«جيفارا قارئ بلا حدود».. حكايات مصوّرة حول «التشي» المثقف

صور نادرة له تعرضها مؤسسة عبد المحسن القطان

من المعرض ({الشرق الأوسط})
من المعرض ({الشرق الأوسط})
TT

«جيفارا قارئ بلا حدود».. حكايات مصوّرة حول «التشي» المثقف

من المعرض ({الشرق الأوسط})
من المعرض ({الشرق الأوسط})

يجلس آرنستو تشي جيفارا، على غصن شجرة في الغابات البوليفية، حيث انتهى به المطاف، وهو يقرأ كتابًا بالإسبانية، قيل إنه كتاب المكفر الألماني فريدريك نيتشه «هكذا تكلم زرادشت»، وحيث إن اسم الكتاب غير واضح في الصورة النادرة، التي عرضت ولا تزال في معرض «جيفارا قارئ بلا حدود»، بمؤسسة عبد المحسن القطان برام الله، فإن اسم الكتاب بقي محل تأويل.
ونقل عن فلاح كان على مقربة من جيفارا، يدعى رافائيل فيردسية، قوله «في بعض الأحيان كان يقرأ هناك (الغابات البوليفية)، جالسًا على حجر، لا أعرف الكتاب الذي كان يقرأه لأنني لم أكن أحب أن أسأل كثيرًا.. ولكن أتذكر رؤيته يقرأ بينما كانت الحشرات تقرصه، ومن شدة تركيزه العميق بالقراءة، كان بالكاد يحس بها».
وضم المعرض الذي نظم بالتعاون ما بين «القطان»، وممثلية الأرجنتين في فلسطين، صورًا نادرًا لجيفارا، وهو يمارس القراءة، وكتبًا كان يقرأها، أو كتبها، أو ترجمات عنها، وعبارات نادرة له حول القراءة، أو لآخرين حوله كقارئ، وليس فقط كثائر.
واللافت، أن جيفارا، ومنذ كان شابًا، عمد إلى تكوين ما يمكن تسميته بـ«فهرس قراءة»، عن طريق تدوين الكتب التي قرأها، والكتب التي ينوي قراءتها، حيث يظهر في المعرض فهرس خطه في الغابات البوليفية يظهر واحدًا وخمسين عنوانًا أدبيًا كان ينوي قراءتها، ولم يمهله الموت إتمام المهمة، علاوة على ما تضمنه المعرض من ملاحظات نقدية حول ما قرأه، خطها بيده، وفي مرحلة لاحقة بالآلة الكاتبة (الطابعة).
ووفق القائمين على المعرض، الذي شهد النور للمرة الأولى في روساريو عبر مركز الدراسات الأميركية اللاتينية قبل عامين، فإنه يهدف إلى تعريف وتقريب الجمهور من الموسوعة الغنية والمتنوعة من القراءات التي غذت فكر «التشي»، منذ الطفولة المبكرة وحتى آخر أيامه في الغابات البوليفية، حيث عرضت صورة له برفقة بعض الثوار وهو يقرأ لهم أحد الكتب، إضافة إلى الكتب المتعلقة بنشأته النظرية (السياسية، والتاريخ، والاقتصاد، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها)، كأساس لبناء نظريته الخاصة.
وقال محمود أبو هشهش، مدير برنامج الثقافة والفنون في مؤسسة عبد المحسن القطان: أهمية المعرض هو نجاحه في المزج ما بين القيم التي ناضل من أجلها جيفارا، ومن بينها قيم العدالة، والكرامة الإنسانية، والتحرر من الاستعمار، والمزاوجة ما بين رمزيته العالمية في هذا الإطار، وما بين فكرة المعرفة، التي هي أساس للنضال ولتحقيق القيم التي ناضل من أجلها جيفارا، ويناضل من أجلها، ومنذ عقود، أبناء الشعب الفلسطيني، لافتًا إلى أنه يجري التنسيق للمعرض منذ قرابة العام، وشاءت الظروف أن يتم إطلاقه في وقت تتصاعد فيه حدة المقاومة الفلسطينية، وبشتى الطرق، وبعضها مبتكر، في مواجهة سياسات الاحتلال وجرائم المستوطنين، خاصة أننا بدأنا نفقد تلك المزاوجة ما بين الوعي والثقافة والمعرفة وما بين الكفاح المسلح، التي كانت ترافق المسيرة النضالية الفلسطينية في ستينات، وسبعينات، وثمانينات القرن الماضي.
واشتمل المعرض على مراسلات بين آرنستو وعمته بياثريت، وكانت تقيم في المكسيك، أولها رسالة تعود إلى عام 1937، خاطب جيفارا عمته برسالة جاء فيها «أنا بخير، ولقد غادرت الفراش.. الجو جميل هنا.. إذا كان معك نقود، لا تنسي شراء كتاب هومبيرتو نوبيلتي»... ومنها رسالة في عام 1954، يطلب منها فيها أن تزوده بالجرائد اليومية، لافتًا إلى أنها «بعشرين سنتًا يمكن أن ترسل له الكثير من الجرائد القديمة»، في حين أشارت رسالة أخرى لعمته، بعد عامين من الأولى، إلى إلحاحه بإرسال المزيد من الجرائد، وأنه لن يطلب ذلك منها مجددًا، إن كانت لا تحب القيام بهذه المهمة، مع أن قراءة الجرائد «مثيرة جدًا» لاهتمامه،
وما بين ماركس وشكسبير، ولينين وليزاما لاما، ومن خلال اختياراته الأدبية، يمكن للمهتمين العمل على إعادة بناء جزء من حياته القرائية، التي صنعت من آرنستو جيفارا، التشي، أيقونة عالمية، وهو ما أكد عليه زياد خلف المدير العام لمؤسسة عبد المحسن القطان، الذي كشف عن تنقل المعرض بين عدة محافظات فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما شدد عليه أيضًا إدواردو دي مايو (أيار)، ممثل الأرجنتين في فلسطين.
ويهدف المعرض إلى التعمق في تلك القراءات الأخرى التي أثرت على حياة «التشي» أو «القائد»، من خلال أجناس أدبية مختلفة، مثل الرواية، والشعر، والقصة القصيرة، حيث يتضمن المعرض قائمة طويلة من الكتب التي قام جيفارا بقراءتها، وتلك التي كان يخطط لقراءتها، علاوة على صور له في لحظات القراءة، في أماكن قاسية وغير متوقعة، علاوة على ما يهدف إليه من التأكيد على أهمية الكتاب كأداة من أدوات التحرر.
ولإقامة معرض «جيفارا قارئ بلا حدود» في فلسطين، بعد مهم، ليس فقط للمكانة التي يحتلها في وجدان الشعب الفلسطيني، بل لكونه ناضل من أجل ما يناضل الفلسطينيون من أجله، ويتمثل في التحرر من الاحتلال، والنضال من أجل العدالة، على أمل استعادة الانحياز للقراءة والمعرفة في السياق الفلسطيني، كأداة مهمة من أدوات المقاومة، والانعتاق من الظلم الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي.
وقال زياد حاج علي، قيم ومنتج المعرض، «جيفارا قارئ بلا حدود» يركز على جانب آخر، ربما يكون مجهولاً لدى الكثيرين حول جيفارا، ألا وهو «جيفارا القارئ»، الذي اشتهر كطبيب ثم قائد ثوري أممي، اشتهر في الثورة الكوبية، قبل أن يرحل إلى الغابات البوليفية، حيث كان يمارس القراءة والكتابة بكثافة أكثر في تلك الفترة، كاشفًا عن أنه تم التواصل مع مؤسسة جيفارا الثقافية في الأرجنتين، وبالتحديد مع شقيقه، عبر مؤسسة عبد المحسن القطان والممثلية الأرجنتينية في فلسطين، وحصلنا على مادة المعرض، شريطة عدم استخدامها تجاريًا، أو تعميمها، حيث تم الاتفاق على نقله لعدة أشهر إلى متحف جامعة بيرزيت، فيما يجري العمل على نقله إلى قطاع غزة، والقدس، و«نأمل أن نتمكن من ذلك»، خاصة أنه يكتسب خصوصيته من كونه يركز على جيفارا القارئ، وجيفارا الأديب.



أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
TT

أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.

في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب»، أزعم أني ارتفعت إلى مستوى المعري في رسالة الغفران. صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. لماذا كل هذه الفخفخة والمنفخة؟ لماذا كل هذه الغطرسة الفارغة؟ هذه ليست من شيمي وعاداتي. بل إن عاداتي العكس تماماً؛ أي التضاؤل والتصاغر إلى درجة الاضمحلال. وقد لامني على ذلك، برفق، سمير عطا الله يوماً ما. عاداتي المزمنة والمتواصلة هي أنني أختبئ وراء أساتذتي الكبار. ولكن هذه المرة أصابتني نوبة مفاجئة من جنون العظمة ولا أعرف لماذا. ولله في خلقه شؤون. وعلى ذكر رسالة الغفران، ينبغي العلم أنها ترجمت إلى الفرنسية عام 1984. وصدرت عن أشهر دار نشر باريسية: «غاليمار» في 320 صفحة. ولكن من يستطيع أن يشتريها: 150 يورو فقط. من يصدق ذلك؟ من يستطيع ترجمتها؟ حتى في العربية يصعب فهمها، فما بالك بالفرنسية. ينبغي أن نترجمها أولاً إلى العربية الحديثة قبل الفرنسية. ولكن لا يسعنا إلا أن نشكر المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل على هذا الجهد الكبير والشاق العسير الذي بذله في نقل إحدى روائع أدبنا الكبرى إلى لغة موليير وفولتير. شكراً له وألف شكر. كيف استطاع تحقيق ذلك؟ معجزة حقيقية. والباحث المذكور أصبح اسمه الكامل فانسان منصور مونتيل عندما اعتنق الإسلام بعد أن أعجب به كل الإعجاب: ديناً وفلسفة وحضارة.

كان ديكارت يقول هذه العبارة اللافتة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ. بمعنى أنه لا يستطيع أن يكشف كل أوراقه دفعة واحدة، وإلا لكانوا قد ذبحوه حتى قبل أن يفتح فمه. إنه مجبر على أن يضع قناعاً على وجهه لكي يستطيع أن يُكمل مهمته على أفضل وجه ممكن، لكي يستطيع أن ينجز مؤلفاته وكشوفاته الكبرى قبل أن يقتلوه. وما هي مهمته في الحياة؟ تفكيك الأفكار التراثية الشعبوية الطاغية التي تتخذ صفة اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش. هل نعلم بأن المعري طبق هذه القاعدة حرفياً قبل ديكارت بسبعة قرون؟ وراء كل صفحة من صفحات رسالة الغفران تقريباً تبدو شخصية المعري مقنعة وماكرة إلى أقصى الحدود. إنه مجبر على الظهور بمظهر الإنسان المتدين التراثي التقليدي الذي لا تشوبه شائبة. ولكن خلف ذلك تكمن شخصيته الحقيقية. يكفي أن نقرأ ما بين السطور أو ما خلف السطور لكي ندرك ذلك. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه مخلص كل الإخلاص للتصورات التراثية وملتزم بها كلياً. ولذلك ينبغي أن نقرأ رسالة الغفران قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها. المعري أكثر مكراً مما نظن. تكاد تموت من الفرح والابتهاج، تكاد تنفجر من الضحك والانشراح، عندما تقرأ رسالة الغفران. لست بحاجة لأن تذهب إلى المسرح أو السينما لكي ترفّه عن نفسك. يكفي أن تقرأها. مسرحها أعظم وأكبر من كل المسارح العالمية. مسرحها العالم الآخر وجنة عرضها السماوات والأرض. إنك تسرح وتمرح في فضاءات شاسعة واسعة منتشرة على مد النظر. من هنا الطابع التحريري الهائل والإبداعي الخارق لرسالة الغفران.

تشعر بأنك أصبحت أكثر ذكاء عندما تقرأها، هذا إذا ما استطعت أن تصبر عليها حتى النهاية. ولهذا السبب قال عنها عباس محمود العقاد: «إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، ونسق ظريف في النقد والرواية. إنها فكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها». هذا أقل ما يمكن أن يقال يا عملاق الفكر العربي. كان بإمكانك أن تقول أكثر بل كان يجب أن تقول أكثر. تأمل جيداً كيف يوزع المعري بكل مهارة واستمتاع، وأكاد أقول بكل خبث ودهاء، مشاهير العرب على الجنة والنار. يقول مثلاً:

«وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قُرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزُهير بن أبي سُلمى المُزني، وعلى الآخر: هذا القصر لعَبيد بن الأبرص الأسديّ، فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء. فيسأل زهير: بم غُفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هَمَلٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً...

ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسد. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء، لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي؟ فيقول: أجل وإن في ذلك لعجباً، أألفيت حُكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرحمة محجباً؟ فيقول عبيد: أُخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قد قلت في الحياة:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل يُنشَد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كُرر إلى أن شملَتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن الله لغفور رحيم.

فإذا سمع الشيخ - ثبت الله وطأته - ما قال ذانك الرجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء».

صفحات خالدة

أخيراً، ماذا نستنتج من كل هذه المهزلة، من كل هذه الفضيحة، من كل هذه التحفة العبقرية؟ نستنتج أن المعري استمتع كل الاستمتاع بتوزيع بعض المشاهير على الجنة وبعضهم الآخر على النار. ونستنتج أنه على الرغم من كل تظاهره بالوقار وصحة الاعتقاد لم يسلم من القيل والقال. على العكس، لقد شكوا فيه وكفّروه وزندقوه ومسحوا به الأرض مسحاً كما هو معلوم. وهذا يعني أن القناع الذي وضعه على وجهه لم يَدُم طويلاً ولم ينفعه شيئاً في نهاية المطاف. وهكذا حصل له ما سيحصل لديكارت من بعده بسبعة قرون. فهو الآخر كشف الأصوليون المسيحيون القناع اللاهوتي الكاثوليكي عن وجهه وكفّروه ووضعوا كتبه على لائحة الكتب المحرّمة أو الممنوع قراءتها. بل وقتله أحد الكهنة اللاهوتيين في السويد عن طريق دس السمّ له في القربان المقدّس، كما كشف أحد الباحثين الألمان. وهو اكتشاف انفجر مؤخراً كالقنبلة الموقوتة. ولكن بالله عليكم قولوا لي: من يستطيع أن يستشهد بمقولات شيوخنا القروسطيين التكفيريين في أي مؤتمر عالمي يُعقد عن الإسلام والفكر العربي؟ أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على ذلك. ولكن بإمكانك أن تُفحم الغرب كل الغرب بعبقرية شخص كأبي العلاء المعري. بإمكانك أن تفاخر العالم كله برسالة الغفران.