اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة
TT

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

اليونان وسقراط ومصير الفكرة

إن السعي لاستيعاب التاريخ من خلال الحدث والشخصية التاريخية كمثل من يرى بالأسلوب ثنائي الأبعاد، بينما التاريخ يُصنع بإضافة بعد ثالث وهو الفكرة، فالفكرة هي عمق التاريخ، تماما مثلما يعطي المخ الإشارة للجسد ليتحرك فيتحرك العضو المقصود، فإن الفكرة هي محرك التاريخ، وفي التقدير فإننا لا نزال نُهمل هذا البعد في معالجتنا للتاريخ ورؤيتنا له، فنهتم بالحدث وصاحب الحدث ومجتمع الحدث من دون السعي للتعمق في الفكرة الدافعة للحدث، ومن ثم أهمية أن يكون لنا بعد معني بالفكرة ومنشئها وكيفية تطورها مع الزمن، وهذه نقطة فارقة في التاريخ، وتقديري أن إحدى المشاكل التي تواجهنا في العالم العربي اليوم هي انقطاعنا لفترة زمنية طويلة عما أصفه دائما «بالجسر الفكري»، فالديمقراطية على سبيل المثال منشأها يوناني، وجزء من تطورها لم يكن بعيدا عن نظام الشورى الإسلامي، ثم أخذت بعد ذلك منحى مختلفا من خلال المعمار السياسي الناتج عن طبيعة التطور الاقتصادي والاجتماعي وعملية الإصلاح الديني في أوروبا، فكل هذا أدى لتطور الفكرة في ما بعد حتى أخذت الديمقراطية الغربية ثوبها الحالي بشكلها المعروف لدينا اليوم، فالفكرة قد تولد على شكل معين لكنها قد تنتهي إلى نمط أو شكل آخر في مسيرة تداولها وتكوينها، وهي القضية التي يصفها البعض بمفهوم «علم أجناس المعرفة» أو «genealogy of knowledge»، أو تتبع المفهوم أو الفكرة من المنبع للمصب وكيف تتغير.
ومن هذا المنطلق فسنوسع دائرة تناولنا لهذا الباب لنخرج عن الحدث والمجتمع لنشمل أيضا مقالات حول الشخصية التاريخية التي أثرت في نهج الفكر من الفلاسفة والمفكرين، وأيضا تطور المفاهيم حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم، وذلك سعيا لاستكمال أبعاد التاريخ لدمج الحدث والشخصية بالفكرة والمفكرين.
إننا نستطيع أن نقول إن اليونان تعد بحق أول تجربة لمفهوم العولمة الفكرية، فالظاهرة اليونانية سبقت حركة العولمة الشاملة اليوم بقرابة خمسة وعشرين قرنا من الزمان، فهذه الظاهرة الفكرية والفلسفية والعملية أخذت شكلا فريدا، فمع التوسع اليوناني على أيدي الإسكندر الأكبر انتشرت الحضارة والثقافة اليونانية التي كانت في مجملها مستوعبة لحضارات ممتدة من قبلها لا سيما الحضارة الفرعونية، ومن بعدها السومرية والفارسية إلخ، لكن قدرة الثقافة اليونانية كانت في كيفية صهر هذه الأفكار من خلال فلاسفتها وعلمائها لإخراج نمط حضاري وثقافي استطاع فرض سيادته على منطقة المتوسط وفارس حتى بعد انطفاء الشعلة العسكرية بموت الإسكندر، ويرجع ذلك في التقدير إلى قوة التشكيلية الحضارية اليونانية وقربها من الثقافات الأخرى وظهور مراكز جديدة لنقل هذا الفكر بعد تطويره، وكان هذا المكان هو الإسكندرية التي صارت المركز الفكري والعلمي للعالم حتى سقوطها على أيدي الرومان، وعندئذ أصبحت الحضارة الرومانية واللغة اللاتينية هي أساس الفكر الدولي ومركز الجذب الرئيس، ومع ذلك فالناظر لهذه الثقافة سيجدها متأثرة تأثرا تاما بالحضارة اليونانية والفرعونية في خط واضح وصريح، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى أن الحضارة اليونانية تعد الثورة الفكرية الأولى في العالم والتي نسجت أول عملية للعولمة الفكرية على المستوى الدولي.
