قصر الحمراء يشهد مرة أخرى حفل زواج أعظم أباطرة إسبانيا كارلوس الخامس

ضمن حلقات تلفزيونية حول حياته

الممثل البارو ثيربانتس والممثلة كارلا سواريث في مشهد من «عالم كارلوس»
الممثل البارو ثيربانتس والممثلة كارلا سواريث في مشهد من «عالم كارلوس»
TT

قصر الحمراء يشهد مرة أخرى حفل زواج أعظم أباطرة إسبانيا كارلوس الخامس

الممثل البارو ثيربانتس والممثلة كارلا سواريث في مشهد من «عالم كارلوس»
الممثل البارو ثيربانتس والممثلة كارلا سواريث في مشهد من «عالم كارلوس»

في عام 1526، تزوج أعظم أباطرة إسبانيا، كارلوس الخامس (1500-1558) من أجمل فتيات عصرها، إيزابيل البرتغالية (1503-1539) وقضى شهر العسل في قصر الحمراء في غرناطة، جنوب إسبانيا، وقد خلدت «القناة الأولى» لتلفزيون إسبانيا، قبل أيام، هذه الواقعة التاريخية حيث تم تصوير حلقة خاصة حول زواج هذه الشخصية، وتم تصوير الحلقة داخل قصر الحمراء.
لم يكن كارلوس الخامس شخصية عادية، فقد تولى الحكم ولا يزال في السادسة عشرة من عمره، وفي عهده اشتبكت إسبانيا بحروب مع الدولة العثمانية وفرنسا، وكانت واحدة من أكبر الإمبراطوريات الأوروبية، حيث سيطرت على أجزاء من أوروبا، وشمال أفريقيا، واستعمرت المكسيك وبيرو وكولومبيا وفنزويلا وغواتيمالا.
وقد قامت «القناة الأولى» في التلفزيون الإسباني، قبل أيام، بتصوير حلقة خاصة عن شهر عسل الإمبراطور كارلوس الخامس، ضمن سلسلة من عدة حلقات، يقوم بإخراجها فليكس جورينتي، وتصور حياة الإمبراطور كارلوس الخامس بعنوان «عالم كارلوس»، ويقوم الممثل البارو ثيربانتس بدور الإمبراطور، والممثلة كارلا سواريث بدور إيزابيل البرتغالية. وكان كارلوس الخامس قد تزوج في إشبيلية، جنوب إسبانيا، ثم انتقل إلى غرناطة كي يقضي شهر العسل في قصر الحمراء. وقد تم تصوير الكثير من مشاهد الحلقة في أماكن متفرقة من قصر الحمراء، مثل ساحة السباع، والبرطل، وباب العدل، وبرج الأسيرة، وجنة العريف. وكانت الحلقات الأولى من هذه السلسلة قد صورت بعض المشاهد حول بداية العلاقة بين كارلوس وإيزابيل في قصر الحمراء، وهي العلاقة التي تطورت بمرور الزمن، حتى اتفقا على الزواج في مدينة إشبيلية، ثم صادف أن وصل خبر وفاة أخت الإمبراطور في اليوم السابق للزفاف، فأخفى كارلوس الخبر كي يتم حفل الزواج بشكل طبيعي، ولم يعلنه إلا بعد الانتهاء من مراسم الزواج، كما أن الإمبراطور لم ينتظر كثيرا في إشبيلية، فسرعان ما غادرها إلى غرناطة كي يقضي شهر العسل في قصر الحمراء، ولم تدم سعادة الملك طويلا، إذ توفيت زوجته وهي لا تزال في السادسة والثلاثين من عمرها، فحزن عليها حزنا شديدا، ولم يتزوج بعدها حتى وفاته، وهي من الحالات النادرة عند ملوك أوروبا آنذاك، خاصة إذا قورنت مع الملك هنري الثامن ملك إنجلترا مثلا.
وعلى الرغم من إعجاب كارلوس وزوجته إيزابيل البرتغالية بقصر الحمراء، على غرار ما حدث للملكة إيزابيل الكاثوليكية التي أسقطت الحكم العربي في إسبانيا، عام 1492. إذ كانت قد انبهرت بقصر الحمراء واتخذته مقرا لها إبان إقامتها في غرناطة، فإن الملك كارلوس، مع إعجابه بالحمراء، راح يتأمل ويفكر في كيفية دحر هذا الجمال المسيطر على القصر، أو على الأقل التقليل من أهميته، وعندها خطرت على باله فكرة بناء قصر آخر يفوق قصر الحمراء قوة وضخامة، كي يكون أكثر شهرة من القصر العربي، وبالفعل بعد أشهر من زواجه، عام 1526 عهد إلى أحد كبار المهندسين آنذاك، بيدرو ماجوكا، مهمة بناء القصر الجديد، شرط أن يكون قصرا يليق بملك مسؤول عن إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وتم اختيار مكان مجاور للحمراء لبناء القصر الجديد، وبسبب ضيق المكان فقد أمر الملك بهدم بعض الأجزاء من قصر الحمراء ليفسح المجال للقصر الجديد. وكما كان متوقعا فقد ظهر القصر الجديد الذي أطلق عليه «قصر كارلوس الخامس» فخما جدا، ولكنه وهو بقرب قصر الحمراء، لا يستطيع منافسة القصر العربي، جمالا وفنا وتصميما.
معلوم أن قصر الحمراء، وهو في الحقيقة مجموعة أجنحة وقصور بنيت تباعا من قبل ملوك بني نصر، يعتبر آخر رمز بارز بناه العرب في الأندلس، ويمثل قمة ما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية في مجال العمارة والفن في الأندلس، ويزوره في كل عام نحو مليوني سائح من جميع أنحاء العالم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)