اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة
TT

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

إن السعي لاستيعاب التاريخ من خلال الحدث والشخصية التاريخية كمثل من يرى بالأسلوب ثنائي الأبعاد، بينما التاريخ يُصنع بإضافة بعد ثالث وهو الفكرة، فالفكرة هي عمق التاريخ، تماما مثلما يعطي المخ الإشارة للجسد ليتحرك فيتحرك العضو المقصود، فإن الفكرة هي محرك التاريخ، وفي التقدير فإننا لا نزال نُهمل هذا البعد في معالجتنا للتاريخ ورؤيتنا له، فنهتم بالحدث وصاحب الحدث ومجتمع الحدث من دون السعي للتعمق في الفكرة الدافعة للحدث، ومن ثم أهمية أن يكون لنا بعد معني بالفكرة ومنشئها وكيفية تطورها مع الزمن، وهذه نقطة فارقة في التاريخ، وتقديري أن إحدى المشاكل التي تواجهنا في العالم العربي اليوم هي انقطاعنا لفترة زمنية طويلة عما أصفه دائما «بالجسر الفكري»، فالديمقراطية على سبيل المثال منشأها يوناني، وجزء من تطورها لم يكن بعيدا عن نظام الشورى الإسلامي، ثم أخذت بعد ذلك منحى مختلفا من خلال المعمار السياسي الناتج عن طبيعة التطور الاقتصادي والاجتماعي وعملية الإصلاح الديني في أوروبا، فكل هذا أدى لتطور الفكرة في ما بعد حتى أخذت الديمقراطية الغربية ثوبها الحالي بشكلها المعروف لدينا اليوم، فالفكرة قد تولد على شكل معين لكنها قد تنتهي إلى نمط أو شكل آخر في مسيرة تداولها وتكوينها، وهي القضية التي يصفها البعض بمفهوم «علم أجناس المعرفة» أو «genealogy of knowledge»، أو تتبع المفهوم أو الفكرة من المنبع للمصب وكيف تتغير.
ومن هذا المنطلق فسنوسع دائرة تناولنا لهذا الباب لنخرج عن الحدث والمجتمع لنشمل أيضا مقالات حول الشخصية التاريخية التي أثرت في نهج الفكر من الفلاسفة والمفكرين، وأيضا تطور المفاهيم حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم، وذلك سعيا لاستكمال أبعاد التاريخ لدمج الحدث والشخصية بالفكرة والمفكرين.
إننا نستطيع أن نقول إن اليونان تعد بحق أول تجربة لمفهوم العولمة الفكرية، فالظاهرة اليونانية سبقت حركة العولمة الشاملة اليوم بقرابة خمسة وعشرين قرنا من الزمان، فهذه الظاهرة الفكرية والفلسفية والعملية أخذت شكلا فريدا، فمع التوسع اليوناني على أيدي الإسكندر الأكبر انتشرت الحضارة والثقافة اليونانية التي كانت في مجملها مستوعبة لحضارات ممتدة من قبلها لا سيما الحضارة الفرعونية، ومن بعدها السومرية والفارسية إلخ، لكن قدرة الثقافة اليونانية كانت في كيفية صهر هذه الأفكار من خلال فلاسفتها وعلمائها لإخراج نمط حضاري وثقافي استطاع فرض سيادته على منطقة المتوسط وفارس حتى بعد انطفاء الشعلة العسكرية بموت الإسكندر، ويرجع ذلك في التقدير إلى قوة التشكيلية الحضارية اليونانية وقربها من الثقافات الأخرى وظهور مراكز جديدة لنقل هذا الفكر بعد تطويره، وكان هذا المكان هو الإسكندرية التي صارت المركز الفكري والعلمي للعالم حتى سقوطها على أيدي الرومان، وعندئذ أصبحت الحضارة الرومانية واللغة اللاتينية هي أساس الفكر الدولي ومركز الجذب الرئيس، ومع ذلك فالناظر لهذه الثقافة سيجدها متأثرة تأثرا تاما بالحضارة اليونانية والفرعونية في خط واضح وصريح، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى أن الحضارة اليونانية تعد الثورة الفكرية الأولى في العالم والتي نسجت أول عملية للعولمة الفكرية على المستوى الدولي.
