اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة
TT

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

إن السعي لاستيعاب التاريخ من خلال الحدث والشخصية التاريخية كمثل من يرى بالأسلوب ثنائي الأبعاد، بينما التاريخ يُصنع بإضافة بعد ثالث وهو الفكرة، فالفكرة هي عمق التاريخ، تماما مثلما يعطي المخ الإشارة للجسد ليتحرك فيتحرك العضو المقصود، فإن الفكرة هي محرك التاريخ، وفي التقدير فإننا لا نزال نُهمل هذا البعد في معالجتنا للتاريخ ورؤيتنا له، فنهتم بالحدث وصاحب الحدث ومجتمع الحدث من دون السعي للتعمق في الفكرة الدافعة للحدث، ومن ثم أهمية أن يكون لنا بعد معني بالفكرة ومنشئها وكيفية تطورها مع الزمن، وهذه نقطة فارقة في التاريخ، وتقديري أن إحدى المشاكل التي تواجهنا في العالم العربي اليوم هي انقطاعنا لفترة زمنية طويلة عما أصفه دائما «بالجسر الفكري»، فالديمقراطية على سبيل المثال منشأها يوناني، وجزء من تطورها لم يكن بعيدا عن نظام الشورى الإسلامي، ثم أخذت بعد ذلك منحى مختلفا من خلال المعمار السياسي الناتج عن طبيعة التطور الاقتصادي والاجتماعي وعملية الإصلاح الديني في أوروبا، فكل هذا أدى لتطور الفكرة في ما بعد حتى أخذت الديمقراطية الغربية ثوبها الحالي بشكلها المعروف لدينا اليوم، فالفكرة قد تولد على شكل معين لكنها قد تنتهي إلى نمط أو شكل آخر في مسيرة تداولها وتكوينها، وهي القضية التي يصفها البعض بمفهوم «علم أجناس المعرفة» أو «genealogy of knowledge»، أو تتبع المفهوم أو الفكرة من المنبع للمصب وكيف تتغير.
ومن هذا المنطلق فسنوسع دائرة تناولنا لهذا الباب لنخرج عن الحدث والمجتمع لنشمل أيضا مقالات حول الشخصية التاريخية التي أثرت في نهج الفكر من الفلاسفة والمفكرين، وأيضا تطور المفاهيم حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم، وذلك سعيا لاستكمال أبعاد التاريخ لدمج الحدث والشخصية بالفكرة والمفكرين.
إننا نستطيع أن نقول إن اليونان تعد بحق أول تجربة لمفهوم العولمة الفكرية، فالظاهرة اليونانية سبقت حركة العولمة الشاملة اليوم بقرابة خمسة وعشرين قرنا من الزمان، فهذه الظاهرة الفكرية والفلسفية والعملية أخذت شكلا فريدا، فمع التوسع اليوناني على أيدي الإسكندر الأكبر انتشرت الحضارة والثقافة اليونانية التي كانت في مجملها مستوعبة لحضارات ممتدة من قبلها لا سيما الحضارة الفرعونية، ومن بعدها السومرية والفارسية إلخ، لكن قدرة الثقافة اليونانية كانت في كيفية صهر هذه الأفكار من خلال فلاسفتها وعلمائها لإخراج نمط حضاري وثقافي استطاع فرض سيادته على منطقة المتوسط وفارس حتى بعد انطفاء الشعلة العسكرية بموت الإسكندر، ويرجع ذلك في التقدير إلى قوة التشكيلية الحضارية اليونانية وقربها من الثقافات الأخرى وظهور مراكز جديدة لنقل هذا الفكر بعد تطويره، وكان هذا المكان هو الإسكندرية التي صارت المركز الفكري والعلمي للعالم حتى سقوطها على أيدي الرومان، وعندئذ أصبحت الحضارة الرومانية واللغة اللاتينية هي أساس الفكر الدولي ومركز الجذب الرئيس، ومع ذلك فالناظر لهذه الثقافة سيجدها متأثرة تأثرا تاما بالحضارة اليونانية والفرعونية في خط واضح وصريح، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى أن الحضارة اليونانية تعد الثورة الفكرية الأولى في العالم والتي نسجت أول عملية للعولمة الفكرية على المستوى الدولي.
