تفجيرات باريس واستراتيجيات الإرهاب

الإرباك والإنهاك

رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
TT

تفجيرات باريس واستراتيجيات الإرهاب

رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)
رجال شرطة ومواطنون في الموقع الذي حدثت فيه عملية قتل الفرنسيين بالعاصمة باريس (أ.ف.ب)

ليست عملية باريس التي وقعت مساء الجمعة 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في عاصمة الأنوار باريس، والتي راح ضحيتها 129 قتيلا و350 جريحا، إلا دليلا واضحا على استراتيجية الإنهاك والاستنزاف لصورة وهيبة الدول، التي وضعها صاحب كتاب «إدارة التوحش» لـ«القاعدة»، وأحسن توظيفها «داعش»!
رغم ما ادعاه «داعش» في بيانه من أنه استهدف فرنسا لمشاركتها في التحالف الدولي ضد «داعش» في سوريا والعراق، ومواقفها الواضحة في مكافحة الإرهاب، فإننا نظن أن هذا ليس سببا أصيلا، فقد سبق أن استهدف الهند في بومباي والأستراليين في سيدني. إن مثل هذه العملية جزء من محاولات الحضور وتأكيده وتصدير صورة الإنهاك وضعف الدول لعناصرها وأعدائها في الآن نفسه.
استراتيجية الإرباك والإنهاك كانت واضحة في تفجيرات باريس المتزامنة الموزعة بين مناطق ثلاث مختلفة في الوقت نفسه، وهو ما نجد شبيها به في عمليات «داعش» في سيناء حين هاجم في الوقت نفسه خمسة أكمنة ونقاط تفتيش لقوات الأمن المصرية في الأول من يوليو (تموز) من العام الجاري وراح ضحيتها ما لا يقل عن ستين قتيلا، كما تتشابه مع عملية سيطرة «داعش» على بيجي في ديسمبر (كانون الأول) سنة 2014 حيث هاجمها في الوقت نفسه ثمانية عشر انتحاريا.
تطرح تفجيرات عاصمة الأنوار الكثير من الأسئلة، ليس أولها ما يتعلق باحتضان الغرب لدعاة التطرف وبذور خلاياه النائمة، وهو ما يتماس مع الموقف الغربي من دعاة الإرهاب وجماعاته، وخطورة اتخاذ حقوق الإنسان مطية لأعداء منظومة الحداثة ككل، وإن لم يكن هذا هو الأهم الآن.
ولكن الأهم بموازاة هذا الخطر هو الوعي باستراتيجيات الإرهاب، من «القاعدة» إلى «داعش»، والانتباه لتفكيره وخططه الاستراتيجية، التي تمتد عبر منظومة جهادية متنوعة، فيها الجهاد السياسي والدولتي كما فيها الجهاد الاقتصادي وفيها الجهاد الفردي كما فيها الجهاد التنظيمي، وفيها الذئاب المنفردة كما فيها المجموعات المنظمة، وتمثل في مجموعها إدارة وتوظيفا نموذجيا للتوحش وصناعة وتمهيدا له عبر الإنهاك والاستنزاف.
لا ينتبه الكثير من المراقبين للمفكرين الاستراتيجيين للإرهاب، «قاعديا» كان أم «داعشيا»، وهو التكفير المجابه للواقع وليس التنظير الديني أو الفكري المفارق قليلا له، وهم وجوه متعددة وأصوات متكاملة غير منفصلة، بنى فيها اللاحق على السابق، فتوسع «داعش» فيما أسست له «القاعدة» ومنظروها من الاعتماد على العمليات الانتحارية، أو على الانتحاريين والذئاب المنفردة كما شاهدنا في أحداث باريس وشاهدنا قبلها في باردو كما شاهدناه في سيناء وبيجي وغيرهما.
