ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

من هو رجل الكرملين الخاص في الشرق الأوسط؟

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}
TT

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

المعارف والخبرات التي تراكمت على مدى عشرات السنين تحدد كثيرا من ملامح شخصية ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي المولج ملفات الشرق الأوسط وموفد الكرملين إلى المنطقة. وحسب المقربين منه والمعجبين بكفاءاته، تكشف الجولات المكوكية التي يواصل القيام بها في مختلف العواصم الأوروبية والعربية في إطار مهمته مبعوثا شخصيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن تفرّد واضح، وقدرات فائقة على الإمساك بكل تلابيب المشكلات التي كانت ولا تزال تؤرق العالم، ومنها ما يهدد بالانفجار. ويقولون إن بوغدانوف لطالما سار على حد السيف لدى محاولات تقريب المواقف انطلاقا من دراسات مستفيضة وإلمام بكل جوانب القضايا موضع البحث، وإدراكا وتداركا لطبيعة الحسابات والتقديرات.
تسلط «الشرق الأوسط» الضوء اليوم على شخصية ميخائيل بوغدانوف، الرجل الذي يتابع أولاً بأول قضايا الشرق الأوسط في العاصمة الروسية موسكو، بصفته نائب وزير الخارجية الروسي المولج إدارة ملفات الشرق الأوسط، والمبعوث الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين إلى المنطقة.
بوغدانوف سياسي ودبلوماسي من مدرسة الدبلوماسيين الذين يقرأون الماضي ليستشرفوا منه أبعاد المستقبل، معتمدين على مؤهلات مهنية رفيعة، وملكات فطرية، ومعايشة طالت لسنوات مع قيادات كثير من البلدان العربية، واستطاع عبر السنين كسب ثقتها واحترامها بفضل إجادته اللغة العربية وإلمامه بالثقافة العربية وعادات شعوب المنطقة وتقاليدها.
قدرة ميخائيل بوغدانوف، تدعمها سيرته الذاتية، فقادته إلى واحد من أبرز المؤسسات التعليمية السياسية في روسيا، ألا وهو «معهد العلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية السوفياتية، في نهاية ستينات القرن الماضي. وهناك عرف وزامل عددًا من أشهر الخبرات الدبلوماسية؛ منهم سيرغي لافروف وزير الخارجية و«عميد» الدبلوماسية الروسية، وكوكبة أخرى من أبرز رجال الدولة والسياسة في روسيا وخارجها.
وما يجدر ذكره أن الرئيس الروسي بوتين عندما تولى مقاليد الحكم قصر مهمته في البداية على منطقة الشرق الأوسط وبلدانها العربية، لكنه سرعان ما ضم إليها أفريقيا بكل مشكلاتها وقضاياها، وهي مهام معقدة تنوء بحملها الجبال. ولعل الرئيس الروسي كان يدرك أن بوغدانوف خير من يضطلع بها، لا سيما أنه خبره جيدًا من خلال متابعة مسيرته قبل أن يقع عليه خيار لافروف، زميل الدراسة وصديق العمر، في عام 2011 لتولي منصب نائب وزير الخارجية المسؤول عن ملف البلدان العربية.

السيرة الشخصية
ولد ميخائيل بوغدانوف في موسكو لعائلة جنرال سوفياتي في 2 مارس (آذار) 1952، وتخرج عام 1974 في «معهد العلاقات الدولية» في موسكو الذي فجر كثيرا من طاقاته. ومن الطريف الذي نجده في سيرة بوغدانوف نشاطه الاجتماعي والرياضي خلال سنوات دراسته في هذا المعهد؛ إذ كان قائدا لفريق منتخب المعهد لكرة السلة، مما يفسر ولعه بمتابعة هذه اللعبة. كذلك كان سنوات فتوته لاعبًا محترفًا في فريق نادي لوكوموتيف في العاصمة موسكو. غير أن مسيرته مع الرياضة انتهت، عند اختياره السير على طريق العمل الدبلوماسي، وإن كان نقل معه إلى مجال الدبلوماسية.. كل المهارات الدقيقة للاعب كرة السلة المحترف.

