«الحشد الشعبي» العراقي.. من يمثل؟ وما الغاية منه؟

هدف إيران بناء «جيش مواز» يخدم استراتيجيتها الإقليمية

«الحشد الشعبي» العراقي.. من يمثل؟ وما الغاية منه؟
TT

«الحشد الشعبي» العراقي.. من يمثل؟ وما الغاية منه؟

«الحشد الشعبي» العراقي.. من يمثل؟ وما الغاية منه؟

«إن جيشًا يؤسسه (آخرون) يستحيل أن يتشكل وينشط، بل لا بديل عن حله والاستعاضة عنه بجيش مخلص للثورة». لما يقرب من أربعة عقود كان هذا المبدأ من المبادئ الأساسية للاستراتيجية الإقليمية التي اعتمدتها إيران الخمينية. وكان وراء هذه الاستراتيجية مصطفى شمران، الحركي المتخصص في العلوم التي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، وهو الذي أسهم بتأسيس «حركة المحرومين» في لبنان، قبل أن يعود إلى إيران بعد تولي الملالي السلطة.
كان شمران أحد المؤسسين الرئيسيين لـ«الحرس الثوري» وأحد الأعضاء الخمسة للجنة التي تولت تصفية الجيش الإيراني النظامي من «الضباط المشتبه بولائهم». وعندما تولى شمران منصب وزير الدفاع في عهد الخميني، كان الجيش النظامي قد انتهى عمليًا، وأعيد تنظيمه جزئيًا كـ«جيش موازٍ» مهمته المساعدة في التعامل مع الجيش العراقي في الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
خلال 1979 وجزء من 1980 كان الزعيم الإيراني آية الله الخميني يأمل بالقدرة على الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، عبر تكرار «السيناريو» الذي اتبعه مع الشاه. إلا أنه أدرك لاحقًا أن صدام حالة مختلفة تمامًا، ولن يتردد في الدفاع عن نفسه لو اقتضى الأمر أنهارا من الدم.
عند هذه النقطة ولدت في طهران ترتيب انقلاب عسكري في بغداد.. وهذا، مع أنها لم تكن جديدة تمامًا. فخلال عهد الشاه، ساعدت إيران البعثيين على تولي الحكم إثر الإطاحة بحكم عبد الرحمن عارف عام 1968، وعام 1970، حاولت إيران تنظيم انقلاب، ضد البعثيين هذه المرة، إلا أنه فشل.
عام 1980 استخلص الملالي بسرعة تعذر استيلائهم على السلطة في العراق عبر انقلاب عسكري. وكان بين الأسباب قلة عدد الضباط الشيعة الكبار في المواقع الحساسة في الجيش، وكذلك أن كثرة من الضباط الشيعة ما كانوا مستعدين بالعيش في ظل حكم الملالي.
بناء عليه، كان لا بد من العودة إلى فكرة شمران القائمة على إيجاد «جيش موازٍ» في العراق.
ما سهّل المهمة كون صدام حسين قد هجّر أكثر من مليون شيعي عراقي وطردهم إلى إيران. وهكذا، مع اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) تشكلت نواة هذا «الجيش الموازي» من آلاف العسكريين العراقيين المهجّرين، بينهم الكثير من الضباط، الذين لجأوا إلى إيران. أيضًا من العوامل التي سهّلت المهمة وجود عدد من القبائل العربية الشيعية التي تنتشر على جانبي الحدود العراقية الإيرانية. وكان عدد كبير من الجيل الأول من المجندين، بينهم القائد المستقبلي هادي العامري، من الجناح الإيراني لهذه القبائل العربية التي قسمت مناطق انتشارها الحدود.
وعام 1982، كان «الجيش الموازي» قد أبصر النور وتجهز للعمل، واختير له اسم «فيلق بدر» تيمنًا بالمعركة الإسلامية الشهيرة قرب المدينة المنورة. ومع أن «فيلق بدر» اعتبر وجرى التعامل معه على أنه وحدة في «الحرس الثوري»، كان ثمة حرص في طهران على إعطائه هوية عراقية وجعله الجناح العسكري لـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، وهو هيئة علمائية - سياسية معادية لحكم صدام يقودها آية الله محمد باقر الحكيم.
