«وردّدت الجبالُ الصدى» لخالد حسيني.. رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية

بيعت منها 3 ملايين نسخة بعد 5 أشهر من صدورها.. وتُرجمت إلى 40 لغة عالمية

خالد حسيني وغلاف «ورددت الجبال الصدى»
خالد حسيني وغلاف «ورددت الجبال الصدى»
TT

«وردّدت الجبالُ الصدى» لخالد حسيني.. رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية

خالد حسيني وغلاف «ورددت الجبال الصدى»
خالد حسيني وغلاف «ورددت الجبال الصدى»

عوّدنا الروائي الأفغاني - الأميركي خالد حُسيني، في روايتيه السابقتين «عدّاء الطائرة الورقية» و«ألف شمس ساطعة»، على الشخصية المحورية التي تفرض حضورها الطاغي على مَدار النص الروائي. أما في روايته الثالثة «وردّدت الجبالُ الصدى» فقد تعمّد الكاتب تشظية تيمته الرئيسية إلى تسع وحدات يمكن أن تُقرأ كل وحدة منها كقصة قصيرة قائمة بذاتها، كما يمكن أن تُقرأ كنص روائي لا يخلو من الحبكة والترابط ووحدة الموضوع خصوصًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار شخصيتي عبد الله وشقيقته باري، اللذين يفترقان في طفولتهما ويتّحدان، بعد فوات الأوان، في مرحلة الشيخوخة التي يكون فيها عبد الله قد أُصيب بمرض ألزهايمر ولم يعد يتذكّر شيئًا حتى عن أخته التي كان يمحضها حُبًا من نوع خاص.
لم تكن هذه الانعطافة في التقنية فقط وإنما في التيمة التي نأت عن الحرب الأفغانية وابتعدت عن حركة طالبان، لتنفتح على موضوعات متعددة مثل الحُب، والفقد، والخيانة الزوجية، والهجرة، والخلاص وما إلى ذلك.
تشكِّل الجملة الاستهلالية مدخلا ترويضيًا لعبد الله وشقيقته باري، لكنه يُحرِّضهما في الوقت ذاته على التنبؤ واستشراف المستقبل. فالفلاح بابا أيوب، الذي يسكن في «ميدان سابز»، يُضحّي بأجمل أبنائه قيس حينما يهاجم القرية غول مخيف يأخذ الأطفال إلى حصنه البعيد في أحد الجبال الشاهقة. وحينما شاعت الأقاويل بأن الأب سلّم ابنه بطريقة جبانة ولم يواجه الغول قرّر بابا أيوب أن يذهب إلى حصن الغول ويُرجع ابنه إلى كنف الأسرة، لكنه فوجئ بالحياة السعيدة التي يعيشها ابنه، وبالمستقبل الكبير الذي ينتظره، فقرر العودة إلى القرية والانهماك في العمل الذي أفضى إلى تحسّن أوضاعه المعيشية، ثم تزويج أبنائه وبناته لاحقًا، لكنه ظل يسمع رنينًا كرنين الجرس الذي علّقه ذات يوم في عنق ولده الجميل خوفًا عليه من الضياع. وتأكيدًا لتقنية الوحدات، المُشار إليها سلفًا، فإن هذه الحكاية هي قصة قائمة بذاتها حتى وإن اندغمت في النسيج العام للرواية.
يتمحور الفصل الثاني على بيع الطفلة باري إلى أسرة السيدة نيلا وحداتي، زوجة رجل الأعمال سليمان وحداتي. وقد هيأ هذه الصفقة العم نبي، الذي يعمل طاهيًا وسائقًا عند أسرة وحداتي في كابل. وقد أخبر والدها بأن شرط هذه الصفقة هو عدم زيارة الطفلة نهائيا. لعل أهم ما في هذا الفصل أن باري تخبر السيدة نيلا بأن لديها كلبا يُدعى شوجا «وهو يعرف متى تكون حزينة!»، وحينما اختفت باري اتجه الكلب نحو التلال ولم يره أحد في قرية شادباغ! توقف سابور عن سرد القصص وكأنه باع هذه الموهبة كما باع ابنته. هنا يتذكر عبد الله القصة التي رواها الأب عن الفلاح المُسنّ بابا أيوب، الذي ضحى بأجمل أبنائه للغول. كما فتح صندوق باري فوجده مليئًا بريش الديكة والبطّ والطيور الملونة. وسوف يلعب هذا الصندوق دورًا مهمًا في التعرّف على شقيقها عبد الله في نهاية المطاف.
يدخل الفصل الثالث في إطار التأثيث للرواية، ففيه نتعرف على بروانة، شقيقة نبي، التي توافق على الزواج من سابور بعد وفاة زوجته الأولى أثناء الولادة. كما تُحيلنا بروانة إلى شقيقتها الحسناء معصومة التي لفتت أنظار أهل القرية. فقد كانت بروانة بالنسبة لها أشبه بالعشبة الضارة التي تقف إلى جوار زنبقة الماء، لكن هذه الأخيرة تسقط من الشجرة فتُصاب بشلل نصفي.
