تملأ روائح الورد والياسمين والنجيل الهندي والصندل والمسك والكافور والحنا والمسك الرومي الأزقة الترابية لعاصمة دلهي في العصور المغولية والمعروفة وقتئذ باسم شاناباد وحاليا باسم شاندي تشوك.
إن الأواني الزجاجية البلجيكية المصنوعة لصالح شركة غولاب سينغ جوريمال الصيدلانية قبل 200 عام مضت لتقف شاهدة على تاريخ أقدم وأفضل مواطن صناعة العطور في دلهي المغولية القديمة.
تأسست الشركة إبان الحاكم المغولي القديم أكبر شاه الثاني، وتمضي الأساطير عبر القرون لتحكي تاريخ وأقاصيص العطار القديم.
تُدار الشركة حاليا بواسطة الجيل الثامن من الورثة، ويضم متجرها أكثر من 100 نوع من الروائح الأصلية، وأعواد البخور، والزيوت العطرية والصابون، بما يتفق تماما مع ما كان يجري في العالم القديم.
تصطف الزجاجات العطرية الملونة جنبا إلى جنب داخل الأعمدة الخشبية الكبيرة والعتيقة والمتينة.
تكثر الأساطير حتى يعجز المقام عن سردها خلال ساعات العمل اليومية بالمتجر الشهير، ولكن مع القليل من الحث، فإن المالك الحالي للشركة كريشنا موهان غاندي، الذي يناهز السبعين عامًا من عمره، يحكي ما كان قد سمعه من والده وجده، حيث يقول: «خلال العهد المغولي من حكم الملك أكبر شاه الثاني، كان النبلاء يزورون متجر أجدادنا للساعات الطويلة، وكان غولاب سينغ جوريمال مؤسس المتجر يختار لهم العطور بكل عناية واهتمام».
ويتابع غاندي قوله، الذي يباهي بمتعته في سرد الحكايات التي ينقلها عن جده الراحل، إن بنات الملك أكبر شاه الثاني اعتدن زيارة المتجر القديم في حفاوة لابتياع العطور.
وإذا كانت منطقة غراس في جنوب فرنسا قد برزت كأكبر منتج للعطور على مستوى العالم بسبب شغف الملك لويس الخامس عشر بها، فإن مهنة بيع العطور الهندية تتأصل جذورها في حوض الاستحمام المغولي القديم للإمبراطورة المغولية نورجهان.
وكما تقول القصة القديمة فإن بتلات الزهور كانت تُسحق لتغمر حوض استحمام الإمبراطورة لساعات قبل استخدام الإمبراطورة له. وذات صباح لاحظت الإمبراطورة وجود مادة ذات طبيعة زيتية تطفو على سطح المياه بحوض استحمامها. وكان ذلك إيذانا بميلاد أفخر أنواع العطور المعروفة الآن في الهند.
وعطر الورد هو ذلك النوع من العطور الخالية من الكحوليات، والذي يشتمل على الزهور الطبيعية ومستخلصات الأعشاب. وقصة العطور الهندية قديمة قدم الحضارة الهندية ذاتها. وتثير الحفريات الأثرية أن السكان الأوائل في شبه القارة الهندية كانوا يحتفظون بالزهور في حفاوة وتقدير كبيرين. ومع مرور الوقت، كانت الزيوت العطرية تستخرج عن طريق الضغط، أو السحق، أو التقطير للنباتات العطرية والمنتجات الحيوانية. والأدلة الأولية لذلك النشاط الصناعي بادية في الجرار العطرية القديمة والحاويات الطينية في حضارة وادي السند، حيث كشفت الحفريات الأثرية هناك عن وجود مقطرات النحاس الأسطوانية التي كانت تستخدم في عملية التقطير التي ترجع إلى نحو 5 آلاف عام مضت على أدنى تقدير. وهناك تقنيات مماثلة تقريبا لذلك قيد الاستخدام في العصر الحديث.
إن عادات حيازة العطور المبجلة من العهد المغولي لا تزال تحتفظ بإرثها الثقافي المرتبط بها حتى الآن.
كانت العطور المحفوظة في الأواني الزجاجية البلجيكية القديمة توضع داخل صناديق خشبية رائعة مطعمة بالعاج ويتم إرسالها إلى الملكات والأميرات المغوليات وغيرهن من نساء علية القوم من طبقة النبلاء لاتخاذها عينات واختيار ما يروق لهن من مختلف الروائح والعطور.
