برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

الحزبيون يتصدرون المشهد.. وضعف المشاركة أبرز التحديات

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل
TT

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

برلمان مصر.. اقتراع خارج الصندوق ونخبة جديدة تتشكل

في غياب القواعد التقليدية للانتخابات في مصر، أجريت المرحلة الأولى من الاستحقاق النيابي منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأعلنت نتائجها النهائية نهاية الشهر نفسه. وتكفل فاصل الأسبوعين هذا، بين انطلاق المرحلة وإعلان النتائج، بإدخال تعديل جذري على المشهد؛ فالاقتراع الذي بدأ فاترا، تصاحبه أصداء ضحكة مجلجلة لرئيس نادي قضاة مصر حين سئل عن وجود تجاوزات، فعلق قائلا: «لا.. لا توجد تجاوزات.. ولا ناخبون»، انتهى بحسب مراقبين إلى ترتيب جديد للنخبة السياسية في البلاد، عبر «علاقات قوة» غير مسبوقة في أروقة الحكم.
وأظهرت النتائج النهائية للمرحلة الأولى حضورا قويا للأحزاب التي فازت بـ108 مقاعد، مقابل 105 مقاعد للمستقلين في النظام الفردي. وتصدر حزب «المصريين الأحرار»، الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، السباق الانتخابي بـ36 مقعدا، يليه حزب «مستقبل وطن» حديث العهد بـ21 مقعدا، وتقاسم حزبا «الوفد» أعرق الأحزاب المصرية و«الشعب الجمهوري» المركز الثالث محققين 11 مقعدا لكل منهما، فيما اكتفى حزب النور، الممثل الوحيد لتيار الإسلام السياسي، بـ8 مقاعد في الجولة الأولى، وتوزعت باقي المقاعد على 11 حزبا.

يتوقع الدكتور ضياء رشوان، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن يستحوذ حزب «المصريين الأحرار» على ما بين 90 إلى 80 مقعدا بنهاية الجولة الثانية التي تنطلق أواخر الشهر الحالي، كما توقع أن يحصل حزب «مستقبل وطن» على نحو 60 مقعدا، معتبرا أن هذا النسب ستؤدي حتما إلى برلمان مختلف جذريا عن البرلمانات التي شهدتها البلاد طوال تاريخها.
وجاء أول اقتراع نيابي في مصر بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، من خارج المقررات التاريخية المتعارف عليها، فمنذ رأى الرئيس الراحل أنور السادات أن الوقت حان لإنهاء تجربة الحزب الواحد، معلنا عودة الأحزاب في نوفمبر (تشرين الثاني) 1976، قاد الحزب الذي يتزعمه الرئيس البرلمانات المنتخبة، بأغلبية تراوحت بين المريحة أو الساحقة، ولم يكن الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي في تجربته التي لم تتجاوز العام بمنأى عن ذلك.
ويرى الدكتور معتز بالله عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن «البرلمان الجديد أدخلنا إلى مساحة غير مطروقة في حياتنا السياسية، فللمرة الأولى يأتي البرلمان من دون أهلي وزمالك الحياة السياسية (في إشارة لحالة الاستقطاب الحاد والمنافسة التقليدية بين أهم ناديين لكرة القدم في البلاد)، فلا وجود للحزب الوطني الديمقراطي بالصيغة الرسمية، ولا لإخوان مسلمين بالصيغة الرسمية».
في غياب المشهد التقليدي وجد المرشحون والناخبون أنفسهم أمام انتخابات برلمانية بلا بوصلة هادية، وخارج المربع المريح للموالاة أو المعارضة، فالرئيس عبد الفتاح السيسي، القادم من المؤسسة العسكرية رأسا إلى سدة الحكم، تعهد ألا يؤسس حزبا أو يدعم حزبا من الأحزاب الموجودة على الساحة، وهو أمر كرسه الدستور الجديد، رغم محاولات جرت للإيحاء بعكس ذلك من قبل تحالفات انتخابية.