لقد كان وجود الحكيم في إيران مصدر منفعة ومصدر خطر في آن معًا بالنسبة للخميني وجماعته. فمصدر المنفعة أن الحكيم يمثل أسرة دينية عريقة ومحترمة تضرب جذورها عميقة في العراق وإيران. ولقد عاشت أسرة الحكيم التي تعود أصولها إلى مدينة شيراز بجنوب إيران، في مدينة النجف لعدة أجيال، واعتبرها العراقيون أسرة عراقية. وكان والد محمد باقر، آية الله العظمى محسن الحكيم الطباطبائي، أبرز مراجع التقليد وعالم علماء الشيعة حتى وفاته عام 1970، وبالتالي، كان وجود محمد باقر و«المجلس الأعلى» الذي يرأسه يخلق انطباعًا بأن للحركة بركة دينية ما دامت نحتفظ بهويتها العراقية.
في المقابل، كان مصدر الخطر على الخميني، أنه ما كان بالإمكان التعامل مع محمد باقر الحكيم على أنه تابع مطيع لملالي طهران. وحقًا، أصر الحكيم بعناد على المحافظة على هوية مستقلة لشيعة العراق، ولا سيما مع تشديده على أن مركز المرجعية الدينية لا يزال النجف، ممثلة بآية الله العظمى أبو القاسم موسوي الخوئي، الذي خلف في موقع المرجعية آية الله محسن الحكيم.
بحلول عام 1983، بلغ عدد «فيلق بدر» نحو 15 ألف مقاتل، سلحوا بأكثر من عشرين دبابة أمكن الاستيلاء عليها من الجيش العراقي، بجانب عدد من المدرعات وبطاريات المدفعية القصيرة المدى والصواريخ الصغيرة. تحت قيادة وإشراف ضباط إيرانيين، نشر «فيلق بدر» في عدد من المعارك، غير أن معظم التقارير تشير إلى أن أداءه كان متواضعًا، ما حدا بمحسن رضائي، قائد «الحرس الثوري» يومذاك، إلى الإيعاز بإبقاء الفيلق في المواقع الجانبية ما أمكن.
مع هذا، صار ينظر إلى «فيلق بدر» على أنه «الجيش الموازي» المستقبلي في العراق بعد طي صفحة حكم صدام حسين. ولكن بحلول 1988 اتضح تمامًا أن إسقاط الرئيس العراقي ونظامه ليس بالأمر السهل. وعندها قررت طهران إعادة تقديم «الفيلق» بشكل قوة سياسية. وحقًا، بهذه الصفة دخل «فيلق بدر» الأراضي العراقية عام 2003 بعدما أسقطت القوات الأميركية الغازية صدام ونظامه.
حميد زمردي، الخبير في شؤون الميليشيات التي تدعمها إيران، يقول: «إن تجربة فيلق بدر توفر مفارقة مثيرة مع حالة حزب الله، وهو جيش موازٍ آخر خلقته إيران في لبنان». ويمضي زمردي موضحًا «لقد نجح حزب الله لأن ولاءه للقيادة الإيرانية الجديدة كان كاملاً، ولأنه كان يعتبر لبنان مجرد تعبير جغرافي. أما فيلق بدر، فكان ما زال يحمل نزعات عراقية قومية ووجد صعوبة في التماهي كليًا مع إيران».
غير أن هذا التحليل، ربما، فاتته نقطة أساسية. ففي العراق هناك شعور بأن الشيعة كونهم يشكلون غالبية عددية من سكان البلاد فإنهم سيتولون السلطة فيها حتمًا ذات يوم. أما في حالة لبنان فإن شيعة لبنان وإن كانوا أكبر طائفة في البلاد فإنه ليس بمقدورهم فرض سلطتهم من دون دعم قوة خارجية، هي في هذه الحالة إيران.