إن خطورة التفكير الاستراتيجي لـ«داعش» تتضح كونه حولها من حالة لظاهرة غير محدودة زمانا أو مكانا، بل خطرا محدقا بالجميع، يضرب في مصفاة نفط كما يضرب في مصلى أو مسجد ويضرب في مسرح وفي جريدة كما يضرب في نقطة تفتيش أمني.
سنحاول فيما يلي العرض لأربعة من أبرز المنظرين الاستراتيجيين لـ«الجهادية المعولمة» مثالا لا حصرا حسب تراتبهم الزمني فيما يلي تأكيدا على أهمية هذا البعد في مكافحة الإرهاب، ورفضا ونقضا على مقولة إن الإرهاب مجرد مرض نفسي أو نضال «تويتري»، إنه عقل يلتحم بواقع عالمي وإقليمي وقطري ويتحداه بأدواته ومفاجآته في آن واحد.
أولا: سيف العدل مكتشف الزرقاوي ومهندس العلاقة مع إيران:
يعتبر القائد العسكري والاستراتيجي لدى «القاعدة»، كان ضابطا سابقا في الجيش المصري، وانضم لجماعة الجهاد والتحق بالجهاد الأفغاني سنة 1988. واقترب من بن لادن حتى كان بمثابة رئيس الجهاز الأمني الخاص به، وتولى قيادة تنظيم القاعدة مؤقتا بعد وفاة الأخير في 2 مايو (أيار) سنة 2011. أقام في إيران سنوات طويلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وأشيع أكثر من مرة عودته لأفغانستان لكن لم تتأكد هذه المعلومات، وهو يعتبر مهندس تجسير العلاقة بين الزرقاوي وبن لادن والظواهري من جهة أخرى، فهو من استقبل الأخير في إيران وهو من ربطه بجماعة أنصار الإسلام الكردية وقائدها أبو عبيد الله الشافعي المقتول سنة 2010 كما أنه من قدمه لقيادات «القاعدة» وأقنعهم به، رغم تحفظاتهم على بعض ممارساته، وقد نشر شهادة مطولة له عن ذلك في موقع منبر التوحيد والجهاد بعد مقتل الزرقاوي.
كما يظن أن سيف العدل كان له الإشراف المباشر على «القاعدة» في العراق، والتنسيق فيما بينها وبين قيادة «القاعدة» المركزية في أفغانستان، وتنظيم تراتبيتها وهيكليتها، فاستقدم أبو حمزة المهاجر من اليمن، كما دفع الزرقاوي لتوحيد المجموعات الجهادية في مجلس شورى المجاهدين.
اسمه الحقيقي محمد إبراهيم مكاوي ويعتقد أنه كان يضطلع بمعظم مهام القيادي الراحل في «القاعدة» محمد عاطف (أبو حفص المصري) صهر بن لادن والقائد العسكري لتنظيم القاعدة الذي قتل في غارة أميركية على كابل في 16 فبراير (شباط) 2001، وهو أحد أبرز المطلوبين للاستخبارات الأميركية، التي رصدت جائزة تصل إلى 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، وهو بارع في التخفي وتشابه اسمه وصفته مع آخر من العائدين من أفغانستان تماما ولكنه تم الإفراج عنه بعدما تبين للسلطات المصرية أنه ليس هو في الأول من مارس (آذار) سنة 2012.
وقد بزغ اسم سيف العدل المصري بتفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، كما تتهمه الولايات المتحدة بتدريب المقاتلين الصوماليين الذين قتلوا 18 أميركيا في مقديشو عام 1993، وفي عام 1987. اتهمت مصر سيف العدل بمحاولة إنشاء جناح عسكري لجماعة الجهاد الإسلامي المتشددة، والعمل على قلب نظام الحكم.
رغم قلة كتاباته والمعلومات المتاحة عنه، ولكن تتضح أهميته من حرص «القاعدة» على علاقتها بإيران حرصا عليه، وعلى من كانوا معه فيها شأن سليمان أبو غيث وأسرة بن لادن، وهو ما كان محل نقد «داعش» لها فيما بعد، ووصمها إياها بـ«أبناء إيران».