البداية من اليمن.. ثم لبنان
واستهل بوغدانوف حياته العملية في وزارة الخارجية السوفياتية – قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، طبعًا – من أولى درجات السلم الدبلوماسي عبر العمل ضمن جهاز سفارة بلاده في اليمن. وفي اليمن أمضى ثلاث سنوات جاب فيها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتعرف على كثير من زعماء قبائلها وقياداتها السياسية والحزبية، تسنده إجادته الرفيعة للغتين العربية والإنجليزية، ويفتح له الأبواب إلمامه بجانب كبير من تاريخه، وهو ما يساعده اليوم في حواره مع مختلف أطراف الأزمة الراهنة ولقاءاته المتكرّرة مع الوفود اليمنية من الحكومة ومناوئيها بكل أطيافهم.
ومن جنوب الجزيرة العربية، انتقل بوغدانوف إلى شاطئ المتوسط للعمل في سفارة الاتحاد السوفياتي في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1977، في أوج احتدام الحرب الأهلية، مما كان فرصة جديدة للإلمام بكل جوانب المشكلة اللبنانية. وإلى أن حان موعد عودته إلى جهاز الخارجية السوفياتية في موسكو، كان الاتحاد السوفياتي السابق أخذ يعيش بدايات مرحلة جديدة خطيرة واجهت فيها موسكو مشكلات «الغزو السوفياتي» لأفغانستان وتبعاته. ولمّا كان بوغدانوف ابن جنرال - كما سبقت الإشارة - فلنتوقف برهة هنا لنشير إلى أن «بوغدانوف الأب» ليس إلا الجنرال ليونيد بوغدانوف، الضابط الكبير الذي كان كانت قد أسندت إليه في حينها مهمة الإشراف على ممثلية جهاز أمن الدولة (كي جي بي)، في أفغانستان منذ 1978. ولعل هذا ما قد يكون وراء اهتمام الابن، الذي كان لا يزال دبلوماسيًا فتيًا، بمشكلات العصر وقضايا المنطقة في تلك الحقبة البالغة الحساسية.

8 سنوات «سوريا»
وحقًا، لم يمض وقت طويل حتى عاد ميخائيل بوغدانوف ثانية إلى «بلاد الشام»، ولكن هذه المرة مبعوثًا دبلوماسيًا في سفارة الاتحاد السوفياتي في العاصمة السورية دمشق لفترتين متواليتين؛ الأولى من 1983 - 1989، والثانية من 1991 - 1994. ولعل هذا ما يفسر اليوم الدور المؤثر الذي يلعبه في بحث ومتابعة تفاصيل الموقف والأحداث الجارية في سوريا.. ذلك أنه لما لا يقل عن ثماني سنوات ارتبط بعلاقات شخصية وثيقة مع أبرز نجوم الساحة السياسية الرسمية والحزبية والأوساط الاجتماعية والدينية في كل من سوريا ولبنان، ولم تنقطع علاقاته بها منذ وطأت قدماه أرض ذلك الجزء من المشرق العربي في منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم.
وبعد ذلك، مع ارتقائه سلم المسؤوليات، قيّض له أن يعود إلى جهاز الخارجية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليرأس لمدة سنتين متواليتين أحد أقسام إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن ثم يتولى لأول مرة منصب سفير. ولعل خبرته العميقة بقضايا المنطقة المتشابكة المعقدة، من أهم ما شجّع القيادة الروسية على تعيينه سفيرًا لدى إسرائيل.
والحقيقة أن ميخائيل بوغدانوف لم يكن مقيدًا بحساسيات العمل في دولة مثل إسرائيل، وهي التي كانت شهدت آنذاك تدفقا غير مسبوق لهجرة اليهود من مواطني روسيا وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق وانخراط كثرة منهم في عالم السياسة الإسرائيلية الذي ولجوه من أوسع أبوابه؛ إذ شكل هؤلاء حزبهم «إسرائيل بيتنا» بزعامة ناتان شارانسكي، المنشق اليهودي السوفياتي السابق الذي شغل كثيرا من المناصب الوزارية في إسرائيل، ومعه كثيرون من وجوه تلك الحقبة، مثل أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي، الذي كان هاجر من مولدوفا (مولدافيا) السوفياتية السابقة.