أشار كريشنا موهان سينغ إلى أوان زجاجية كبيرة داخل متجره وقال: «يعود تاريخها إلى عهد الحكام المغول»، وأضاف أن إدارة أعماله تشبه إلى حد كبير المحافظة على تراث مدينة دلهي القديم. وبإمعان النظر في مختلف الأواني الزجاجية، تتبدى فلسفة كريشنا موهان جلية «إن التراث القديم في مثل هشاشة تلك الزجاجات، ويمكن أن يكون مستداما في مثل رائحة عطر الورد القديم».
كان العود هو أكثر العطور شهرة بين أمراء المغول. وفي العصر الحديث، لا يزال الطلب قائما على عطر العود خارج الهند، وعلى الأخص في دول الخليج العربي. ويقول نافين غاندي نجل كريشنا موهان غاندي إن عطر العود مثله مثل الخمر، تزداد جودته ويرتفع سعره مع مرور الوقت. وتابع يقول: «يبدأ سعر عطر العود من 10 آلاف روبية هندية لعشر غرامات ويمكن أن يصل سعره إلى مئات الآلاف، وغالبا ما تُنظم لأجله المزادات، ويأتي كثير من العرب إلى مدينة دلهي لابتياع عطر العود».
هذا ولقد فرضت الحكومة الهندية حظرا على تصدير عطر العود حيث بات مصدره (خشب العود الراتنجي الداكن) نادر الوجود.
يقول أبو الفضل بن المبارك في كتبه الشهير «أكبر نامه» إن الملك المغولي القديم أكبر شاه كان يستخدم العطور إلى جانب البخور يوميا في مجامر الذهب والفضة. وكانت أدوات الزينة للأميرات تعتبر غير كاملة إذا نقصت منها البخور والعطور.
وكتب باتريك زوسكيند مذكرة رائعة كيف أنه في عام 1857 لما كان واقفا أمام متجر غولاب غاندي مر بجانبه موكب قائد المغول علي جناب بهادور خان سحاب. وعندما رأى غولاب غاندي الموكب قادما، أغلق أبواب المتجر في هدوء وظل يتابع النظر إلى الموكب المهيب من خلال الباب.
يعلم الله أية مصادفة دفعت بحصان موكب القائد المغولي بهادور خان ليتوقف تماما أمام باب متجر غولاب غاندي. نظر بهادور خان حوله وسأل عن صاحب ذلك المتجر. فأجابه خادمه أن صاحبه هو «غولاب غاندي». فاستشاط بهادور خان غضبا وقال: «ألا يعلم الشقي صاحب المتجر أن صاحب السمو سوف يمر من هنا الساعة؟ لماذا أرى أبواب المتجر مغلقة؟ افتحوا أبواب المتجر في الحال!!»
كل ما رأيناه أن أحد جنود القائد ضرب باب المتجر بمقبض سيفه وصاح «افتحوا الباب!»، وتنفيذا للأمر، افتتح باب المتجر وكان غولاب غاندي واقفا لدى الباب عاقدا ذراعيه أمام صدره، لاهثا ومرتجفا. ووجهت إليه الأوامر بأن يقدم أفضل المنتجات الموجودة في متجره. وفي عثرته، اندفع الرجل إلى الداخل ثم عاد يحمل آنيتين ممتلئتين بعطر الورد الفواح. فأخذ بهادور خان كلتا الزجاجتين ومن دون أن يكلف نفسه عناء إزالة الأغطية عنهما، دق عنق الزجاجتين بعضهما ببعض ليكسرهما. واشتم الرائحة المنبعثة من الزجاجة الأولى وصب منها على عنق جواده. وصب من الأخرى على شعر ذيل الجواد. وبعد أن ألقى بكلتا الزجاجتين بعيدا وجه أوامره للجيش حيث قال: «إلى الأمام! تاركا غاندي يندب حظه العاثر وخسارته لمئات الروبيات في ثوان معدودة».
يُباع أكثر من 20 نوعا مختلفا من العطور وأكثر من 100 نوع من الروائح لدى متجر غولاب سينغ جوريمال. يقول نافين: «توسعت أعمالنا بمرور الوقت وبسبب الثقة لدى عملائنا. وإننا نرفع من أسعارنا ولكننا لا نتسامح أبدا مع الجودة المرتفعة لمنتجاتنا لأنها كل ما لدينا».