ووضع الدكتور رفعت السعيد، السياسي المخضرم، رئيس المجلس الاستشاري لحزب التجمع، محاولات قائمة «في حب مصر» للإيحاء بأنها قائمة الرئيس السيسي ضمن الأسباب التي أدت إلى عزوف الناخبين، وهو التحدي الأبرز أمام البرلمان المقبل. وأضاف قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الإيحاء غير الذكي من قائمة (في حب مصر) جعل الناخب يتصور أنها آتية للمجلس لا محالة، وقد كان».
وتنفي قائمة «في حب مصر» هذا الاتهام، وتعلن بوضوح أنها تدعم الرئيس السيسي دون أن يعني هذا أنها مدعومة من طرفه. وقال اللواء سامح سيف اليزل، الذي يتزعم القائمة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه يعتزم بناء تحالف واسع داخل المجلس، متعهدا بأن يقوم تحالفه بدور رقابي قوي.
الحيوية الموعودة لمجلس تتوزع مواقع القوة فيه بين عدة أحزاب، وائتلافات تسعى حاليا لتوسيع نفوذها باستمالة نواب مستقلين، تعاني من أزمة جوهرية تتعلق بضعف المشاركة، الأمر الذي من شأنه أن يلقي بظلال من الشك حول شرعية المجلس التمثيلية.
ويرى الدكتور نور فرحات، أستاذ فلسفة القانون والفقيه الدستوري بجامعة الزقازيق، أن توافر الشرعية القانونية للانتخابات لا يغني عن الشرعيتين؛ السياسية والشعبية، مؤكدا أن الحديث عن الشرعية القانونية وحدها لا يجوز بعد ثورتين شعبيتين شهدتهما البلاد.
وبالنظر للدور الذي حدده الدستور للبرلمان المقبل، تبدو أزمة الشرعية أكثر إشكالية، فمجلس النواب الجديد منوط به وضع القوانين المكملة للدستور، إلى جانب توسيع صلاحيات المجلس الذي سيكون بمقدوره أن تشكل أغلبيته الحكومة إذا لم يحظ مرشح الرئيس لرئاسة مجلس الوزراء برضا النواب، كما سيكون بمقدور المجلس طلب طرح الثقة عن الرئيس في استفتاء شعبي، وإن رفض الشعب طرح الثقة يعني ذلك حل المجلس.
وقبيل الانتخابات البرلمانية، قادت تحليلات لمراقبين ورؤساء أحزاب إلى تهيئة الساحة لـ«انتخابات ضعيفة»، يهيمن عليها المستقلون ونواب الحزب الوطني الديمقراطي (المنحل) الذي احتكر السلطة طوال عقود حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.
يعارض الدكتور ضياء رشوان، وهو عضو لجنة كتابة الدستور، تلك الآراء، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الانتخابات البرلمانية أحيطت بكم هائل من التحليلات التي بنيت على انطباعات، وأحيانا معلومات غير مدققة، فبينما كان طيف واسع من المراقبين يتحدثون عن برلمان سيهيمن عليه المستقلون، عكست الأرقام حضورا قويا لمرشحي الأحزاب؛ فمن بين 2548 مرشحا في الانتخابات كان هناك 883 مرشحا حزبيا، وهذا أمر انعكس بدوره على النتائج النهائية للمرحلة الأولى، وهذه النتائج لم تأت من فراغ».
وتابع: «المؤكد أن المجلس وبخلاف ما تردد يشهد حضورا هائلا للأحزاب يتجاوز 50 في المائة، ربما للمرة الأولى منذ عقود، ومعظم تلك الأحزاب جديد على الساحة، باستثناء حزب واحد قديم هو حزب الوفد، كما أن اللافت أيضا أن هذا الحضور الحزبي برز في المحافظات وهو أمر غير متوقع، بعد أن تعودنا على أن وجودها يقتصر على المناطق الحضرية فقط، وهو ما يعني أن الأحزاب اخترقت المجتمع من أسفل».
