أثرياء الحرب الليبية يعرقلون عودة الدولة.. بعد تحقيقهم ثروات من صراع الميليشيات

بينهم بائع شطائر وسائق شاحنة ومصلح أجهزة منزلية * مصادر رسمية وبرلمانية تتحدث عن اختفاء مليارات الدولارات وأطنان من الذهب

مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
TT

أثرياء الحرب الليبية يعرقلون عودة الدولة.. بعد تحقيقهم ثروات من صراع الميليشيات

مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)
مقاتل ليبي تابع لقوات حفتر مع سلاحه في مدينة بنغازي (أ.ف.ب)

تعيش ليبيا في فوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في خريف عام 2011. وبدلا من تحقيق الاستقرار وجمع شتات الدولة والالتفاف حول الجيش، صعد إلى السطح بارونات الحرب من قادة الميليشيات ممن أثروا على حساب الشعب، ووقفوا ضد محاولات تشكيل حكومة الوفاق الوطني، سواء كانوا في غرب البلاد أو شرقها.
ويأتي هذا بينما تعاني الدولة التي تعد من أغني الدول الأفريقية، أزمة مالية طاحنة، لدرجة أن رغيف الخبز زاد ثمنه 10 أضعاف، كأقرب مثال على تدهور المعيشة. وتقدر لجان التحقيق التي بدأت تتشكل من خلال سلطة البرلمان الشرعي في الشرق، أو البرلمان المنتهية ولايته في الغرب، بضياع مليارات الدولارات، حيث يفسر كل طرف مصير هذه الأموال بطريقته.
لكن مصادر التحقيق في المنطقة الشرقية تقول إن هناك نحو 37 مليار دولار ونحو ثمانية أطنان من الذهب اختفت بعد دخول «الثوار» إلى طرابلس، بالإضافة إلى أعمال سطو ونهب قامت بها الميليشيات المتطرفة للمصارف العامة وسيارات نقل الأموال والمؤسسات المالية، طوال السنوات الأربع الأخيرة. بينما تتهم مصادر التحقيق في المنطقة الغربية أنصار النظام السابق وبعض الخصوم من «الثوار» بالاستيلاء على مليارات الدولارات.
مع تأخر الرواتب لأكثر من خمسة أشهر، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وشح الطعام والوقود وغاز الطهي، بدأ الليبيون يفتشون عن مصير أموالهم وهم يتدفأون على الحطب، ويتناولون قصصا أغرب من الخيال عمن حققوا ثروات من حروب الميليشيات منذ سقوط النظام السابق حتى اليوم. ومن بين هذه القصص تلك التي تتعلق برجل يبلغ من العمر 43 عاما كان يصلح الأجهزة المنزلية، خاصة التلفزيونات والمبردات، في دكانه في طرابلس، وأثناء الانتفاضة المسلحة على نظام القذافي أغلق دكانه الذي كان يجني منه في اليوم ما قيمته بين 30 و40 دولارا، فقام وارتدى ملابس عسكرية وأصبح يقف في مقدمة «الثوار» على رأس مدرعة مسروقة من الجيش. اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على سقوط النظام، أصبح الرجل نفسه يمتلك فيلا في ضاحية التجمع الخامس في العاصمة المصرية، وشققا وأراضي في بلدان أخرى.
رغم كل هذا الثراء، ما زال الليبيون يعرفونه باسم «مصلح التلفزيون». ويوجد مئات آخرون من هذا النوع من المهمشين الذين صعدوا إلى السطح بعد «الثورة» وأصبح بعضهم من كبار الأثرياء، ومن بينهم بائع شطائر تونة، كان لديه محل صغير في العاصمة الليبية أيضا، وسائق شاحنة «بيك آب» كان يبيع عليها مياه الشرب في ضواحي طرابلس، وغيرهم.
وتحاول السلطات الليبية الجديدة جرد أموال الدولة ومعرفة مصير كل سنت، وتسعى لهذا الغرض لتشكيل لجنة مختصة بمكافحة الفساد، رغم أن عدة لجان ومحققين بدأوا العمل بالفعل. بينما قرر البرلمان السابق الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان، وما زال يعمل انطلاقا من طرابلس، وضع عدد من خصوم الجماعة، في جدول «الحراسة وإدارة أموال وممتلكات بعض الأشخاص»، لمساءلتهم، وكان من بين هذه الأسماء «مصلح التلفزيون».