منذ الإمبراطور المغولي القديم بهادور شاه ظفار، والذي منح لقب غاندي (صانع العطور) على غولاب سينغ، وحتى حكام الدول السابقين مثل شيخوبورا، وغواليور، وداربانغا، إلى رؤساء الوزراء والوزراء السابقين بالحكومات الهندية المتعاقبة - فإن قائمة العملاء تضم أسماء بارزة ومعروفة للغاية. ولقد منحهم مهراجا باتيالا إحدى الثريات الرائعة. والآن، يعمل غاندي في تصدير العطور، والزيوت الأساسية، والصابون، وأعواد البخور إلى أوروبا، والشرق الأوسط، وأميركا، وأستراليا.
ليس للمتجر من باب، ولكنها ستارة فقط. ولكن لماذا؟
مال المالك برأسه وفسر الأمر قائلا إن الستارة تساعد في تهوية المتجر. وتابع قائلا: «من شأن الباب المغلق أن يحبس روائح كل العطور بالداخل. ومن ثم يصعب للغاية التفريق بين الروائح المنبعثة. إنها ليست مثل العطور الأخرى التي تعتمد على الكحول في صناعتها». إن العطور باهظة الثمن تأتي بأسماء ماتعة مثل «روحموتيا»، و«ياسمينلتار»، و«هانيساكل»، و«زبيدة»، و«مخلط»، وهي من بين الأسماء القليلة التي تعود إلى عهد المغول. ويعد عطر «جيل» هو أكثرها غرابة لأنه يفوح مثل رائحة الأرض، وهو جيد للغاية لما بعد الاستحمام.
للعطور تراث من القوة متعددة الأغراض تكمن وراء صناعة التقطير، كما لم تخضع العطور للمعادلات ما بين الجنسين كما هو الحال في العطور الغربية والتي تُصنع في مسارين أحدهما مخصص للرجال فقط والآخر للنساء فحسب.
يشهد ذلك العطر رواجا في محافل الأزياء الفرنسية وخصوصا لدى ناعومي كامبل العارضة الشهيرة التي وقعت في عشق العطور الهندية.
تختلف العطور باختلاف المواسم. ويُفضل عطر النجيل الهندي خلال موسم الصيف ويعتبر الهينا مفضلا خلال شهور الشتاء. ويمكنك على مدار السنة استخدام العطور الزهرية مثل الورد، البابونج، والموتيا، من بين زهور أخرى.
اعتاد أباطرة المغول والهنود اتخاذ عشر غرامات من الهينا ونشرها داخل مخادعهم الخاصة لتأثيرها الدافئ اللطيف، كما يقول غاندي. وكما أن كبير الطهاة لا يُفضي لأحد بأسرار الطهي، فإن صناع العطور كذلك، يرغبون في الاحتفاظ ببعض من المكونات العطرية لأنفسهم.
يعرف الفرنسيون أن عطورهم وحبهم للفضول والمعرفة يأتي بهم ولا بد إلى الحارات الترابية الضيقة التي تزدان بها مدينة دلهي القديمة، ومن وقت لآخر لأنهم أنفسهم يدركون معرفتهم بأسرار وكيفيات صناعة العطور. يقول غاندي: «يأتينا الزبائن من فرنسا مرة واحدة كل فترة من الزمن ولكن ليس كل يوم. فلديهم زراعات لأنواع كثيرة من الزهور. تعمل شركة جيفودان السويسرية للعطور في الهند على مستوى واسع إلى جانب بعض الشركات الفرنسية، والتي تستعين بمصادر خارجية للعطور من الهند».
يُقال إن عطر الورد يتمتع بفترة صلاحية ممتدة وإن العطور المصنعة من مستخلصات الأعشاب الأصلية تفوح منها رائحة أفضل كلما طال عمرها.
يُقال كذلك إن العطور الطبيعية تجذب الملائكة وتطرد الأرواح الشريرة. كما أضاف غاندي.
والآن وبعد مرور قرنين من الزمان، هناك دفق مستمر من الزبائن ومن الخبراء، ولا يزالون يتخيرون ما بين عطور الزهور المختلفة.
أقدم شركات العطور الهندية تعود إلى عصر الإمبراطور أكبر شاه الثاني
تضم أكثر من 100 نوع من الروائح الأصلية والزيوت العطرية ويديرها الجيل الثامن
أقدم شركات العطور الهندية تعود إلى عصر الإمبراطور أكبر شاه الثاني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة