصل تفجير برج البراجنة المزدوج عن فك حصار مطار كويرس العسكري بواسطة قوات النظام السوري وحلفائه، بعد ثلاث سنوات من محاصرته من قبل فصائل المعارضة، وذلك بمساعدة القصف الجوي الروسي وحزب الله الذي فقد 8 مقاتلين بحسب بعض التقارير الإعلامية. وهذه النظرية هي التي يبدو أن الشيخ الأردني أبو محمد آل مقدس يتبناها. إذ إنه غرّد في موقع «تويتر» كاتبا: «ما يزرعه حزب الشيطان بالشام يحصده في لبنان. نصر بشار جلب على حزبه الدمار. اسحب زعرانك واحفظ ماء وجهك، فعند فرار أو سقوط بشار لن تجنوا إلا العار».
إن خسائر «داعش» في كويرس وغيرها من المناطق، مثل سقوط سنجار في العراق في أيدي ميليشيا البيشمركة الكردية خلال الأسبوع الماضي، تضع تفجيري الضاحية في إطار أوسع إقليمي. وعندما ينقلب السحر على الساحر يكون رد الفعل عنيفا ويتخطى الحدود، وهذا ما حدث في تنظيم داعش.
إن المهمشين السنّة في لبنان هم بشكل خاص من الفلسطينيين، الذين يعيشون كغرباء في بلد يعتبرونه وطنا لهم منذ عام 1948. ثم إن تدفق مئات الألوف من اللاجئين السوريين - وهم أيضا بغالبيتهم العظمى من السنّة - يضع مزيدا من الضغط على الوضع الأمني والطائفي والسياسي في لبنان، ويزيد من عمق الهوة بين السنة والشيعة. وهذا، مع الإشارة إلى أن ما يزيد على ألف حركي متشدد، حسب معلومات مسؤول في مكافحة الإرهاب إلى الشرق الأوسط، توجهوا من لبنان إلى سوريا للقتال في صفوف الجماعات المتطرفة والإرهابية. في مطلق الأحوال، الواضح الآن أن فترة الهدوء الحذر التي نعم بها حزب الله خلال العام الماضي يبدو أنها انتهت، وقد يكون التفجير المزدوج هو التفجير الأول في سلسلة طويلة قد تستهدف الحزب.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.