في التقدير فإن الفلسفة هي أهم ما ورثه العالم من البؤرية الحضارية والفكرية اليونانية، وهذا لا يرجع إلى ضعف المناحي الفكرية الأخرى، ولكنه يرجع في الأساس إلى مرتكز القوة لهذه الثقافة، فلقد كانت المدارس الفلسفية اليونانية ممتدة وقوية وعلى رأسها الشخصية العظيمة التي عرفناها في كتب الفكر باسم سقراط (Socrates)، فهو الرمز الفلسفي الأول في الحضارة اليونانية كأب لثلاثية ضمت كلا من أفلاطون وأرسطو من بعده كما سنرى، وذلك على الرغم من أن سقراط لم يكتب حرفا، ولكن كل فكره وتراثه ظل إرثا في كتابات تلميذه أفلاطون، خاصة في كتابه العظيم «الحوارات»، فالمراجع تقول إن سقراط كان رجلا بسيطا ولد لأسرة متواضعة وتميز بقبح المنظر، وظل خلال فترة حياته يتجول في الأسواق ومع العامة، وفي المناسبات الأخرى كان يتأمل ما حوله، فكان يدعو دائما للتعرف على الذات والارتقاء الروحي من خلال العقل، من ثم فيمكننا اعتباره الإلهام الأول للتيار العقلي (Rationalism) والذي تطور في مرحلة لاحقة خاصة في القرن الثامن عشر في أوروبا.
اعتمد فكر سقراط على فرضية أساسية أخذها من معبد دلفي، وهي حكمة «اعرف نفسك»، فالإنسان سعادته ليست إلا في المعرفة، خاصة معرفة الذات وكيفية تطويرها، فالخير في الإنسان لكن قدراته على التعرف عليه هي التي تؤثر على رؤيته وسلوكه، فالذات هي أساس كل شيء، وقد كان هذا المرتكز هو الأساس الذي بنيت عليه كثير من المدارس الفلسفية التي أتت بعد سقراط.
كانت بداية الفكر السقراطي واضحة من خلال جملته الأساسية «أنا أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا»، وهذا كان المنطلق الذي سعى سقراط لإثباته للعامة من خلال حواراته، كما أن جدليته تظل من أعظم الإبداعات الفكرية والفلسفية المكتوبة حتى الآن، فالرجل استخدم الحوار كأساس لكل فكره، ومن خلال هذه الحوارات طبق مفهوم الجدلية (Dialecticism) كأساس للمعرفة من خلال شرح المتناقضات أو استحداث الحجج التي تعكس مدى ضآلة المفاهيم السائدة لدي العامة، وهذه الحوارات تعد إرثا ثقافيا خاصا لأنه كان يسعى لتوليد المعرفة من محاوريه، وقد كانت هذه المحاولة البدائية لصياغة المنهج الجدلي من أهم ما بنى عليه الفلاسفة الآخرون خاصة الفيلسوف الألماني العظيم «هيغل» بعد سقراط بقرابة ثلاثة وعشرين قرنا من الزمان.
لكن عظمة سقراط لم تكن في منهجه الفكري فحسب، بل إن الرجل سعى في كثير من المناسبات إلى أن يضفي على فكره خفة الظل حتى يكون أكثر جاذبية للعامة، ولعل من أفضل جمله دعوته للزواج بقوله «أدعوكم للزواج بكل تأكيد، فلو أنها كانت زوجة صالحة فستسعد كثيرا، ولو كانت سيئة فستصبح فيلسوفا»، وكذلك مقولته الشهيرة «ما إن تصبح المرأة مثل الرجل، فهي بالتأكيد ستتسيد».
قد كان سقراط ومضة فكرية أضاءت ضوءا ممتدا نحو عالم مختلف بعيدا عما كانت الأفكار الفلسفية الأخرى تنادي به، سواء من حيث المضمون أو من حيث الوسيلة، وكان لعدائه الصريح لحركة السفسطائيين الذين اتخذوا من الفلسفة والفكر وسيلة للاتجار المادي أثره المباشر في زيادة حجم أعدائه، وهذه سنة المفكرين والمبدعين والأنبياء، فلقد ضاقت بعض المصالح بالرجل فتم اتهامه بأنه يُدخل آلهة غير الآلهة «المعتمدين» فضلا عن اتهامه بتهمة إفساد الشباب، وقد عُقدت محاكمة علنية له وأصدرت عليه حكما بالإعدام، وقد رفض الرجل أن يتقدم بطلب للعفو مؤكدا للمحكمة أن هدفه ليس إفساد الشباب أو إهانة الآلهة، ولكن هدفه كان إصلاح المجتمع، وبالتالي فلو رأى المجتمع أنه مذنب فإنه وجب عليه الانصياع لرغباته، فشرب الرجل السم ومات بين تلاميذه، ناهيا حياته ولكن فكره ظل حيا إلى يومنا هذا، بل إن مماته أوقد نار الفكر في أثينا وألهبها من خلال تلاميذه ومريديه وعلى رأسهم أفلاطون وتلميذه من بعده أرسطو كما سنرى، وبالتالي فإن مثال سقراط هو خير دليل على أن الفكرة لا تقهر بقتل صاحبها، فمقتل سقراط لم ينه فكره، بل العكس هو الصحيح، فهو اليوم الانطلاقة لأي قاعدة فكرية أو فلسفية، فما أجهل الإنسان عندما يخشى الفكرة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.