في مطلق الأحوال، عجزت إيران دائمًا عن تحويل «فيلق بدر» إلى نسخة أخرى عن «حزب الله» بتبعيته المطلقة لها. بل لقد كانت جماعة الخميني قلقة على الدوام من أن يقرر شيعة العراق تحدي إيران كونهم يمثلون «قلب» الوجود الشيعي. وتأكد هذا القلق إلى حد ما بعد إسقاط صدام، عندما حاول «فيلق بدر» في أعقاب عودته إلى العراق التصرف بشيء من الاستقلالية لبعض الوقت.
ماذا كانت النتيجة؟
ولجأت طهران إلى دعم «جيوش موازية» أخرى، منها «جيش المهدي» بقيادة مقتدى الصدر، وهو رجل دين شاب ينتمي إلى أسرة دينية إيرانية الأصل تعود جذورها إلى مدينة محلات. كذلك أسست طهران فرعًا عراقيًا لـ«حزب الله» للشيعة العرب وآخر للأكراد السنة. مع هذا، تفيدنا التجارب أن أيًا من الميليشيات الشيعية العراقية التي خلقتها إيران ومولتها لم يمحض طهران الولاء المطلق كذلك الذي يمحضه إياها «حزب الله» اللبناني. ولعل هذا ما يفسر ولو جزئيًا تذبذب العلاقات بين أشخاص مثل عمار الحكيم قائد «المجلس الأعلى» ومقتدى الصدر وغيرهما.
ومن ثم، كما توقع كثيرون، فإن «المجلس الأعلى» أعيد توضيبه وإعداده ليكون حزبا سياسيا منفصلاً عن «فيلق بدر». وبعد فترة «استقلال نسبي» عن نفوذ إيران، عاد الآن تحت إشرافها ونفوذها ولكن هذه المرة عبر «فيلق القدس» السيئ الصيت بقيادة الجنرال قاسم سليماني. وبعدما تخلى «فيلق بدر» نظريًا عن سلاحه، فإنه ظل يحتفظ بترسانات لا بأس بها، وبتنظيمات قتالية لا سيما في بغداد والبصرة.
عام 2011 صار واضحًا أن إيران ما عادت بحاجة إلى «حصان طروادة» يخدم مصالحها داخل العراق. ذلك أن حكومة نوري المالكي كانت أكثر من متحمسة لأن تجعل العراق جزءًا من دائرة نفوذ طهران لقاء دعم طهران جناح المالكي السياسي. غير أن ظهور تنظيم داعش والهزة التي أحدثها في العراق غيرا كل الأوضاع، وبالأخص، السهولة المطلقة التي احتل بها مدينة الموصل، موسعًا مناطق احتلاله من الأراضي السورية.
هذا المنعطف كشف أن معركة إيران من أجل الهيمنة ما زالت بعيدة عن الحسم. وكشف أيضًا للمالكي وداعميه في طهران أن الجيش العراقي المعاد تكوينه، والمدرب والمجهز أميركيًا، قد لا يشاطر قادة طهران طموحاتهم. وهكذا، عادت إلى الظهور وبسرعة نظرية مصطفى شمران عن «الجيش الموازي»، وليس فقط في العراق فحسب، بل في سوريا أيضًا، حيث بات ضروريًا تناسي الجيشين النظاميين بناء قوتين مقاتلتين موازيتين.
الجنرال حسين همداني الذي قتل في حلب بشمال سوريا، أخيرًا، كانت هذه مهمته كما أشار في آخر مقابلة أجريت معه. إذ قال إنه عمل على خلق وحدات قتالية موازية «أنقذت (الرئيس) بشار الأسد من الهلاك المحتوم». ومن ناحية أخرى، أنعش ظهور «داعش» أيضًا حظوظ «فيلق بدر»، ففي شتاء 2014 أرسل الجنرال إسماعيل قاآني، نائب سليماني، إلى العراق من أجل بناء «الجيش الموازي».
هنا كانت المشكلة الأساسية تكمن في كيفية تقديم هذا الجيش والتعريف عنه.. فقد لا يرحب الشعب العراقي بفكرة «جيش مواز» لجيشه الوطني تحت إمرة إيرانية. كذلك لا تريد إيران أن تظهر وكأنها في حرب مباشرة مع «داعش»، إذ سبق للقائد العسكري الإيراني بور دستان أن قال إن «طهران وداعش توصلا إلى تفاهم ضمني مؤداه ألا يقترب التنظيم إلى أبعد من 40 كلم من الحدود الإيرانية، وفي المقابل، لن تنشر إيران قواتها بهدف مقاتلة داعش حيث هي في سوريا والعراق».
