احتمال تعرّض الطائرة الروسية لتفجير إرهابي ينذر بإزدياد خطر «داعش»

الهجوم يمثل نقلة نوعية من حيث الاستهداف والقوة

جنود مصريون يجمعون حقائب ضحايا ركاب الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ. ب)
جنود مصريون يجمعون حقائب ضحايا ركاب الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ. ب)
TT

احتمال تعرّض الطائرة الروسية لتفجير إرهابي ينذر بإزدياد خطر «داعش»

جنود مصريون يجمعون حقائب ضحايا ركاب الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ. ب)
جنود مصريون يجمعون حقائب ضحايا ركاب الطائرة الروسية في صحراء سيناء (أ. ب)

تثير الاحتمالات المتزايدة بسقوط طائرة الركاب الروسية فوق شبه جزيرة سيناء المصرية، نتيجة تفجير إرهابي، المخاوف بأن التهديدات الصادرة عن تنظيم داعش الإرهابي قد توسعت وبشكل كبير، كما أنها تشير إلى الأدوار القاتلة التي قد يلعبها الإرهابيون الذين قد أعلنوا ولاءهم وتحالفهم مع التنظيم المتطرف، في جميع أنحاء العالم.
تتزايد المخاوف بأن تكون طائرة شركة «متروجيت» الروسية المحملة بالسياح، والمتجهة من شرم الشيخ في شبه جزيرة سيناء إلى مدينة بطرسبرغ، قد استهدفت من قبل إرهابيين يوم الجمعة الماضي إثر التقارير الفرنسية التي تفيد بأن الصناديق السوداء للطائرة المنكوبة تحتوي على أصوات انفجارات.
جاءت تلك التقارير الإخبارية بعد إعلان روسيا تعليق جميع رحلات طائراتها إلى مصر، في إشارة قوية من جانب الكرملين، الذي ظل إلى وقت قريب يرفض قبول إضفاء ملامح العملية الإرهابية على الحادث. وبات يخشى الآن جديًا من أن تكون قنبلة إرهابية وراء سقوط الطائرة نهاية الأسبوع الماضي، وهي الحادثة التي أسفرت عن مقتل كل الـ224 راكبا الذين كانوا على متنها.
وإذا ما أثبتت التحقيقات أن تنظيم داعش وراء تلك العملية، فمن شأن ذلك أن يضرب عرض الحائط بكل التوقّعات التي تفيد بأن التنظيم محاصر وقد تعرّض لهزائم مروعة في العراق وسوريا، وهي المنطقة التي استولى فيها التنظيم المتطرف على مساحات شاسعة من الأراضي وأعلن «خلافته» المزعومة.
كذلك، كما يقول المحلّلون، فإن من شأن تلك العملية أن تعكس كيفية تمكن تنظيم داعش من تحويل روافده البعيدة إلى أذرع عملياتية فاعلة، إذ ألقي القبض على عدد من التابعين للتنظيم الإرهابي في إقليم كوسوفو وفي ألبانيا خلال الشهور الأخيرة إثر مزاعم عن تخطيطه لشن هجمات داخل أوروبا، كما يقول بروس هوفمان، خبير الإرهاب لدى جامعة جورجتاون الأميركية، الذي أضاف «ولكنها المرة الأولى التي تجاوز فيها تنظيم داعش عتبته المحلية منطلقًا لشن عملياته الإرهابية فعليًا على الساحة الدولية».
الرئيس الأميركي باراك أوباما، من جهته، صرح الخميس الفائت بأن قنبلة إرهابي قد تكون السبب وراء تحطم الطائرة الروسية وأن ذلك احتمال قائم، وأردف «نحن نأخذ الأمر على محمل الجدية». غير أن المسؤولين حذروا من أن هناك كثيرا من التساؤلات ما زالت من دون إجابة، بما في ذلك درجة التنسيق الحالية ما بين قيادة «داعش» في سوريا من جهة والمتطرفين المسلحين في مصر وليبيا واليمن وغيرها من جهة أخرى، وكل هؤلاء يرفعون رايات التنظيم الإرهابي السوداء.
ومن جهة ثانية، صرح أحد المسؤولين في الإدارة الأميركية، شريطة التكتم على هويته لدى مناقشته التقديرات الاستخبارية بأنه «إذا ما أسفرت التحقيقات عن أن إثبات أنها عملية إرهابية، وحتى إذا كانت إحدى الجماعات التي ترتدي عباءة (داعش) وراءها، سيظل هناك سؤال مهم حول ما إذا كانت تلك الجماعة تعمل حقًا بناءً على أوامر من (داعش)، أم بصورة مستقلة تماما، وما مدى السيطرة العملياتية، إن وجدت، التي يمارسها قادة تنظيم داعش في سوريا على مثل تلك الهجمات الإرهابية؟».
مع ذلك، سواء كانت تلك العملية مستقلة أو موجّهة، فإن ذلك الهجوم سيمثل «نقلة نوعية من حيث الاستهداف وقوة الهجوم»، على حد وصف ويليام ماكانتس، خبير الإرهاب ومؤلف كتاب جديد حول تنظيم داعش بعنوان «يوم الانكشاف مع داعش». وحسب كلام ماكانتس فإن الهجمات الإرهابية المنفردة هي الأكثر إثارة للقلق، لكنها لا تشيع القدر نفسه من الخوف الذي يبعثه استهداف طائرات الركاب المدنية، «وإذا ما استمرت تلك الأنماط من الهجمات ضد الدول التي تقاتل (داعش)، فستشكل ضغوطا كبيرة للغاية» على التحالف الدولي.
