تفجيرات باريس واستراتيجيات الإرهاب

الإرباك والإنهاك

رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
TT

تفجيرات باريس واستراتيجيات الإرهاب

رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)

ليست عملية باريس التي وقعت مساء الجمعة 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في عاصمة الأنوار باريس، والتي راح ضحيتها 129 قتيلا و350 جريحا، إلا دليلا واضحا على استراتيجية الإنهاك والاستنزاف لصورة وهيبة الدول، التي وضعها صاحب كتاب «إدارة التوحش» لـ«القاعدة»، وأحسن توظيفها «داعش»!
رغم ما ادعاه «داعش» في بيانه من أنه استهدف فرنسا لمشاركتها في التحالف الدولي ضد «داعش» في سوريا والعراق، ومواقفها الواضحة في مكافحة الإرهاب، فإننا نظن أن هذا ليس سببا أصيلا، فقد سبق أن استهدف الهند في بومباي والأستراليين في سيدني. إن مثل هذه العملية جزء من محاولات الحضور وتأكيده وتصدير صورة الإنهاك وضعف الدول لعناصرها وأعدائها في الآن نفسه.
استراتيجية الإرباك والإنهاك كانت واضحة في تفجيرات باريس المتزامنة الموزعة بين مناطق ثلاث مختلفة في الوقت نفسه، وهو ما نجد شبيها به في عمليات «داعش» في سيناء حين هاجم في الوقت نفسه خمسة أكمنة ونقاط تفتيش لقوات الأمن المصرية في الأول من يوليو (تموز) من العام الجاري وراح ضحيتها ما لا يقل عن ستين قتيلا، كما تتشابه مع عملية سيطرة «داعش» على بيجي في ديسمبر (كانون الأول) سنة 2014 حيث هاجمها في الوقت نفسه ثمانية عشر انتحاريا.
تطرح تفجيرات عاصمة الأنوار الكثير من الأسئلة، ليس أولها ما يتعلق باحتضان الغرب لدعاة التطرف وبذور خلاياه النائمة، وهو ما يتماس مع الموقف الغربي من دعاة الإرهاب وجماعاته، وخطورة اتخاذ حقوق الإنسان مطية لأعداء منظومة الحداثة ككل، وإن لم يكن هذا هو الأهم الآن.
ولكن الأهم بموازاة هذا الخطر هو الوعي باستراتيجيات الإرهاب، من «القاعدة» إلى «داعش»، والانتباه لتفكيره وخططه الاستراتيجية، التي تمتد عبر منظومة جهادية متنوعة، فيها الجهاد السياسي والدولتي كما فيها الجهاد الاقتصادي وفيها الجهاد الفردي كما فيها الجهاد التنظيمي، وفيها الذئاب المنفردة كما فيها المجموعات المنظمة، وتمثل في مجموعها إدارة وتوظيفا نموذجيا للتوحش وصناعة وتمهيدا له عبر الإنهاك والاستنزاف.
لا ينتبه الكثير من المراقبين للمفكرين الاستراتيجيين للإرهاب، «قاعديا» كان أم «داعشيا»، وهو التكفير المجابه للواقع وليس التنظير الديني أو الفكري المفارق قليلا له، وهم وجوه متعددة وأصوات متكاملة غير منفصلة، بنى فيها اللاحق على السابق، فتوسع «داعش» فيما أسست له «القاعدة» ومنظروها من الاعتماد على العمليات الانتحارية، أو على الانتحاريين والذئاب المنفردة كما شاهدنا في أحداث باريس وشاهدنا قبلها في باردو كما شاهدناه في سيناء وبيجي وغيرهما.
إن خطورة التفكير الاستراتيجي لـ«داعش» تتضح كونه حولها من حالة لظاهرة غير محدودة زمانا أو مكانا، بل خطرا محدقا بالجميع، يضرب في مصفاة نفط كما يضرب في مصلى أو مسجد ويضرب في مسرح وفي جريدة كما يضرب في نقطة تفتيش أمني.