لكن يبدو أنه لن يكون في مقدور أي لجان استعادة مليارات الدولارات من أموال الليبيين إلا بعد أن يتحقق الاستقرار لهذا البلد المنقسم على نفسه. يقول الدكتور محمد الورفلي، الرئيس السابق للجنة القانونية في مؤتمر القبائل الليبية، إن ملف من أثروا من الحرب كبير جدا، ولا يقتصر على من صعدوا من أزقة المدن إلى الواجهة، ولكنه يشمل أيضا رجال أعمال كانوا يرون في رحيل القذافي مكسبا لهم. و«هذا النوع من اللصوص والتجار يقفون ضد عودة الدولة الليبية».
ويؤكد الدكتور محمد القشاط، رئيس جبهة النضال الوطني، التي تعضد من عمل البرلمان الجديد والجيش، مثل هذا الكلام أيضا، لكنه يزيد موضحا أنه توجد جهود تبذل من أجل تشكيل لجنة لحصر الأموال المنهوبة، إلا أنه يضيف أن «المشكلة تكمن في أننا نفتقر إلى الوثائق، لأن هناك الكثير من الشائعات، وهناك كلام صحيح أيضا. مثلا يقال إن فلان أخذ مائة مليون دولار أو مليار دولار، أو كذا، لكن أحيانا لا يكون قد أخذ كل هذا المبلغ، ولكن من الممكن أن يكون المبلغ أقل. أو لم يأخذ أي أموال من الأساس، وبالتالي لا يجب أن نضع اعتبارا للشائعات وكلام الشارع».
على الجانب الآخر، فإن من خافوا على ما جمعوه من أموال وابتعدوا بها إلى خارج البلاد، معروفون جيدا في الأوساط الليبية، خصوصا أولئك الذين ما زالوا يعانون في سبيل إقامة دولة ديمقراطية خالية من الفساد، منذ انضمامهم لـ«ثورة» 2011. «ليبيا صغيرة، والليبيون يعرفون بعضهم بعضا بشكل جيد، ويعرفون من أثروا بلا سبب، ويعرفون بارونات الحروب وبارونات السلاح، وليس الأمر بخاف، خصوصا بعد أن ظهرت معالم الثراء ومعالم الاغتناء غير المشروع، سواء كان هؤلاء من مناطق الغرب أو الشرق أو الجنوب»، كما يقول الورفلي.
يمثل البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، أعلى سلطة في البلاد. ومن خلال اللجان المختصة يحاول المحققون جمع معلومات عمن أثروا من الحرب ومن الفوضى ومن يستثمرون ما غنموه من أموال في تغذية الميليشيات وتجارة السلاح وتهريب البشر إلى أوروبا. ومن بين هؤلاء من فر إلى الخارج بأموال الدولة، ومن غادر ثم عاد ليتحالف مع أصدقاء جدد في المنطقة الشرقية، معلنا رفضه لحكومة الوفاق الوطني المقترحة من الأمم المتحدة.
كثير من قادة الميليشيات في المنطقة الغربية أيضا يرفضون حكومة الوفاق. كان أحد هؤلاء يقدم لحكومة الإخوان كشوفا تضم أكثر من 30 ألف اسم، ويصرف من خزينة الدولة ألف دولار في المتوسط لكل اسم، أي أنه يحصل على نحو 30 مليون دولار كل شهر كرواتب لعناصر ميليشياته، بينما العدد الحقيقي لم يكن يزيد على 500 أو 600 عنصر. ويقول أحد المسؤولين العسكريين: «عليك أن تحسب الفرق لتعرف كمية الأموال التي حصل عليها».
الدكتور القشاط، يضيف قائلا: «هناك فرق بين شخص يحرق نفسه من أجل وطن، وآخر يحرق الوطن من أجل نفسه.. مثل هذه المجموعات التي تحرق الوطن ليس لديها برنامج وليس لديها هدف إلا الاستفادة الشخصية، وبالتالي الميزانية والأموال التي في البلد، وبدل أن تصرف على الشعب وعلى خطة العمل وإعادة بناء الوطن، يقوم كل واحد من مثل هؤلاء بالنهب لنفسه فقط، ويعد أن هذا إنجاز لأنه بعد أن يحقق ما يريد من أموال يرحل عن ليبيا».
ويزيد موضحا: «أنت ترى كثيرين اليوم سافروا للإقامة في الخارج.. في تركيا وبريطانيا وأميركا. هذا يعني أنه لم يكن لديهم برنامج لإنقاذ الوطن، لأنه لم يكن لديهم خطة من الأساس للبناء. مثل هؤلاء حريصون على أن تبقى ليبيا بهذا الشكل، لأنه إذا وجدت دولة متماسكة وقانون ومحاكم سيُسأل هؤلاء وستُجمع منهم هذه الأموال. هذه أموال مسروقة يجب أن تعود إلى الشعب».