في التقدير فإن الفلسفة هي أهم ما ورثه العالم من البؤرية الحضارية والفكرية اليونانية، وهذا لا يرجع إلى ضعف المناحي الفكرية الأخرى، ولكنه يرجع في الأساس إلى مرتكز القوة لهذه الثقافة، فلقد كانت المدارس الفلسفية اليونانية ممتدة وقوية وعلى رأسها الشخصية العظيمة التي عرفناها في كتب الفكر باسم سقراط (Socrates)، فهو الرمز الفلسفي الأول في الحضارة اليونانية كأب لثلاثية ضمت كلا من أفلاطون وأرسطو من بعده كما سنرى، وذلك على الرغم من أن سقراط لم يكتب حرفا، ولكن كل فكره وتراثه ظل إرثا في كتابات تلميذه أفلاطون، خاصة في كتابه العظيم «الحوارات»، فالمراجع تقول إن سقراط كان رجلا بسيطا ولد لأسرة متواضعة وتميز بقبح المنظر، وظل خلال فترة حياته يتجول في الأسواق ومع العامة، وفي المناسبات الأخرى كان يتأمل ما حوله، فكان يدعو دائما للتعرف على الذات والارتقاء الروحي من خلال العقل، من ثم فيمكننا اعتباره الإلهام الأول للتيار العقلي (Rationalism) والذي تطور في مرحلة لاحقة خاصة في القرن الثامن عشر في أوروبا.
اعتمد فكر سقراط على فرضية أساسية أخذها من معبد دلفي، وهي حكمة «اعرف نفسك»، فالإنسان سعادته ليست إلا في المعرفة، خاصة معرفة الذات وكيفية تطويرها، فالخير في الإنسان لكن قدراته على التعرف عليه هي التي تؤثر على رؤيته وسلوكه، فالذات هي أساس كل شيء، وقد كان هذا المرتكز هو الأساس الذي بنيت عليه كثير من المدارس الفلسفية التي أتت بعد سقراط.
كانت بداية الفكر السقراطي واضحة من خلال جملته الأساسية «أنا أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا»، وهذا كان المنطلق الذي سعى سقراط لإثباته للعامة من خلال حواراته، كما أن جدليته تظل من أعظم الإبداعات الفكرية والفلسفية المكتوبة حتى الآن، فالرجل استخدم الحوار كأساس لكل فكره، ومن خلال هذه الحوارات طبق مفهوم الجدلية (Dialecticism) كأساس للمعرفة من خلال شرح المتناقضات أو استحداث الحجج التي تعكس مدى ضآلة المفاهيم السائدة لدي العامة، وهذه الحوارات تعد إرثا ثقافيا خاصا لأنه كان يسعى لتوليد المعرفة من محاوريه، وقد كانت هذه المحاولة البدائية لصياغة المنهج الجدلي من أهم ما بنى عليه الفلاسفة الآخرون خاصة الفيلسوف الألماني العظيم «هيغل» بعد سقراط بقرابة ثلاثة وعشرين قرنا من الزمان.
لكن عظمة سقراط لم تكن في منهجه الفكري فحسب، بل إن الرجل سعى في كثير من المناسبات إلى أن يضفي على فكره خفة الظل حتى يكون أكثر جاذبية للعامة، ولعل من أفضل جمله دعوته للزواج بقوله «أدعوكم للزواج بكل تأكيد، فلو أنها كانت زوجة صالحة فستسعد كثيرا، ولو كانت سيئة فستصبح فيلسوفا»، وكذلك مقولته الشهيرة «ما إن تصبح المرأة مثل الرجل، فهي بالتأكيد ستتسيد».
قد كان سقراط ومضة فكرية أضاءت ضوءا ممتدا نحو عالم مختلف بعيدا عما كانت الأفكار الفلسفية الأخرى تنادي به، سواء من حيث المضمون أو من حيث الوسيلة، وكان لعدائه الصريح لحركة السفسطائيين الذين اتخذوا من الفلسفة والفكر وسيلة للاتجار المادي أثره المباشر في زيادة حجم أعدائه، وهذه سنة المفكرين والمبدعين والأنبياء، فلقد ضاقت بعض المصالح بالرجل فتم اتهامه بأنه يُدخل آلهة غير الآلهة «المعتمدين» فضلا عن اتهامه بتهمة إفساد الشباب، وقد عُقدت محاكمة علنية له وأصدرت عليه حكما بالإعدام، وقد رفض الرجل أن يتقدم بطلب للعفو مؤكدا للمحكمة أن هدفه ليس إفساد الشباب أو إهانة الآلهة، ولكن هدفه كان إصلاح المجتمع، وبالتالي فلو رأى المجتمع أنه مذنب فإنه وجب عليه الانصياع لرغباته، فشرب الرجل السم ومات بين تلاميذه، ناهيا حياته ولكن فكره ظل حيا إلى يومنا هذا، بل إن مماته أوقد نار الفكر في أثينا وألهبها من خلال تلاميذه ومريديه وعلى رأسهم أفلاطون وتلميذه من بعده أرسطو كما سنرى، وبالتالي فإن مثال سقراط هو خير دليل على أن الفكرة لا تقهر بقتل صاحبها، فمقتل سقراط لم ينه فكره، بل العكس هو الصحيح، فهو اليوم الانطلاقة لأي قاعدة فكرية أو فلسفية، فما أجهل الإنسان عندما يخشى الفكرة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.