بكلام آخر، إيران تريد حربًا بالواسطة مع «داعش». وهذا يقضي بوجود قوة عراقية، ستحتاج لبعض الشرعية. وهذا ما وفرته عدة فتاوى لعلماء في النجف على رأسهم آية الله العظمى علي السيستاني.
الجنرال قاآني نجح بسرعة في إنهاض هياكل «فيلق بدر» وتعيين قياديين لوحداته. والقوة الجديدة التي أزيح الستار عنها يوم 15 يونيو (حزيران) 2014 أعيد تسميتها بـ«الحشد الشعبي».
لقد روعي مع القوة الجديدة تحاشي استخدام كلمة «إسلامي-إسلامية» لتحاشي الربط مع «الحرس الثوري». إلا أن السواد الأعظم من قيادات «الحشد الشعبي» ضم من «فيلق بدر»، بما فيها قائده الأعلى هادي العامري، ومعظم هؤلاء القادة يحملون الجنسيتين العراقية والإيرانية.
من جانبه، حرص قاآني على «تسويق» القوة الجديدة، أي «الحشد الشعبي»، على أنه «قوة تمثل عموم العراق»، ولذا جلب إليها شراذم من هنا وهناك بعضها نائم، والبعض الآخر بالكاد موجود على الأرض وصورها على أنها «جبهة موحدة». وبالنسبة لـ«فيلق بدر» جرت الإشارة إليه على أنه أحد مكونات القوة الجديدة، كذلك من المكونات «جيش المهدي» الذي كان من المفترض أنه كان قد حُلّ، ومعه ضمت «كتائب حزب الله - العراق». أما الفصائل الشيعية الأخرى (والمدعومة إيرانيًا) التي ضمها «الحشد الشعبي» فهي: «كتائب الإمام علي» و«كتائب سيد الشهداء» و«صحابة السلام» و«وحدات علي المرتضى».
ولكن لتعزيز الزعم بلا طائفية «الحشد» ضمت إليه جماعات وزمر صغيرة من جماعات شيعية باطنية وما بين 2000 و3000 من «المتطوعين» السنة، جلّهم من عشائر شمال غربي العراق.
لتاريخ اليوم يقدر كثير «الحشد الشعبي» بأكثر بقليل من 120 ألف مجند، ولكن كثرة من المحللين يرون في هذا الرقم مبالغة كبيرة. في أي حال خلال المعارك القليلة التي خاضها «الحشد»، ولا سيما في محيط مدينة تكريت، فإنه كان يقاتل تحت إمرة إيرانية، وما كان بمقدوره حشد أكثر من 10 آلاف مقاتل في أي وقت من الأوقات. وهذا يعني إذا اعتبرت معايير التدوير والتبديل الميداني في الاعتبار فإن عدده قد لا يزيد على 30 ألفًا.
من ناحية أخرى، نظريًا يعمل «الحشد الشعبي» تحت سلطة الحكومة العراقية ممثلة بشخص مستشار الأمن القومي الذي هو عضو في مجلس الوزراء. هذا يعني أن هذا «الجيش الموازي» يخضع لأوامر مباشرة من رئيس الحكومة حيدر العبادي، وتحت رقابة البرلمان.
غير أن الواقع يشير إلى أن معظم قادة «الحشد» الميدانيين هم من قدامى المحاربين المرتبطين بإيران، ومنهم أبو مهدي المهندس (حزب الله العراق) وقيس الخزعلي (عصائب أهل الحق).
إن كلاً من طهران وبغداد تحاول تصوير «الحشد الشعبي» على أنه قوة مؤقتة الهدف منها محاربة «داعش»، إلا أن التاريخ يعلمنا أن «المؤقت» يستمر أحيانًا لفترات طويلة جدًا. وفي هذا خطر كبير على مستقبل العراق.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.