سنحاول فيما يلي العرض لأربعة من أبرز المنظرين الاستراتيجيين لـ«الجهادية المعولمة» مثالا لا حصرا حسب تراتبهم الزمني فيما يلي تأكيدا على أهمية هذا البعد في مكافحة الإرهاب، ورفضا ونقضا على مقولة إن الإرهاب مجرد مرض نفسي أو نضال «تويتري»، إنه عقل يلتحم بواقع عالمي وإقليمي وقطري ويتحداه بأدواته ومفاجآته في آن واحد.
أولا: سيف العدل مكتشف الزرقاوي ومهندس العلاقة مع إيران:
يعتبر القائد العسكري والاستراتيجي لدى «القاعدة»، كان ضابطا سابقا في الجيش المصري، وانضم لجماعة الجهاد والتحق بالجهاد الأفغاني سنة 1988. واقترب من بن لادن حتى كان بمثابة رئيس الجهاز الأمني الخاص به، وتولى قيادة تنظيم القاعدة مؤقتا بعد وفاة الأخير في 2 مايو (أيار) سنة 2011. أقام في إيران سنوات طويلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وأشيع أكثر من مرة عودته لأفغانستان لكن لم تتأكد هذه المعلومات، وهو يعتبر مهندس تجسير العلاقة بين الزرقاوي وبن لادن والظواهري من جهة أخرى، فهو من استقبل الأخير في إيران وهو من ربطه بجماعة أنصار الإسلام الكردية وقائدها أبو عبيد الله الشافعي المقتول سنة 2010 كما أنه من قدمه لقيادات «القاعدة» وأقنعهم به، رغم تحفظاتهم على بعض ممارساته، وقد نشر شهادة مطولة له عن ذلك في موقع منبر التوحيد والجهاد بعد مقتل الزرقاوي.
كما يظن أن سيف العدل كان له الإشراف المباشر على «القاعدة» في العراق، والتنسيق فيما بينها وبين قيادة «القاعدة» المركزية في أفغانستان، وتنظيم تراتبيتها وهيكليتها، فاستقدم أبو حمزة المهاجر من اليمن، كما دفع الزرقاوي لتوحيد المجموعات الجهادية في مجلس شورى المجاهدين.
اسمه الحقيقي محمد إبراهيم مكاوي ويعتقد أنه كان يضطلع بمعظم مهام القيادي الراحل في «القاعدة» محمد عاطف (أبو حفص المصري) صهر بن لادن والقائد العسكري لتنظيم القاعدة الذي قتل في غارة أميركية على كابل في 16 فبراير (شباط) 2001، وهو أحد أبرز المطلوبين للاستخبارات الأميركية، التي رصدت جائزة تصل إلى 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، وهو بارع في التخفي وتشابه اسمه وصفته مع آخر من العائدين من أفغانستان تماما ولكنه تم الإفراج عنه بعدما تبين للسلطات المصرية أنه ليس هو في الأول من مارس (آذار) سنة 2012.
وقد بزغ اسم سيف العدل المصري بتفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، كما تتهمه الولايات المتحدة بتدريب المقاتلين الصوماليين الذين قتلوا 18 أميركيا في مقديشو عام 1993، وفي عام 1987. اتهمت مصر سيف العدل بمحاولة إنشاء جناح عسكري لجماعة الجهاد الإسلامي المتشددة، والعمل على قلب نظام الحكم.
رغم قلة كتاباته والمعلومات المتاحة عنه، ولكن تتضح أهميته من حرص «القاعدة» على علاقتها بإيران حرصا عليه، وعلى من كانوا معه فيها شأن سليمان أبو غيث وأسرة بن لادن، وهو ما كان محل نقد «داعش» لها فيما بعد، ووصمها إياها بـ«أبناء إيران».