التجربة المصرية
ومن إسرائيل عاد بوغدانوف إلى موسكو مرة أخرى ليرأس إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2002، في توقيت مواكب لبدايات الولاية الرئاسية الأولى لفلاديمير بوتين. وفعلاً، ما إن تولى سيرغي لافروف، صديق بوغدانوف ورفيق عمره وزميل دراسته، منصب وزير الخارجية عام 2004 حتى استقر عليه خياره لإيفاده عام 2005 إلى القاهرة سفيرًا لروسيا لدى مصر، وأول مبعوث لروسيا لدى الجامعة العربية. وفي القاهرة، صال بوغدانوف وجال، وارتبط بعلاقات نسجها بكل حذق وبراعة مع نجوم المجتمع وقيادات الدولة ورموز مصر الأدبية والثقافية والفنية، ناهيك بعلاقاته الوثيقة من كبار رجال الاقتصاد والصناعة في مصر والمنطقة.
ومن ثم انطلق في شتى الاتجاهات، نجمًا متميزًا بين أقرانه من قادة السلك الدبلوماسي الأجنبي، بما يكفل لروسيا استعادة مكانتها المرموقة السابقة، التي كان أصابها بعض الاهتزاز إبان سنوات حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. ولم يكتف بوغدانوف بذلك، بل ألحق ابنه الوحيد بافيل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. ومن واقع متابعته دراسة ابنه الجامعية في القاهرة، أتيحت الفرصة للسفير المحنك للإلمام أيضًا بأجواء الأوساط الشبابية والميول الطلابية، وبالمناهج التعليمية والجامعية لتكتمل الصورة لديه تعززها رؤيته الثاقبة وتجربته العميقة.
وسرعان ما ابتسم له القدر حين كان مع ألكسندر سلطانوف - مبعوث بوتين آنذاك - آخر من التقى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في 10 فبراير (شباط) بعد اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011. ولا نستطيع في هذا المجال فض مكنون ذلك اللقاء، أو الإلمام بتفاصيل ما جرى آنذاك خلف الأبواب المغلقة التي أوصدت دون أي من المصريين حتى من مساعدي الرئيس وجهاز حكمه.
إذن كان ميخائيل بوغدانوف على مقربة من أجواء «25 يناير»، بل ونزل مع صديقه لافروف وزير الخارجية الروسي إلى ميدان التحرير في مارس. ومن ثم تيسر له إعداد لقاء حضره لافروف مع «كوكبة» من القيادات الشبابية لهذه الثورة في مقر إقامته على ضفاف النيل لمحاولة الإلمام بما لا يزال الغموض يكتنف كثيرا من جوانبه. ولذا لم يكن غريبًا أن يكون مرجعًا لمن غمضت عليه في موسكو وخارجها بعض أطياف الصورة.
باختصار شديد؛ ليست منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لميخائيل بوغدانوف «سرًا مدفونًا وراء أقفال سبعة» كما يقال. وننقل على لسانه ما يلي بهذا الشأن: «لقد عكفت على دراسة شؤون هذه المنطقة منذ سبعينات القرن الماضي. كما أنني قبل تولي منصب سفير روسيا لدى إسرائيل، شغلت منصب رئيس قسم إسرائيل وفلسطين في عام 1989، وهو القسم الذي أسس لأول مرة لدى إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». ومن اللافت أن هذه الإدارة كان يترأسها آنذاك غينادي تاراسوف، الذي اختاره وزير الخارجية السوفياتي – آنذاك إدوارد شيفارنادزه – ليكون أول سفير للاتحاد السوفياتي لدى السعودية بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية معها في عام 1990.
ومن الطريف في هذا الشأن أن تاراسوف، الذي عاد إلى موسكو بعد انتهاء مهمته في الرياض ليرأس إدارة الصحافة والإعلام ويغدو المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية، أوفدته موسكو ليكون بديلا لبوغدانوف لدى إسرائيل بعد انتهاء مهمة الأخير هناك في عام 2002.
عودة إلى ميخائيل بوغدانوف، لنشير إلى أن السفراء العرب في موسكو سعدوا كثيرًا بعدما ذاع نبأ عودته إلى جهاز الخارجية الروسية، وذلك لأنه كان ولا يزال قريبًا إلى الجميع؛ إذ لم يكن يتاح لكثيرين منهم التردد على الطابق الخامس في مبنى الخارجية الروسية حيث مكتب نائب الوزير المسؤول عن العلاقات مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كذلك اتسمت علاقة بوغدانوف بعدد من الصحافيين بـ«صداقة شخصية» امتدت في بعض الحالات لسنوات طويلة خلت. وفي شهادة لأحد كبار المراسلين العرب في موسكو عن بوغدانوف، قال: «لم يبخل علينا يوما بمعلومة أو إجابة عن تساؤل أو سؤال. لقد كان ولا يزال دوما في متناول الأسئلة والتساؤلات، واللقاءات إذا أتاح له جدول حِلّه وترحاله ذلك. وأستطيع أن أجزم أن بوغدانوف يبدو، بما يملكه من خصال رائعة فضلاً عن موضوعية الدبلوماسي القدير والخبير بشؤون المنطقة وناسها، الشخص المؤهل ليشغل في العقول والقلوب مكانة ذلك الذي رحل عنا بالأمس القريب، يفغيني بريماكوف، أفضل من خبر قضايانا ومنطقتنا على مدى عشرات السنين».
وفي الواقع، يتمتع بوغدانوف بثقافة موسوعية مدهشة، وذاكرة تتسع لأدق التفاصيل؛ فهو على سبيل المثال، يعرف مختلف أسماء قادة وقياديي التنظيمات والفصائل المتناحرة في المنطقة العربية، في سوريا ولبنان واليمن وإسرائيل، وكذلك في إيران وأفغانستان وتركيًا، ولديه إلمام يستحق الإعجاب بكل مسألة عايشها واطلع على تفاصيلها واهتم بمتابعتها على امتداد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما جعله يحتفظ بمكانة متميزة بين أجيال الدبلوماسيين والمستعربين سواء كانوا من روسيا أو غيرها من البلدان، أسهمت فيها أيضًا مرونته وموضوعيته، وهو ما تؤكده جولاته المكوكية في المنطقة العربية والقارة الأفريقية فضلا عن إيران وأفغانستان. وختاما قد لا يليق بهذا الدبلوماسي لقبًا أصدق من اللقب الذي أطلقه عليه أحد عارفيه ومتابعي مسيرته.. وهو: «المبعوث الضرورة في السياق المناسب».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.