ثانيا: أبو مصعب السوري وخبرات التجارب الجهادية:
هو مصطفى عبد القادر ست مريم، ويعرف بعمر عبد الحكيم، سوري الأصل، ولد في حلب سنة 1378 هجرية - 1957 ميلادية، ويحمل الجنسية الإسبانية. كان من الطليعة المقاتلة «الإخوان المسلمين» في سوريا، وقد تخصص الشيخ في علم هندسة المتفجرات وحرب عصابات المدن والعمليات الخاصة، وعمل مدربا في قواعد الجهاز العسكري لتنظيم الإخوان المسلمين في الأردن، وفي معسكراته ببغداد، وكان مسؤولا عن شمال غربي سوريا.
سافر لبريطانيا وباكستان وأفغانستان، وأسس في لندن «مكتب دراسات صراعات العالم الإسلامي»، وقام المكتب بتنفيذ مشروع مقابلتين صحافيتين مع الشيخ أسامة بن لادن، الأولى لصالح القناة التلفزيونية الرابعة في «BBC»، والثانية مع شبكة «CNN».
عاد لأفغانستان بعد قيام دولة طالبان، كان يعمل في وزارة الإعلام في حكومتها. ألقي القبض عليه في باكستان ولم يكن يعرف في أي السجون الأميركية هو، ولكن يرجح تسليمه للنظام السوري.
ويعد أبو مصعب السوري أحد أبرز المنظرين الاستراتيجيين لـ«القاعدة» وللتنظيمات الجهادية، نظرا لخبرته السورية مع الطليعة المقاتلة بقيادة مروان حديد، ثم في مرحلة الجهاد الأفغاني، ثم ارتباطا وثيقا مع بن لادن وطالبان.
وقد كتب عمر عبد الحكيم المعروف بأبي مصعب السوري الكثير من الرسائل والكتب في هذا الاتجاه أبرزها «دعوة المقاومة العالمية» و«ثغرة في الصحوة الجهادية» و«ملاحظات حول التجربة الجهادية في سوريا» و«الفجوة الفكرية والجهادية في التيار الجهادي الحالي» وغيرها كثير.
ويتضح التوجه الاستراتيجي لأبي مصعب السوري من اهتمامه باليمن كمنطلق لـ«القاعدة» والجهاديات المعولمة، ورغم أن البعض يربط أهمية اليمن لدى «القاعدة» بأصول زعيمها الراحل أسامة بن لادن الحضرمية، فإن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب، فالتيار السلفي - الجهادي يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن، لعل أفضل من عبر عنها، أحد أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حاليًا: عمر عبد الحكيم المعروف بـ«أبي مصعب السوري»، الذي كتب في عام 1999 كتابًا بعنوان «مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم» أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديموغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معًا، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما يتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة «تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة، بل لكافة الشرق الأوسط، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها»، فضلاً عن امتلاكه حدودا مفتوحة «تزيد على أربعة آلاف كم»، وسواحل بحرية «تزيد على ثلاثة آلاف كم»، ويتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب. وأيضًا عامل انتشار السلاح «نظرًا للتقاليد القبلية»، إضافة إلى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و«البشائر» المرتبطة باليمن، تمثل كلها، بنظر «السوري» و«القاعدة»، عوامل أساسية، ليكون اليمن «منطلقًا» وقاعدة للجهاد «لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين».
ثالثا: أبو بكر ناجي أو محمد خليل الحكايمة (الجهاد الفردي والذئاب المنفردة) والتوحش:
ولد سنة 1961 ميلادية، وكان عضوا سابقا في الجماعة الإسلامية المصرية، ومن قيادات فرعها بأسوان، لكنه رفض مراجعاتها التي صدرت منذ سنة 1997 وأسس مجموعة بعنوان «الثابتون على العهد» هو حاصل على ماجستير في الخدمة الاجتماعية، وممن حوكم في قضية الجهاد الكبرى في اغتيال السادات سنة 1981، وقد نجح في الهروب من مصر سنة 1987 متوجها لأفغانستان، وشارك في تحرير مجلة الجماعة «المرابطون»، ولكنه انشق عنها منضما لـ«القاعدة» ومنظرا استراتيجيا لها حتى مقتله في قصف أميركي في أفغانستان في أغسطس (آب) سنة 2008.
وقد دافع الحكايمة بشدة عن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، التي يبدو أنها ألهمته كثيرا من أفكاره فيما بعد، حول الجهاد الفردي وحول إدارة التوحش واستنزاف الدول، وألف كتيبا في إثبات نجاعتها بعنوان «أسطورة الوهم: كشف القناع عن الاستخبارات الأميركية» نشرته مواقع جهادية مختلفة، ويقول في مقدمتها عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتأثيرها على الولايات المتحدة: «مفاجأة استراتيجية بامتياز. فقد أُخذت الاستخبارات الأميركية من حيث لا تحتسب، خاصة وهي في وضع تتفرّد فيه بقيادة العالم. إنها مفاجأة بنتائجها، أدّت هذه المفاجأة إلى إحداث صدمة في الوعي الأميركي.
