كزينوفون.. شاهد أول على فكرة التقدم

كان استثناءً فريدًا قياسًا على السائد المعرفي في زمنه

كزينوفون.. شاهد أول على فكرة التقدم
TT

كزينوفون.. شاهد أول على فكرة التقدم

كزينوفون.. شاهد أول على فكرة التقدم

في أحد أهم المتون المؤسسة للميثولوجيا الإغريقية، أقصد متن «الأعمال والأيام» لهيزيود، تمظهر لأول مرة في تاريخ الوعي الأوروبي ما يسمى بنظرية «العصر البدائي الذهبي»، ذاك التعبير الذي يفيد بارتكاس صيرورة الزمن الإنساني، بدعوى أن التاريخ البشري، في بدئه، كان زمن رفاه ورخاء، ثم تم الانتكاس بعده إلى زمن الضنك والاحتياج والعمل.
وقد استمرت نظرية «العصر الذهبي» هذه رافلة في لبوس متنوع، عبر مختلف مراحل تطور الفكر الأوروبي اللاحق، حيث نجدها عند الشاعر الروماني أوفيد Ovide، وعند كثير من الشعراء والمفكرين اللاتينيين، مثل طيبول Tibulle وفرجيل Virgile... كما استمرت خلال القرون الوسطى متلبسة بالتأويل التوراتي / المسيحي.
وإذا ارتحلنا عن السياق الثقافي الغربي، سنلحظ أن الدراسات الأنثروبولوجية كشفت عن أن مختلف المجتمعات التقليدية مسكونة بهذا التصور، القائل بأن الماضي أكثر سموقا من الحاضر. وتعليلا لشيوع هذا التصور، يمكن القول بأن الرؤية الماضوية تتلاقى مع طبيعة المجتمع التقليدي المحكوم في بنيته السوسيولوجية بالسكون وتباطؤ الحراك.
وعليه، فإن بدء الحداثة، وبروز النمط التقني وما استتبعه من تسارع في إيقاع التحولات، من الطبيعي أن يفرض نمطا جديدا في الرؤية إلى التاريخ الإنساني. وفي هذا لا غرابة في أن نجد بدء الحداثة مساوقا لظهور فلسفة الأنوار، التي نزعت نحو التأسيس لنظرية بديلة لـ«العصر البدئي الذهبي»، هي نظرية التقدم، حيث تم تصور التاريخ الإنساني بوصفه صيرورة متقدمة في خط تصاعدي. وقد تم إسناد هذا التصور بفكرة العلم كمعرفة بشرية قادرة على تسييد الإنسان على الطبيعة، فصارت نظرية التقدم آيديولوجية مهيمنة، لن يتم الانقلاب عليها إلا بعد الامتداد الزمني للحداثة، ومعاينة تغول النموذج التقني وما نتج عنه من تأثير سلبي في البيئة الطبيعية، واختلال في القيم.
وعليه، فإننا إذا استحضرنا كزينوفون، ذاك الفيلسوف الإغريقي الذي ينتمي إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقرأنا رؤيته إلى التاريخ القائمة على فكرة التقدم، فإنه يبدو استثناء فريدا قياسا على السائد المعرفي في زمنه. إذ خالف التصور الهيزيودي للتاريخ مخالفة جوهرية، فلم ينظر إلى زمن البدء بوصفه سامقا على زمن الحاضر والغد، بل عكس الصورة وقلب القيم. حيث ربط في شذرته الثامنة عشرة - المروية عند سطوبي – وصول البشرية إلى «الأفضل» بمقدار تقدمها في الزمن، قائلا: «... ولكن بالبحث ومع مرور الزمن، فإنهم (يقصد البشر) سيصلون إلى الأفضل».