ويلفت الدكتور القشاط الانتباه إلى أن البعض ممن استولوا على أموال الليبيين بعد «ثورة 17 فبراير (شباط)»، أصبحوا يتحججون ويتهمون مسؤولي النظام السابق (جماعة نظام القذافي) بأنهم سرقوا هم أيضا أموالا وهربوا للخارج، ويصفونهم بأنهم «قطط سمان». ويضيف أن «مثل هذا الكلام موجود في داخل ليبيا، مع أن أكثرهم، ومن بينهم من كانوا وزراء ومسؤولين في عهد القذافي، غير قادرين اليوم على توفير الطعام لأنفسهم أو أن يدخلوا أولادهم المدارس».
ويقول مستشار قانوني ليبي على علاقة بالتحقيقات الحالية بشأن اختفاء مليارات الدولارات من أموال الدولة الليبية، فضل عدم ذكر اسمه، إن أحد المهمشين ممن أثروا بعد الحرب يملك في الوقت الحالي، وفقا للتحقيقات المبدئية، أسطولا من السفن، وشركة ملاحة، وله في جنوب شرقي القاهرة قصر في منطقة التجمع الخامس، وعدد من الفيلات في منطقة الرحاب، بالإضافة إلى عدد من مزارع البرتقال قرب العاصمة اللبنانية بيروت. ويقول مصدر في الجيش الليبي على علاقة بلجنة تجري تحقيقات في الموضوع، إن من بين الأسماء المطلوب مساءلتها بشأن ما لديها من أموال ضخمة غير معروف لها مورد، قائد عسكري آخر يعيش حاليا في جناح فخم في أكبر فنادق طرابلس المطلة على البحر المتوسط، ويطلق عليه البعض اسم «رئيس المخابرات الخفي لجماعة الإخوان في ليبيا»، ويتردد في كثير من الأحيان على تركيا وإسبانيا، وأسس في طرابلس شركات متنوعة من بينها شركة طيران مدني لنقل الركاب وقناة تلفزيونية، واشترى أملاكا في الخارج ويدير ثروة تقدر بعدة مليارات من الدولارات.
كان هذا الرجل البالغ من العمر 49 عاما، مطاردا من نظام القذافي، ومن مخابرات دول غربية. ويضيف المصدر أن المحققين لم يتمكنوا من الوصول لأي ثروة أو مدخرات له ذات قيمة، قبل ركوبه موجة «الثورة» في 2011، حيث كان في السابق هاربا في أفغانستان وبلدان أخرى، إلى أن جرى احتجازه في سجون القذافي. وفي أعقاب سقوط النظام السابق ظهر على السطح كقائد عسكري لمجموعة من «الثوار».
وكان الرجل من بين قادة ميليشيات أعلنوا رفضهم لتشكيل حكومة الوفاق الوطني، رغم مشاركة عدد منهم في مفاوضات الأمم المتحدة للمصالحة في ليبيا. ويصر هؤلاء، وأغلبهم يتمركز في طرابلس، على عدم الاعتراف بالبرلمان أو الجيش الوطني الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر. وحين لاحت في الأفق فرص لحكومة وحدة تعمل من العاصمة، بادروا بنشر قناصة على الأسطح في وسط طرابلس للحيلولة دون عودة الدولة من جديد، وفقا لمسؤول عسكري.
ويقول الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، مستشار الجيش الوطني الليبي: «الذين نهبوا أموال الدولة بعد 2011 يقفون ضد عودة القانون والمحاسبة. هؤلاء ليس من مصلحتهم وجود حكومة قوية، لأنه سيترتب عليه مساءلتهم عن الأموال التي تحت أيديهم وما هو مصدرها وكيف حصلوا عليها.
وبعد ما يزيد على أربع سنوات من الفوضى، يعتقد المحققون اليوم، (بعضهم يتبع حكومة طرابلس والبعض الآخر حكومة طبرق)، أن المصارف الليبية اختفت منها ليلة سقوط طرابلس في 20 أغسطس (آب) 2011 أكثر من 37 مليار دولار. ويقول المستشار القانوني الليبي المشار إليه إن «هذه الأموال نهبت بالكامل.. مسحوها في تلك الليلة، واختفت معها نحو ثمانية أو تسعة أطنان من الذهب. جرى تخزين جانب من المسروقات أولا في مطار معيتيقة، ثم تم توزيع الغنائم، وكأن الدولة لن تعود لتبحث عن أموالها».
