الذين يكرهون أن يروا صور أنفسهم

الذين يكرهون أن يروا صور أنفسهم
TT

الذين يكرهون أن يروا صور أنفسهم

الذين يكرهون أن يروا صور أنفسهم

يبدو أن الطبيعة الإنسانية لا تتغير بمرور الزمن، حتى بعد قرون، وكأنها تستنسخ عناصرها الأساسية ولكن بثياب جديدة، ما إن تخلعها حتى تبين كما هي، غرّة، نيئة، كأن لم يصقلها التطور الرهيب الذي عرفته البشرية في تاريخها، والحجم الهائل من المعرفة الذي اكتسبه الإنسان، والتقدم التكنولوجي المتسارع الذي كان في الأمس القريب مجرد خيال علمي.
يقرأ المرء في الكتب القديمة التي تعود إلى سحيق الزمان، وفي أمكنة مختلفة اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا، فيصادف شخصيات يعرفها، يراها يوميا، وقد تكون من حلقات أصدقائنا المقربين، ويتعرف على ظواهر اجتماعية وثقافية وأخلاقية لا تزال موجودة هي هي، ليس فقط في جوهرها، وإنما في شكلها أيضًا.
في كتاب «الخلائق»، على سبيل المثال، الصادر في القرن السابع عشر، للفيلسوف الفرنسي لابرويير، نرى صور أنفسنا ونحن في القرن الواحد والعشرين، وأبناء ثقافة وأمكنة مختلفة، ونكره هذه الصور. وقد أدرك ذلك قبلنا مترجم الكتاب الدكتور أنور لوقا، الذي ترجمه للمرة الأولى عام 1948، فجاء في إهدائه: «إلى الذين يكرهون أن يروا صور أنفسهم». لقد كره الفرنسيون أنفسهم حين قرأوه في نهاية القرن السابع عشر. وها نحن، قراءه المعاصرين، نفعل الشيء نفسه. وكان هذا هو هدف لابرويير: اخلعوا أوهامكم حول أنفسكم، اعرفوا نواقصكم وأخطاءكم بدل هذا الكبرياء الأجوف والتباهي والاختيال. إنه يقول لنا بصراحة: رأيت عيوبكم بوضوح، وأنا في عزلتي الطويلة، وها هي أنفسكم أمامكم فقوّموها! ونعتقد أن الفرنسيين «قوّموا أنفسهم» منذ القرن التاسع عشر، وأعادوا صياغة طبيعتهم الفطرية الأولى، مكتسبين «طبيعة ثانية»، حسب تعبير نيتشه، بعد أن انهالت على رؤوسهم مطارق روسو وفولتير وديدرو، الذين لم يهدأوا حتى غيروا فرنسا، وعبرها العالم كله.
سمى لابرويير كتابه «الخلائق»، بتعريف الكلمة وليس بتنكيرها، ليقول لنا إنها خلائق مطلقة ليست لها علاقة بالمكان والزمان. والخلائق، كما يذكر المترجم مستندا إلى لسان العرب، هي جمع الخليقة، أي الطبيعة الفطرية التي يخلق بها الإنسان. ومن هذه الخلائق أحوال الكتّاب والنقاد. يبدو لابرويير وكأنه يصف عصرنا، وعصرنا العربي بالتحديد، حين يكتب: «أن يذيع صيت كتاب ضئيلة قيمته، هزيلة مادته، بفضل اسم كاتبه الذي اشتهر من قبل، أيسر من أن يذيع صيت كاتب ناشئ نشر كتابا ذا قيمة كبيرة». وجردة بسيطة في ما يكتب في مجلاتنا وصحفنا نتبين كم لا يزال حكم لابرويير صادقًا، على الرغم من أنه أطلقه منذ قرون. أسماء معينة تكرست شهرتها لأسباب معينة، ومنها عامل الزمن، لا تزال تحتل ساحتنا الثقافية على سعتها، حاجبة مواهب كبيرة تموت ببطء في الظلام. أما النقاد «المكرسون» في عصرنا، كما في عصر لابرويير الذي انتقدهم بشدة، فهم لا يعطون أصواتهم اعتباطا، حتى لو أعجبوا بكتاب ما إعجابا كبيرا، وإنما ينتظرون الآخرين أن يبدأوا. وهكذا لا يبدأ أحد.
وحال الكتابة لا يختلف كثيرا. فـ«ضئال القريحة» يملأون الساحة، وهم يعتقدون أنهم يقدمون «كتابات عبقرية»، وأنهم وصلوا إلى الذروة العليا. ومن يعتقد ذلك، يأبى بالطبع نصيحة ناصح أو تصحيح ناقد.
ولأن لابرويير، يؤمن بأن الشرف قيمة لا تتجزأ، سواء في الحياة أو في الأدب، يقول لنا إن شرفنا الوحيد بوصفنا كتابا هو أن نجيد الكتابة. وإذا كنا لا نجيدها فعلينا أن نتوقف، وعندها سنكتسب شرفا آخر.. شرف الصمت. فبعض الأشياء لا تطاق إذا قلت فيها الإجادة مثل الشعر والرسم والموسيقى.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.