يوم السبت ادعت جماعة «أنصار بيت المقدس»، الذراع التابعة لـ«داعش» في شبه جزيرة سيناء، مسؤوليتها عن إسقاط طائرة الركاب الروسية. وزعمت الجماعة المتطرفة في بيانها المقتضب «لقد تمكن جنود الخلافة من إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء»، وفقا لموقع «مجموعة سايت الاستخبارية».
كما هو معروف، روسيا تدخلت أخيرًا في الصراع السوري، وادعت أن غاراتها الجوية ركزت على مهاجمة مواقع «داعش» في سوريا، وهذا على الرغم من أن غالبية الضربات الجوية قد استهدفت حقًا جماعات متمردة أخرى تقاتل حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، حليف موسكو القديم. أما جماعة «أنصار بيت المقدس»، التي تطلق على نفسها الآن مسمى «ولاية سيناء»، فإنها نشأت من صفوف تنظيم محلي متطرف ومسلح تشكلت في أعقاب ثورة عام 2011 في مصر، قبل تأسيس تنظيم داعش في العراق وسوريا. وفي أواخر العام الماضي، أعلنت هذه الجماعة المصرية المتطرفة ولاءها لـ«أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش»، بيد أن مستوى الدعم الذي يتلقاه المتطرفون المسلحون في سيناء من قيادة «داعش» المركزية في العراق وسوريا لا يزال مجهولا.
ولكن مع هذا، نفذت الجماعة المتطرفة في مصر مجموعة من الهجمات المروّعة، شملت عمليات نسف خط أنابيب الغاز الطبيعي بين مصر وإسرائيل، إلى جانب عدة هجمات على السياح الإسرائيليين في سيناء. وخلال الصيف المنصرم، ادعت الجماعة المتطرفة مسؤوليتها عن سلسلة من الهجمات الكبيرة التي طالت أهدافا مصرية وأخرى أجنبية، بما فيها عمليات نفذت في العاصمة المصرية القاهرة.
بروس ريدل، وهو محلل سابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ومن خبراء الإرهاب لدى معهد بروكينغز يقول شارحًا: «تتمتع هذه الجماعة بقوة ملحوظة. ولذا لا يعتبر امتدادًا ضخمًا بالنسبة لها الانتقال من مهاجمة الأهداف (الكافرة) إلى ملاحقة الروس بالذات».
هذا التطور قد يُعدّ مؤشرًا على وجود تهديد جديد للغرب من منطقة لم تكن في الماضي موضع تركيز كبير من جانب جهود مكافحة الإرهاب. وهنا يتابع ريدل قائلاً إن «ذراعًا لتنظيم إرهابي في دولة كبيرة بحجم مصر يسكنها أكثر من 80 مليون مواطن، وتضم قناة السويس، وتنشط فيها صناعة السياحة، تشكل معضلة كبيرة جدًا هي حتمًا أخطر وأكثر تهديدًا بكثير من ذراع أخرى تعمل في الأرياف النائية بجنوب اليمن أو أعماق الصومال. فليست هناك رحلات جوية يومية إلى مقديشو، لكن هناك المئات من تلك الرحلات اليومية إلى مطار القاهرة الدولي».
إن القدرة الواضحة عند «داعش» على تهريب قنبلة أو مواد متفجرة إلى داخل طائرة ركاب روسية محمّلة بالسياح، لا شك، من الأمور المزعجة والمقلقة لمسؤولي الأمن الأميركيين، الذين كانوا قد طمأنوا أنفسهم في الآونة الأخيرة إلى الفكرة القائلة بأن التنظيم المتطرّف منشغل جدًا بتوطيد أركان «خلافته» المزعومة، وبالتالي، ما عاد مستعدًا لتوجيه ضربات خارج مجال عملياته الحالي، أو قادرًا على ذلك.
عودة إلى بروس هوفمان، فإنه يرى أن «هذه الحادثة هي أكبر حادثة إرهابية ذات صلة بالطيران التجاري منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ولذا ستكون تداعياتها عميقة للغاية». ويضيف أنه من خلال الاستيلاء على فرصة ما في سيناء «فالتنظيم الإرهابي يتخذ خطوة أخرى على طريق تدويل الجماعة».
من بعض النواحي، فإن تنظيم داعش الذي أبصر النور إثر انقسام داخل تنظيم القاعدة، يبدو أنه يقرأ من كتاب قواعد لعبة «القاعدة» عبر رعايته للجماعات الخارجية الموالية له. وعلى الرغم من أن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» تعرّضت لاهتزازات مدمّرة خلال العقد الماضي بنتيجة ضربات الطائرات من دون طيار الأميركية، فإن الأذرع الحليفة التي أنشأتها «القاعدة» في اليمن وشمال أفريقيا وغيرها من المواضع ساعدت كثيرا في الحفاظ على زخم نشاطه حتى الآن.
وختامًا، يعلق ماكانتس بالقول: «بالإمكان أن نلحظ محاولة من (داعش) للتحوّط من غدرات المستقبل وضمان تأمين عمق استراتيجي له. فإذا ما حوصروا في منطقة ما، سيكون لديهم الوسائل لتوجيه الضربات في مكان آخر، بمعنى أنهم إذا ما تعرضوا للضرب في سوريا سيردون الصاع صاعين في مصر».

*مراسلة شؤون الأمن الوطني في جريدة «واشنطن بوست»



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.