ويحاجج البعض بأن الأحزاب التي تحظى بدعم سخي من رجال أعمال نجحت في استقطاب مرشحين أقوياء في دوائرهم الانتخابية من دون أن تربطهم أي صلة بالحزب أو أفكاره أو برنامجه، مما يعني أن نجاحها لا يعبر عن وزنها الفعلي ولا يعكس حضورا شعبيا. لكن رشوان يشير إلى ضرورة تجاوز قراءة المشهد من منطلق نظرية الدوافع فقط؛ ويقول: «الأحزاب كان أمامها طريقان، بناء كوادرها أو استقطاب كوادر موجودة على الأرض بالفعل، وبحكم التوقيتات اختارت الحل الثاني، وعلينا أن ننتظر لنرى التجربة خلال الممارسة، فهؤلاء النواب سينشطون بحكم عدة أمور داخل هياكل أحزابهم، وهو أمر سيكون له مردود جيد جدا على الحياة السياسية».
لا يبدي الدكتور عبد الفتاح، وهو أيضا أستاذ للعلوم السياسية في جامعة ميشيغان الأميركية، الثقة نفسها في أداء البرلمان المقبل، ويشير إلى أن «نتائج الانتخابات التي ترتب عليها خروج جيل من السياسيين من المشهد السياسي لصالح جيل جديد، سيشغل المساحة الأكبر من مقاعده، تضعنا أمام نواب ليست لديهم خبرة كافية».
ويضيف عبد الفتاح قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون تحديا وفرصة ربما يحسنون (النواب الجدد) استغلالها بالبناء على قواعد مختلفة، أو ربما لا يحسنون استغلالها وبالتالي نكون أمام برلمان هو تكرار للبرلمانات السابقة، برلمان مفتت، وجوده كغيابه، وهذا هو الخوف الأكبر، أن يفقد البرلمان دوره كأداة للتفاوض الجماعي بين فئات المجتمع المختلفة، وكأداة لحل الصراعات السياسية بطريقة منضبطة».
يعبر الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، عن المخاوف نفسها معتبرا أن البرلمان لن يعارض سياسات الرئيس السيسي، مشيرا إلى أن النواب يريدون أن يظلوا قريبين من الرئيس لأنه لا يزال مركز النظام السياسي في البلاد.
الرأي نفسه يؤيده أستاذ العلوم السياسية حازم حسني، الذي يقول إن «البرلمان سيكون برلمان الرئيس». ويضيف أن البرلمان «سيترك للرئيس حرية إدارة شؤون البلاد كما يشاء، سيكون برلمانا للحفاظ على الأمر الواقع كما هو مع إعطاء مسحة من الديمقراطية».
ويختلف الدكتور رشوان مع هذه الانتقادات المسبقة أيضا، ويقول إن التصريحات التي خرجت من أكبر حزبين في البرلمان تنقد هذا الأمر، فرئيس حزب «مستقبل وطن» أعلن صراحة أنه لن يؤيد رئيس الوزراء شريف إسماعيل المدعوم من الرئيس المصري، إذا ما عرض برنامج الحكومة على البرلمان، كما أكد اللواء سيف اليزل أن بقاء حكومة إسماعيل لا يزال أمرا غير محسوم.
ورغم المخاوف يتوقف الدكتور رشوان، وهو نقيب الصحافيين السابق، أمام ظواهر أخرى تؤشر في اعتقاده على وجود منحى جديد للناخبين، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لأول مرة في تاريخ البرلمانات المصرية نجد 24 قبطيا في جولة الإعادة، منهم مرشحان اثنان تنافسا على المقعد نفسه في بندر ملوي (في محافظة المنيا بصعيد مصر)، كما شهدنا للمرة الأولى أيضا منذ حصول المرأة على حق التصويت حضور 11 سيدة في جولة الإعادة».