نتعرّف في الفصل الرابع على شخصية وحداتي من خلال عيني الطاهي والسائق والخادم نبي الذي يرى في السيد سليمان وحداتي الإنسان الأكثر وحدة في العالم، فهو انعزالي، ومتغطرس، ولا يمتلك روح المرح والمغامرة. كما أنه لا يفعل شيئًا سوى أن يقرأ أو يرسم من دون أن يُطلع الآخرين على رسوماته، وحينما تزوج قيل إنه اقترن بفتاة متفتحة تكتب أشعارًا جريئة جدًا. لم يكن زواجهما سعيدًا، كما يرى نبي، لأنه لم يلمح أي نظرة ودٍّ بينهما، بل إنها اختارت هذا السائق الشاب كي ينتشلها من وحدتها، فحكت له عن رحلة الصيد إلى جلال آباد وزيارتها إلى فرنسا، بينما هو يسترق النظر إلى مفاتنها الجسدية.
تبدو نيلا هي الشخصية الأكثر إثارة في النص الروائي، ليس لجهة تنوِّرها فحسب، وإنما لجرأتها في البوح بعواطفها، فحينما أخبرت السائق برغبتها الجدية في زيارة عائلته في قرية شادباغ والتعرّف عليها عن كثب لم تجد حرجًا في القول بأنها «امرأة بلا رحم»، فلقد خسرته أثناء العلاج وأصبحت امرأة عقيمة. أما شخصية نبي البسيطة فإنها تنطوي على جوانب عميقة أيضا، من بينها إعجابه بالقصائد الحرة التي سمعها من نيلا وهي تقرأها في حفلاتها الخاصة، علمًا بأنه المتلقي البسيط الذي اعتاد على سماع الأشعار الموزونة المقفاة لحافظ وجلال الدين الرومي وغيرهما من الشعراء الكلاسيكيين. لم تخبئ نيلا مشاعرها تجاه نبي، حيث أخبرته بأنها تعتقد أحيانًا «أنه صديقها الوحيد»، لكنه لم ينتبه إلى حرارة هذه الصداقة التي كانت تعتمل تحت الرماد. ومما فاقم رغبتها في الرحيل إلى باريس إصابة زوجها بجلطة تركته طريح الفراش، ومحاولتها الجدية لإنقاذ ابنتها المتبناة باري من العسف الذي يمكن أن تلاقيه في المجتمع الأفغاني المتشدد، فلا غرابة أن تهمس في أذن نبي قبل الرحيل بأنه كان الوحيد في حياتها، لكنه لم يعرف ذلك!
لم يكن نبي سعيدًا بوصية البيت والأموال التي تركها السيد وحداتي له، كما أنه لم يتفاجأ بخبر انتحار نيلا عام 1974. وكل الذي كان يتمناه من صديقه الطبيب اليوناني ماركوس فافاريس أن يُدفنه إلى جوار سيده سليمان وحداتي في مقبرة «عشوقان – عرفان»، وأن يُوصل بعد وفاته رسالة إلى ابنة أخيه باري يوصي لها بالبيت والمال وبعض الممتلكات الأخرى.
تتأكد باري أن نيلا لم تكن أمها البيولوجية، لذلك تشرع بالبحث عن أهلها. وحينما قرأ لها الدكتور فافاريس الرسالة أشرقت الذكريات في ذهنها، لكنها ما إن تلتقي شقيقها عبد الله حتى تكتشف أنه مُصاب بألزهايمر، ولم يعد يتذكر حتى أبيات الشعر التي كانا يرددانها في صغرهما، ومع ذلك فقد أيقنت أنها عثرت على جزء ضائع من ذاتها. ثم لفت نظرها صندوق قديم، وما إن أزاحت مزلاجه ورفعت الغطاء حتى وجدته ممتلئًا بالأرياش الملونة التي أعادتها إلى طفولتها المبكرة في قرية شادباغ، فبدأ الضباب ينقشع عن بيوتها المتواضعة كلما أمسكت أناملها بريشة حمامة أو بطة أو طاووس.
إذا كانت روايتا حُسيني الأولى والثانية عن الأبوة والأمومة، فإن روايته الثالثة هي عن العلاقة بين الأخوة والأخوات وأبناء العمومة، كما هو الحال بين عبد الله وباري من جهة، وبروانة ومعصومة من جهة أخرى، وإدريس وتيمور من جهة ثالثة، حيث عاد الأخيران إلى كابل عام 2003 كي يستردا أملاكهما.
تنطوي الرواية على مفاجآت كثيرة، فالقائد ساهيب مؤسس شادباغ الحديثة الذي يوزع الأموال على الفقراء، إنما هو في حقيقة الأمر أكبر مجرم حرب، وقد سوّى القرية بالأرض وشيّد محلها قصرًا كبيرًا شامخًا، بينما كان إقبال، الأخ غير الشقيق لعبد الله، ومالك الأرض، يعيش في مخيم للاجئين في باكستان.
جدير ذكره أن هذه الرواية قد بيعت منها 3 ملايين نسخة بعد خمسة أشهر من صدورها. كما تُرجمت إلى 40 لغة عالمية.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.