ثانيا: أبو مصعب السوري وخبرات التجارب الجهادية:
هو مصطفى عبد القادر ست مريم، ويعرف بعمر عبد الحكيم، سوري الأصل، ولد في حلب سنة 1378 هجرية - 1957 ميلادية، ويحمل الجنسية الإسبانية. كان من الطليعة المقاتلة «الإخوان المسلمين» في سوريا، وقد تخصص الشيخ في علم هندسة المتفجرات وحرب عصابات المدن والعمليات الخاصة، وعمل مدربا في قواعد الجهاز العسكري لتنظيم الإخوان المسلمين في الأردن، وفي معسكراته ببغداد، وكان مسؤولا عن شمال غربي سوريا.
سافر لبريطانيا وباكستان وأفغانستان، وأسس في لندن «مكتب دراسات صراعات العالم الإسلامي»، وقام المكتب بتنفيذ مشروع مقابلتين صحافيتين مع الشيخ أسامة بن لادن، الأولى لصالح القناة التلفزيونية الرابعة في «BBC»، والثانية مع شبكة «CNN».
عاد لأفغانستان بعد قيام دولة طالبان، كان يعمل في وزارة الإعلام في حكومتها. ألقي القبض عليه في باكستان ولم يكن يعرف في أي السجون الأميركية هو، ولكن يرجح تسليمه للنظام السوري.
ويعد أبو مصعب السوري أحد أبرز المنظرين الاستراتيجيين لـ«القاعدة» وللتنظيمات الجهادية، نظرا لخبرته السورية مع الطليعة المقاتلة بقيادة مروان حديد، ثم في مرحلة الجهاد الأفغاني، ثم ارتباطا وثيقا مع بن لادن وطالبان.
وقد كتب عمر عبد الحكيم المعروف بأبي مصعب السوري الكثير من الرسائل والكتب في هذا الاتجاه أبرزها «دعوة المقاومة العالمية» و«ثغرة في الصحوة الجهادية» و«ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا» و«الفجوة الفكرية والجهادية في التيار الجهادي الحالي» وغيرها كثير.
ويتضح التوجه الاستراتيجي لأبي مصعب السوري من اهتمامه باليمن كمنطلق لـ«القاعدة» والجهاديات المعولمة، ورغم أن البعض يربط أهمية اليمن لدى «القاعدة» بأصول زعيمها الراحل أسامة بن لادن الحضرمية، فإن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب، فالتيار السلفي - الجهادي يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن، لعل أفضل من عبر عنها، أحد أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حاليًا: عمر عبد الحكيم المعروف بـ«أبي مصعب السوري»، الذي كتب في عام 1999 كتابًا بعنوان «مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم» أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديموغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معًا، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما يتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة «تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة، بل لكافة الشرق الأوسط، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها»، فضلاً عن امتلاكه حدودا مفتوحة «تزيد على أربعة آلاف كم»، وسواحل بحرية «تزيد على ثلاثة آلاف كم»، ويتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب. وأيضًا عامل انتشار السلاح «نظرًا للتقاليد القبلية»، إضافة إلى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و«البشائر» المرتبطة باليمن، تمثل كلها، بنظر «السوري» و«القاعدة»، عوامل أساسية، ليكون اليمن «منطلقًا» وقاعدة للجهاد «لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين».
ثالثا: أبو بكر ناجي أو محمد خليل الحكايمة (الجهاد الفردي والذئاب المنفردة) والتوحش:
ولد سنة 1961 ميلادية، وكان عضوا سابقا في الجماعة الإسلامية المصرية، ومن قيادات فرعها بأسوان، لكنه رفض مراجعاتها التي صدرت منذ سنة 1997 وأسس مجموعة بعنوان «الثابتون على العهد» هو حاصل على ماجستير في الخدمة الاجتماعية، وممن حوكم في قضية الجهاد الكبرى في اغتيال السادات سنة 1981، وقد نجح في الهروب من مصر سنة 1987 متوجها لأفغانستان، وشارك في تحرير مجلة الجماعة «المرابطون»، ولكنه انشق عنها منضما لـ«القاعدة» ومنظرا استراتيجيا لها حتى مقتله في قصف أميركي في أفغانستان في أغسطس (آب) سنة 2008.
وقد دافع الحكايمة بشدة عن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، التي يبدو أنها ألهمته كثيرا من أفكاره فيما بعد، حول الجهاد الفردي وحول إدارة التوحش واستنزاف الدول، وألف كتيبا في إثبات نجاعتها بعنوان «أسطورة الوهم: كشف القناع عن الاستخبارات الأميركية» نشرته مواقع جهادية مختلفة، ويقول في مقدمتها عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتأثيرها على الولايات المتحدة: «مفاجأة استراتيجية بامتياز. فقد أُخذت الاستخبارات الأميركية من حيث لا تحتسب، خاصة وهي في وضع تتفرّد فيه بقيادة العالم. إنها مفاجأة بنتائجها، أدّت هذه المفاجأة إلى إحداث صدمة في الوعي الأميركي.