لقد أدّت غزوة مانهاتن إلى تبدّل جذري في مفهوم الأمن الأميركي.
فبعد أن كان نصف القارة الشمالي معزولا عن بقية العالم وتهديداته بمحيطين، أصبح الآن في الداخل.
وضربت المفاجأة رموز القوّة الأميركيّة في بُعديها الاقتصادي والأمني. فغيّرت المفاجأة معالم المركز المالي الأهم في العالم».
ولكن يحسب للحكايمة بالخصوص أنه أول من دعا لاستراتيجية الجهاد الفردي سنة 2007 التي عرفت فيما بعد بظاهرة «الذئاب المنفردة» وتوسع فيها «القاعدة» ثم «داعش» في عمليات الانتحاريين، وتقوم فكرة الجهاد الفردي - وفق تفسير الحكايمة - على اعتبار أن هذا النوع من الجهاد وعلى مر التاريخ الإسلامي يتم اللجوء إليه في ظل غياب منظومة متكاملة للجهاد وهو النمط الذي يقول الحكايمة بأنه: «تكرر في زمن الحروب الصليبية، وفساد الأمراء وانحلال الأمة، حيث تصدت جموع المجاهدين المقاومين للأزمة من خلال السرايا والمجموعات المنعزلة» حيث تستطيع الخلايا الصغيرة والأفراد القيام بعمليات اغتيال أو تفجير ضخمة تحدث أثرا إعلاميا ضخما»، كما تجلى في عمليات باريس الأخيرة، أو عملية ديترويت أو عملية أيوب الطيشان حين استهدافه الناقلة اليابانية إم ستار في مضيق هرمز في يونيو (حزيران) 2010 وغيرها.
ونرجح أن الحكايمة المقتول سنة 2008 هو نفسه أبو بكر ناجي صاحب كتاب «إدارة التوحش» الشهير، وهو الاستراتيجية التي تتضح في أداء «داعش» وتوجهاته وتصوراته بامتياز، بينما ظل الحكايمة مهمشا من قبل الظواهري وقيادات تنظيم القاعدة المركزية، حتى أن الأخير لم يذكره في رثاء بعد مقتله! وكذلك لم يكن هناك اعتناء كبير كذلك بصهر الحكايمة السعودي صالح عبد الله القرعاوي مؤسس كتائب عبد الله عزام الذي تخلت عنه بعد مقتله، ولعل ما يعزز هذه الفرضية أن كتابات أبو بكر ناجي انقطعت مع وفاة الحكايمة نفسه، فضلا عن التشابه الأسلوبي والفكري بينهما.
رابعا: عبد العزيز الطويلعي أخ من أطاع الله (الجهاد الاقتصادي)
المسؤول الشرعي السابق في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يمكن وصف كتاباته في هذا السياق بأنها تأسيس شامل للجهاد الاقتصادي واستهداف المصالح النفطية، للحرب النفطية، تأسيس فقهي وفكري وديني في آن واحد.
اسمه بالكامل عبد العزيز بن رشيد العنزي وهو مسجون حاليا في السجون السعودية منذ العام 2005، وكان يشتهر في المتديات بـ«أخ من أطاع الله» - أول من حاول التبرير الديني والفقهي لاستهداف المنشآت النفطية في دراسته الموسعة «حكم استهداف المنشآت النفطية وأحكام الجهاد الاقتصادي» وقد أجازه ووافقه على ما جاء فيها بعض قيادات التنظيم في السعودية عليها، مثل قائده الثاني للتنظيم في السعودية سعد المقرن (أبو هاجر) رغم عدم اشتهار الأخير بالعلم الشرعي (قتل في 16 يونيو سنة 2004) وأحد القيادات الراحلين أبو سعد معجب الدوسري (والمعروف أبو سعد الأزدي) الذي كان مسؤولا عن إدارة تحرير مجلة التنظيم «صوت الجهاد» وشاعر التنظيم، ونظن أن هذه الدراسة أتت قبل القيام بعملية الخبر في مايو من نفس العام والتي قادها المقرن، وجاءت بحثا فقهيا واستراتيجيا يدفع لها ولما تلاها من عمليات.
وممن ركز على الحرب الاقتصادية كذلك محمد بن عبد الرحمن السويلمي: الذي كتب رسالة سنة 2004 بعنوان «معركتنا: معركة اقتصادية لا عسكرية».
ونظن أن هذه الأطروحات قد مهدت وأنفذت الاهتمام الراهن لـ«داعش» باستهداف مصافي النفط والسيطرة عليها، فقد سبقه «القاعدة» وفروعه لذلك، ونذكر أنه بين عامي 2003 - 2005 وقع نحو 298 هجومًا على الأنابيب النفطية، وكان من ضمن الأهداف المتوخاة من قبل «القاعدة» داخل الولايات المتحدة هو خط أنابيب ألاسكا تكساس ولويزيانا وأوكلاهوما.
ولكن التمهيد الاستراتيجي الداعشي الأهم كان في اعتناء الزرقاوي الشديد بفكرة الدولة، والتي أنفذها خلفاؤه في «القاعدة» في العراق، حين أسس تنظيمهم مأ عرف بـ«دولة العراق الإسلامية» سنة 2006 والتي أسقطتها الصحوات أواخر عام 2007 ولكن وضعوا استراتيجية جديدة سنة 2010 ثم استغلوا الأوضاع والتوحش الذي أنتجه نظام الأسد الدموي طائفيا ضد ثورة شعبه وأخطاء المالكي، فنجحوا في استعادة صولتهم ودولتهم في يونيو سنة 2014 لتمتد في العراق والشام وليسحبوا قيادة الجهاد العالمي من «القاعدة»، بل يطالبونها بالبيعة، بعد إعلان خلافتهم وقد بشر العدناني بذلك قبل ذلك بعام! وهو موضوع كبير يلتقي فيه التفكير السياسي بالخبرة العسكرية الميدانية لكثير من عناصر هذه التنظيمات، كسيف العدل وحجي عمر وأبو ماريا القحطاني، بأطروحات شيوخها كالعييري والعنزي والظواهري وغيرهم!



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.