وأضاف أن محافظة المنيا التي شهدت أكبر عدد من حرق الكنائس (في أعقاب موجة العنف التي تلت فض اعتصام أنصار الإخوان العام قبل الماضي)، والتي شهدت منع تصويت الأقباط في الانتخابات الرئاسية عام 2012، هذه المحافظة دخل جولة الإعادة فيها 10 أقباط. نحن هنا نتحدث عن نوع جديد من الناخبين لا تشكل العائلات والقبليات عصبه الأساسي، رغم أنها لا تزال موجود بالطبع فهي جزء من تركيب اجتماعي.
وكان رئيس اللجنة العليا للانتخابات، المستشار أيمن عباس، قد أعلن في وقت سابق أن نسبة التصويت في المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب بلغت 26.56 في المائة بإجمالي بلغ نحو 7.3 مليون صوت، فيما شارك في جولة الإعادة بالمرحلة الأولى 5 ملايين و554 ألفا و678 ناخبا، من أصل 25 مليونا و582 ألفا و518 ناخبا لهم حق التصويت في الجولة التي شملت 14 محافظة من بينها محافظتا الجيزة والإسكندرية.
وأوضح المستشار عباس أن مجموع النواب الفائزين في الجولة الأولى بلغ 273 نائبا، بينهم 5 نساء و12 شابا و108 حزبيين و105 مستقلين و60 نائبا فازوا بنظام القوائم (قائمة في حب مصر حسمت الانتخابات في الجولة الأولى).
ورغم الإيجابيات التي تحدث عنها رشوان، بدا لعدد من المراقبين أن الاقتراع جرى «خارج الصندوق»، بالنظر لنسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات البرلمانية، لكن بقي الخلاف حول من حصد «مقاعد الفراغ»؛ اللامبالاة التي وسمت الانتخابات طوال العقود الثلاثة ما قبل ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أم أنه الغضب مما عده معارضون «إغلاقا للمجال العام»، أم استفتاء جديد على شعبية الرئيس السيسي؟
وترى الدكتورة هالة شكر الله، الرئيسة السابقة لحزب الدستور، أن عزوف الناخبين عن الاقتراع في أول مجلس نواب في مصر بعد 30 يونيو (حزيران) لا يعبر عن قرار قصدي، بقدر ما يشير إلى إحساس عام عبرت عنه بـ«الإيمان بالمستقبل».
وقالت شكر الله لـ«الشرق الأوسط» إن «قطاعا كبيرا جدا من المصريين لم يذهب لأنه شعر بأنه غير مطلوب منه المشاركة.. هناك علاقة ديناميكية بين الجماهير والسلطة، والمصريون عبر تراكم الخبرة يدركون متى يكون لمشاركتهم أثر ومتى لا يكون لهذه المشاركة معنى».
وتضيف شكر الله أن «القطاع الوحيد الذي يمكن أن نعتبر مقاطعته للعملية الانتخابية مقاطعة واعية هو قطاع الشباب. هناك غضب بالتأكيد، وربما يأس، ولدى البعض رغبة في الانسحاب من المجال العام».
عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية كثفه مشهد احتشاد ما يزيد على 40 ألف شاب من روابط مشجعي النادي الأهلي في استاد مختار التتش بوسط القاهرة غير بعيدين عن ميدان التحرير لتشجيع ناديهم، في حين خيم الصمت على مراكز الاقتراع القريبة.
وفي رسالة مباشرة، انتشرت في شوارع بالقاهرة ملصقات دعائية لمجموعة من شباب الثورة المحبوسين في قضايا تتعلق بالتظاهر دون الحصول على ترخيص. وحملت تلك الملصقات صور النشطاء علاء عبد الفتاح (مسجون)، أحمد دومة (مسجون)، وأحمد ماهر، وآخرين، مع دعوة للتصويت للقائمة التي أطلق عليها قائمة «أفرجوا عن مصر».