لقد أدّت غزوة مانهاتن إلى تبدّل جذري في مفهوم الأمن الأميركي.
فبعد أن كان نصف القارة الشمالي معزولا عن بقية العالم وتهديداته بمحيطين، أصبح الآن في الداخل.
وضربت المفاجأة رموز القوّة الأميركيّة في بُعديها الاقتصادي والأمني. فغيّرت المفاجأة معالم المركز المالي الأهم في العالم».
ولكن يحسب للحكايمة بالخصوص أنه أول من دعا لاستراتيجية الجهاد الفردي سنة 2007 التي عرفت فيما بعد بظاهرة «الذئاب المنفردة» وتوسع فيها «القاعدة» ثم «داعش» في عمليات الانتحاريين، وتقوم فكرة الجهاد الفردي - وفق تفسير الحكايمة - على اعتبار أن هذا النوع من الجهاد وعلى مر التاريخ الإسلامي يتم اللجوء إليه في ظل غياب منظومة متكاملة للجهاد وهو النمط الذي يقول الحكايمة بأنه: «تكرر في زمن الحروب الصليبية، وفساد الأمراء وانحلال الأمة، حيث تصدت جموع المجاهدين المقاومين للأزمة من خلال السرايا والمجموعات المنعزلة» حيث تستطيع الخلايا الصغيرة والأفراد القيام بعمليات اغتيال أو تفجير ضخمة تحدث أثرا إعلاميا ضخما»، كما تجلى في عمليات باريس الأخيرة، أو عملية ديترويت أو عملية أيوب الطيشان حين استهدافه الناقلة اليابانية إم ستار في مضيق هرمز في يونيو (حزيران) 2010 وغيرها.
ونرجح أن الحكايمة المقتول سنة 2008 هو نفسه أبو بكر ناجي صاحب كتاب «إدارة التوحش» الشهير، وهو الاستراتيجية التي تتضح في أداء «داعش» وتوجهاته وتصوراته بامتياز، بينما ظل الحكايمة مهمشا من قبل الظواهري وقيادات تنظيم القاعدة المركزية، حتى أن الأخير لم يذكره في رثاء بعد مقتله! وكذلك لم يكن هناك اعتناء كبير كذلك بصهر الحكايمة السعودي صالح عبد الله القرعاوي مؤسس كتائب عبد الله عزام الذي تخلت عنه بعد مقتله، ولعل ما يعزز هذه الفرضية أن كتابات أبو بكر ناجي انقطعت مع وفاة الحكايمة نفسه، فضلا عن التشابه الأسلوبي والفكري بينهما.
رابعا: عبد العزيز الطويلعي أخ من أطاع الله (الجهاد الاقتصادي)
المسؤول الشرعي السابق في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يمكن وصف كتاباته في هذا السياق بأنها تأسيس شامل للجهاد الاقتصادي واستهداف المصالح النفطية، للحرب النفطية، تأسيس فقهي وفكري وديني في آن واحد.
اسمه بالكامل عبد العزيز بن رشيد العنزي وهو مسجون حاليا في السجون السعودية منذ العام 2005، وكان يشتهر في المتديات بـ«أخ من أطاع الله» - أول من حاول التبرير الديني والفقهي لاستهداف المنشآت النفطية في دراسته الموسعة «حكم استهداف المنشآت النفطية وأحكام الجهاد الاقتصادي» وقد أجازه ووافقه على ما جاء فيها بعض قيادات التنظيم في السعودية عليها، مثل قائده الثاني للتنظيم في السعودية سعد المقرن (أبو هاجر) رغم عدم اشتهار الأخير بالعلم الشرعي (قتل في 16 يونيو سنة 2004) وأحد القيادات الراحلين أبو سعد معجب الدوسري (والمعروف أبو سعد الأزدي) الذي كان مسؤولا عن إدارة تحرير مجلة التنظيم «صوت الجهاد» وشاعر التنظيم، ونظن أن هذه الدراسة أتت قبل القيام بعملية الخبر في مايو من نفس العام والتي قادها المقرن، وجاءت بحثا فقهيا واستراتيجيا يدفع لها ولما تلاها من عمليات.
وممن ركز على الحرب الاقتصادية كذلك محمد بن عبد الرحمن السويلمي: الذي كتب رسالة سنة 2004 بعنوان «معركتنا: معركة اقتصادية لا عسكرية».
ونظن أن هذه الأطروحات قد مهدت وأنفذت الاهتمام الراهن لـ«داعش» باستهداف مصافي النفط والسيطرة عليها، فقد سبقه «القاعدة» وفروعه لذلك، ونذكر أنه بين عامي 2003 - 2005 وقع نحو 298 هجومًا على الأنابيب النفطية، وكان من ضمن الأهداف المتوخاة من قبل «القاعدة» داخل الولايات المتحدة هو خط أنابيب ألاسكا تكساس ولويزيانا وأوكلاهوما.
ولكن التمهيد الاستراتيجي الداعشي الأهم كان في اعتناء الزرقاوي الشديد بفكرة الدولة، والتي أنفذها خلفاؤه في «القاعدة» في العراق، حين أسس تنظيمهم مأ عرف بـ«دولة العراق الإسلامية» سنة 2006 والتي أسقطتها الصحوات أواخر عام 2007 ولكن وضعوا استراتيجية جديدة سنة 2010 ثم استغلوا الأوضاع والتوحش الذي أنتجه نظام الأسد الدموي طائفيا ضد ثورة شعبه وأخطاء المالكي، فنجحوا في استعادة صولتهم ودولتهم في يونيو سنة 2014 لتمتد في العراق والشام وليسحبوا قيادة الجهاد العالمي من «القاعدة»، بل يطالبونها بالبيعة، بعد إعلان خلافتهم وقد بشر العدناني بذلك قبل ذلك بعام! وهو موضوع كبير يلتقي فيه التفكير السياسي بالخبرة العسكرية الميدانية لكثير من عناصر هذه التنظيمات، كسيف العدل وحجي عمر وأبو ماريا القحطاني، بأطروحات شيوخها كالعييري والعنزي والظواهري وغيرهم!



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».