هكذا بلور كزينوفون موقفا فكريا مضادا للميثولوجيا الإغريقية التي تمثلت الصيرورة التاريخية كانحطاط لا كتقدم، فلم ينظر إلى بداية الزمن البشري الأول نظرة إعلائية، تخلع عليه صفات تقريظية، بل بالعكس، نظر إلى اللاحق بوصفه أفضل من السالف. فقام بقلب تام للرؤية الهيزيودية إلى العالم، مستبدلا بتلك الرؤية الميثولوجية التشاؤمية، الناظرة إلى المستقبل البشري كصيرورة ارتكاسية، رؤية جديدة تنظر إلى التاريخ بمنظار الصيرورة المتقدمة، لا بمنظار تنازلي يعبر عن تتالي الانحطاط، بعد لحظة البدء الذهبي.
وقد أثارت فكرة التقدم الواردة عند فيلسوف كولوفون انتباه كثير من الباحثين، ففي سياق تعليقه على الشذرة (ب 18)، يرى إيديلشتاين Edelstein، أن كزينوفون «أول شاهد في تاريخ الفكر الإغريقي على فكرة التقدم». كما نظر ألكسندر تولين إلى تلك الشذرة بوصفها «أقدم تعبير عن الاعتقاد في التقدم الإنساني».
كما اتجه جمع من المؤرخين والفلاسفة إلى تأويل الشذرة (ب 18) بوصفها دالة على فكرة التقدم، نذكر منهم زيلر Zeller، وشيرنيس H. Cherniss، وبابوت D. Babut، وبرنيس J. Barnes
صحيح أن هناك من لم يرَ فيها أي إيمان بالتقدم، مثل ليشير J. H. Lesher، لكن موقفه يظل في تقديرنا موقفا شاذا بالقياس إلى السائد والمتداول في كثير من الأبحاث والدراسات. ومع هذا فإن نقدنا لموقفه ليس راجعا إلى انفراده وشذوذه في التأويل، بل نرى أن ما يزيد في توكيد حضور الرؤية التقدمية في فكر كزينوفون، هو أن ذلك مناغم لموقفه المعرفي، حيث أكد أكثر من مرة، في شذراته على نسبية المعرفة البشرية، حتى جعل كثيرا من الشراح يحددون موقفه، بكونه أول شكاك في تاريخ الفكر الفلسفي، وأنه يقول إن الحقيقة ليست موضع حيازة وامتلاك، بل هي أفق تتقدم نحوه صيرورة التفكير البشري. وهو التصور الذي أدهش كارل بوبر، فنظر إلى كزينوفون بوصفه أول من عبر بوضوح عن أن الإمكان المعرفي البشري لا يستطيع حيازة الحقيقة النهائية، بل قدره المناغم لاقتداره هو أن يكون مداه المعرفي في توسع وتقدم عبر الزمن.
وهكذا يمكن وصل الشذرة (ب 18)، القائلة بأن التقدم البشري صيرورة متنامية زمنيا، بالشذرة (ب 34)، المعبرة عن محدودية الإمكان المعرفي. الأمر الذي يؤكد أن نفي كزينوفون للمعرفة البشرية المطلقة، لم يكن مجرد فلتة لفظية، بل يبدو أن الرجل كان لديه تصور خاص لماهية الحقيقة كأفق يرتهن الاقتراب منه، بصيرورة تقدم الوعي البشري عبر الزمن.
غير أن الاستفهام الذي يستحق الاستحضار هنا هو: كيف تأتي لكزينوفون أن يخرق الأنموذج النظري المهيمن في زمنه، فيعبر عن نزوع فكري لن يشيع إلا مع فلسفة الأنوار، أي بعده بأزيد من عشرين قرنا؟
إن تاريخ الفكر يثبت أن كثيرا من الحدوس الفكرية تكون سباقة لزمنها، ويصعب أن تجد لها في الأنموذج الثقافي، المهيمن والشارط للوعي، ما يمكن أن يفسرها تفسيرا عليا يحدد بطريقة آلية هوية الفاعل والمفعول.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.