المشكلة أن التحقيقات التي تجري في غرب البلاد تتهم الموالين للمنطقة الشرقية، والعكس، حيث يبدو أن تحقيقات المنطقة الشرقية تركز اهتمامها حتى الآن على الموالين للميليشيات في المنطقة الغربية. تشير تحقيقات مبدئية في الشرق إلى أن عددا من قادة الميليشيات والمجالس العسكرية استخدم الأوراق التي حصل عليها من كتائب القذافي العسكرية التي كان لها حسابات في المصارف الليبية، وقام عن طريقها بالتحايل على البنوك لسحب أموال تلك الكتائب لحساب القادة الجدد.
وتبحث واحدة من لجان الشرق حيث مقر البرلمان والجيش، التحقيق في مصير نحو 50 مليون دولار كانت في حساب كتيبة خميس نجل القذافي المعروفة باسم «اللواء 32 المعزز» وتبين أنه جرى سحب رصيدها من الأموال من جهات غير معروفة بعد أشهر من هزيمة كتيبة خميس ومقتله.
رجل آخر كان قبل ثورة 2011 يدير مطعما صغيرا لصناعة الشطائر (السندوتشات) في طرابلس.. يبيع نصف السندوتش بربع دينار ونصف دينار، واليوم أصبح من كبار رجال الأعمال، ولديه شركة استثمارات وهو يتردد على عدة بلدان في المنطقة، لكنه يفضل الإقامة في الأردن. ووفقا للجان التحقيق المبدئية، فقد جاء النصيب الأكبر من ثروة هذا الرجل الملقب في ضواحي طرابلس باسم «صانع سندوتشات التونة»، من رواتب عناصر الميليشيات الوهمية التي كان يرأسها.
تقول المعلومات إنه ترك دكان الشطائر قبيل «ثورة 17 فبراير» وعمل مع المطاعم الخاصة بمنطقة باب العزيزية التي كانت بمثابة حصن لحكم القذافي، وكان يقوم بتوريد بعض أنواع الأطعمة المطلوبة. وتواصل خلال تلك الفترة مع قيادات من «الثورة»، وقدم معلومات تفصيلية عن باب العزيزية من الداخل، وصلت إلى حلف الناتو وساعدت في تضييق الخناق على القذافي الذي فر وقتها من العاصمة إلى سرت.
وبعد ذلك أسس كتيبة في غرب العاصمة وقدم أوراقا للحكومة في عهد الإخوان بمساعدة أحد أقاربه ممن كان مسؤولا في السلطة. تقول الأوراق، وفقا للتحقيقات، إن عدد عناصر كتيبته يبلغ 14 ألف عنصر يقومون بحماية الحدود والمنشآت النفطية، بينما لم يكن العدد يزيد على بضعة مئات. ومع هذا استمر في صرف رواتب شهرية لهذه العناصر التي لا وجود لها، بما قيمته نحو 11 مليون دولار شهريا.
وتشير التحقيقات أيضا إلى أن صاحب دكان الشطائر، وبمساعدة قريبه، كان أيضا يحصل على أسلحة متطورة لكتيبته المزعومة من عدة دول صديقة لليبيا كمساعدات منها لتمكين السلطات الوليدة التي كانت تعتمد على الميليشيات في ضبط الحدود، لكنه كان يقوم بتخزين هذه الأسلحة في مخازن تقع في منطقة الهضبة في طرابلس ويقوم ببيعها لمن يطلبها من بقية الميليشيات والكتائب بغض النظر عن توجهاتها. وتقول التحقيقات إن ذلك استمر حتى أواخر عام 2014. ويقف هذا الرجل مع الحلف الذي يرفض تشكيل حكومة وحدة وطنية أو عودة الدولة أو تقوية الجيش.
أما الملف الخاص بسائق شاحنة المياه، الذي يدير في الوقت الحالي واحدة من أكبر كتائب المتطرفين في طرابلس، ويسيطر على مطار معيتيقة، فتفيد المعلومات المبدئية التي جرى جمعها عن طريق المحققين أنه «كان لديه سيارة بيك آب يضع عليها برميلين من مياه الشرب ويقوم ببيع حصص المياه في شوارع العاصمة خاصة منطقة سوق الجمعة، ولم تكن له مهنة أخرى، خصوصا أنه لم يكمل تعليمه.. واستمر على هذا الوضع حتى مطلع عام 2011، واليوم أصبح لديه أموال ضخمة غير معروف مصدرها، ويتحدث مع الناس باعتباره رجل دين وداعية».
لكن التحقيقات تشير إلى أن معظم ما جمعه من أموال يعود بالأساس إلى عمليات السحب من المصارف الليبية بأسماء كتائب القذافي رغم أنها كانت قد انتهت. وحول موضوع الصرف من حسابات كتائب النظام السابق والتلاعب فيها، التي تكررت في التحقيقات بشأن أكثر من قائد تدور حوله الشبهات، رد مسؤول مصرفي على المحققين في المنطقة الشرقية، بقوله إن المصرف المركزي أوقف منذ سبتمبر (أيلول) 2011، التعامل مع الحسابات الخاصة بكتائب القذافي التي كانت مودعة باسم اللجنة العامة للدفاع (وزارة الدفاع). وإذا ثبت للجنة التحقيق صرف أموال بعد التاريخ المشار إليه فسيتطلب الأمر التحقيق مع موظفي المصارف التي خرجت منها تلك الأموال.
ليست المناطق الغربية فقط التي ينتمي إليها معظم من صعدوا من الفقر إلى عالم القصور بعد «ثورة فبراير» هناك أيضا شخصيات أخرى من المنطقة الشرقية والجنوبية، ومن أبرزهم شاب كان معروفا بالتجارة في كل شيء، من الحمير إلى قطع السيارات المسروقة، والمخدرات. وتمكن من خلال عدة مئات من المسلحين من التحكم في جانب من مرافئ تصدير النفط، بعد أن دخل «مجال الثورة» من خلال العمل كقائد ميداني مكلف من قبل الحكومة التي كان يهيمن عليها الإخوان بحراسة عدة منشآت نفطية.
وفي الوقت الحالي، يتحرك هذا الشاب برتل من سيارات الحراسة برفقة 30 مسلحا يتقاضى كل حارس منهم نحو 500 دولار في الشهر. وتتضمن التحقيقات مزاعم عن حصوله على ملايين الدولارات، بعد انقلابه على الحكومة، من أجل أن يسمح لها بتصدير النفط، إلا أنه لم يفعل.
وتشير لجنة التحقيق الخاصة بهذا الموضوع (تابعة للسلطات في غرب البلاد) إلى أنه «لم يفتح الحقول، وأخذ يبيع النفط في السر لصالحه حتى الآن، ولديه شقيق أصغر منه يدين له بالولاء رغم أنه من قيادات تنظيم داعش في المناطق الممتدة بين سرت وإجدابيا». ويقول أحد القادة العسكريين من المنطقة الشرقية إنه «صحيح.. جرى رصد تعاون بين الشقيقين من أجل استمرار الفوضى في البلاد رغم أن فريق الشقيق الأكبر لا يوالي (داعش) لا فكريا ولا تنظيميا».
ويقول الدكتور الورفلي، الذي يعمل أيضا كمستشار قانوني في بعض القضايا المالية الخاصة بليبيا: نعم.. من أثروا في أحداث 2011 وما بعدها وأصبحوا يشغلون أماكن ويديرون شركات، يعرقلون عودة الدولة في أي صورة كانت. ويشير إلى أن الأمر لا يقتصر على من صعدوا من القاع إلى القمة، ولكن، من بين من نهبوا المال العام أيضا، أصحاب شركات وأصحاب أعمال كانوا قد أثروا في عهد القذافي من خلال التسهيلات والقروض البنكية، بحجة إقامة مشاريع ومصانع واستثمارات بمليارات الدولارات، ثم ساهموا في إسقاط العهد السابق «من أجل أن يتم حرق المستندات والأوراق المتعلقة بالقروض والأموال التي تحصلون عليها أيام القذافي».
«الهامشيون» الذين أثروا بعد رحيل القذافي، كما يسميهم الورفلي، «كانوا يعيشون على هامش المجتمع، أو كانوا يقومون بأعمال ومهن بسيطة، وحين جاءت أحداث فبراير وما فيها من فوضى عمت البلاد، منهم من سطا على البنوك بما فيها بنك ليبيا المركزي، والبنوك المحلية، وسيارات نقل الأموال والشركات العامة، وهناك من باع وثائق الدولة للخارج أيضا، بالإضافة إلى تجارة السلاح».
ويقول إن «هؤلاء لا يريدون عودة الأجهزة الأمنية، لأنه ستتم ملاحقتهم، ولا يريدون عودة الأمن والأمان، ولا الاستقرار، لأن ثراءهم مرتبط بحالة انعدام الوزن الذي تعيشه ليبيا الآن».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.