وتتابع شكر الله قائلة: «على الدولة أن تستفيد من الرسائل التي مررها المصريون عبر العزوف عن المشاركة في الانتخابات، هذه مؤشرات قوية على أن هناك خطبا ما، وأننا لسنا على طريق المستقبل».
ومن ثم، يطالب الدكتور السعيد الحكومة بمراجعة مواقفها أيضا، لكنه يحمل لجنة قانونية أنيط بها وضع قوانين الانتخابات وترأسها وزير العدالة الانتقالية (ألغيت في الحكومة الحالية) مسؤولية عزوف الناخبين. وقال السعيد إن قوانين الانتخابات أساءت للعملية الانتخابية بقدر ما استبعدت بشدة الفئات الوسطى والفقراء، نظرا للالتزامات المادية التي فرضتها على المرشحين والتي بلغت في الانتخابات الحالية نحو 11 ألف جنيه، وهذا يعني أن 60 في المائة من المصريين أجبروا على عدم الترشح، وهو أمر يفتقر إلى المنطق خاصة حينما نعلم أن المرشح لرئاسة الجمهورية غير مطالب بدفع مليم واحد.
ويشير السعيد إلى قيمة الكشف الطبي والتي تقدر بـ3 آلاف جنيه، وقد اضطر المرشحون لإعادته مرة أخرى بعد أن تأجلت الانتخابات بحكم قضائي، بالإضافة لمبلغ 5 آلاف جنيه رسوم نظافة تحصلها المحافظات. وكانت هذه التكلفة المادية سببا في تراجع قائمة «صحوة مصر» عن السباق الانتخابي.
وانتقد السعيد أيضا موقف اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات. وقال إن «اللجنة وقفت مكتوفة الأيدي وعاجزة عن تفعيل المادة 74 من الدستور التي تمنع الدعاية الانتخابية على أساس ديني، كما وقفت مكتوفة الأيدي أمام أكوام الأموال التي تدفقت من الخارج على حزب بعينه، ومن الداخل على أحزاب أخرى، حتى إن تلك الأحزاب بدأت تتباهى بحجم الإنفاق، والنتيجة العملية أن قطاعا واسعا ابتعد عن العملية الانتخابية ترشيحا وتصويتا».
ويحدد قانون الانتخابات ضوابط وسقفا للدعاية الانتخابية، لكن معظم المراقبين يعتقدون أن عددا من الأحزاب تجاوز سقف الدعاية المسموح به.
الانتقادات التي وجهها السعيد للعملية الانتخابية لم تمنعه من التأكيد على أنها تمت بشفافية ونزاهة، وهو أمر شككت فيه أحزاب صغيرة أعلنت انسحابها قبل أيام من بدء جولة الإعادة في المرحلة الأولى.
وقال طارق زيدان، القيادي في تحالف نداء مصر المنسحب، لـ«الشرق الأوسط»، إن «قرار انسحاب التحالف جاء كرد فعل طبيعي للتجاوزات التي شهدتها العملية الانتخابية، وتجاوبا مع نبض الشارع الذي قاطع الانتخابات».
وهكذا، بين فتور مشهد الاقتراع وسخونة التنافس الحزبي على أكثرية البرلمان المقبل، ينتظر المصريون نتائج الجولة الثانية للبرلمان التي ستجرى يومي 22 و23 نوفمبر الحالي في 13 محافظة مصرية من بينها العاصمة القاهرة، ليعرفوا إذا ما كانت الأحزاب ستكرس حضورها بالفعل كلاعب رئيسي على الساحة السياسية، أم لا.. كما سيعرف قادة تلك الأحزاب ما إذا كان الناخبون سيعيرونهم هذه المرة الاهتمام الكافي، أم لا.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.