في التقدير فإن الفلسفة هي أهم ما ورثه العالم من البؤرية الحضارية والفكرية اليونانية، وهذا لا يرجع إلى ضعف المناحي الفكرية الأخرى، ولكنه يرجع في الأساس إلى مرتكز القوة لهذه الثقافة، فلقد كانت المدارس الفلسفية اليونانية ممتدة وقوية وعلى رأسها الشخصية العظيمة التي عرفناها في كتب الفكر باسم سقراط (Socrates)، فهو الرمز الفلسفي الأول في الحضارة اليونانية كأب لثلاثية ضمت كلا من أفلاطون وأرسطو من بعده كما سنرى، وذلك على الرغم من أن سقراط لم يكتب حرفا، ولكن كل فكره وتراثه ظل إرثا في كتابات تلميذه أفلاطون، خاصة في كتابه العظيم «الحوارات»، فالمراجع تقول إن سقراط كان رجلا بسيطا ولد لأسرة متواضعة وتميز بقبح المنظر، وظل خلال فترة حياته يتجول في الأسواق ومع العامة، وفي المناسبات الأخرى كان يتأمل ما حوله، فكان يدعو دائما للتعرف على الذات والارتقاء الروحي من خلال العقل، من ثم فيمكننا اعتباره الإلهام الأول للتيار العقلي (Rationalism) والذي تطور في مرحلة لاحقة خاصة في القرن الثامن عشر في أوروبا.
اعتمد فكر سقراط على فرضية أساسية أخذها من معبد دلفي، وهي حكمة «اعرف نفسك»، فالإنسان سعادته ليست إلا في المعرفة، خاصة معرفة الذات وكيفية تطويرها، فالخير في الإنسان لكن قدراته على التعرف عليه هي التي تؤثر على رؤيته وسلوكه، فالذات هي أساس كل شيء، وقد كان هذا المرتكز هو الأساس الذي بنيت عليه كثير من المدارس الفلسفية التي أتت بعد سقراط.
كانت بداية الفكر السقراطي واضحة من خلال جملته الأساسية «أنا أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا»، وهذا كان المنطلق الذي سعى سقراط لإثباته للعامة من خلال حواراته، كما أن جدليته تظل من أعظم الإبداعات الفكرية والفلسفية المكتوبة حتى الآن، فالرجل استخدم الحوار كأساس لكل فكره، ومن خلال هذه الحوارات طبق مفهوم الجدلية (Dialecticism) كأساس للمعرفة من خلال شرح المتناقضات أو استحداث الحجج التي تعكس مدى ضآلة المفاهيم السائدة لدي العامة، وهذه الحوارات تعد إرثا ثقافيا خاصا لأنه كان يسعى لتوليد المعرفة من محاوريه، وقد كانت هذه المحاولة البدائية لصياغة المنهج الجدلي من أهم ما بنى عليه الفلاسفة الآخرون خاصة الفيلسوف الألماني العظيم «هيغل» بعد سقراط بقرابة ثلاثة وعشرين قرنا من الزمان.
لكن عظمة سقراط لم تكن في منهجه الفكري فحسب، بل إن الرجل سعى في كثير من المناسبات إلى أن يضفي على فكره خفة الظل حتى يكون أكثر جاذبية للعامة، ولعل من أفضل جمله دعوته للزواج بقوله «أدعوكم للزواج بكل تأكيد، فلو أنها كانت زوجة صالحة فستسعد كثيرا، ولو كانت سيئة فستصبح فيلسوفا»، وكذلك مقولته الشهيرة «ما إن تصبح المرأة مثل الرجل، فهي بالتأكيد ستتسيد».
قد كان سقراط ومضة فكرية أضاءت ضوءا ممتدا نحو عالم مختلف بعيدا عما كانت الأفكار الفلسفية الأخرى تنادي به، سواء من حيث المضمون أو من حيث الوسيلة، وكان لعدائه الصريح لحركة السفسطائيين الذين اتخذوا من الفلسفة والفكر وسيلة للاتجار المادي أثره المباشر في زيادة حجم أعدائه، وهذه سنة المفكرين والمبدعين والأنبياء، فلقد ضاقت بعض المصالح بالرجل فتم اتهامه بأنه يُدخل آلهة غير الآلهة «المعتمدين» فضلا عن اتهامه بتهمة إفساد الشباب، وقد عُقدت محاكمة علنية له وأصدرت عليه حكما بالإعدام، وقد رفض الرجل أن يتقدم بطلب للعفو مؤكدا للمحكمة أن هدفه ليس إفساد الشباب أو إهانة الآلهة، ولكن هدفه كان إصلاح المجتمع، وبالتالي فلو رأى المجتمع أنه مذنب فإنه وجب عليه الانصياع لرغباته، فشرب الرجل السم ومات بين تلاميذه، ناهيا حياته ولكن فكره ظل حيا إلى يومنا هذا، بل إن مماته أوقد نار الفكر في أثينا وألهبها من خلال تلاميذه ومريديه وعلى رأسهم أفلاطون وتلميذه من بعده أرسطو كما سنرى، وبالتالي فإن مثال سقراط هو خير دليل على أن الفكرة لا تقهر بقتل صاحبها، فمقتل سقراط لم ينه فكره، بل العكس هو الصحيح، فهو اليوم الانطلاقة لأي قاعدة فكرية أو فلسفية، فما أجهل الإنسان عندما يخشى الفكرة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.