«عشاء مع صدام».. ضحك مجاني على الفجيعة العراقية

مسرحية بريطانية تخفق في المصاهرة بين السياسي والكوميدي

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

«عشاء مع صدام».. ضحك مجاني على الفجيعة العراقية

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

اختيار شخصية صدام وقسوته بشكل هزلي موضوعا لنص مسرحي، مسألة جريئة غامر بها الكاتب، لكن المؤلف أنتوني هرووز لم يفلح في تقديري، كما فلح كاتب المسرحية الجادة (إفطار مع موغابي) التي تعرض هذه الأيام على مسرح أركولا في لندن.
ومن المعروف عن هرووز مناصرته لقضايا شعوب العالم الثالث ومناهضته للحرب. وجاء في نصه المسرحي الأخير (عشاء مع صدّام) الذي يقدمه مسرح (مينير جوكليت فاكتري) حتى الرابع عشر من الشهر المقبل، ليبين مواقفه تلك ولكن بطريقته الخاصة التي تقترب من الفارْس (FARCE).. ما الذي يهدف إليه كاتب معروف ومتمكن مثل هرووز، وهو أيضا مؤلف روايات وأفلام ومسلسلات تلفزيونية شهيرة، من اللجوء إلى هذا الجنس الأدبي في مسرحيته؟
كوميديا الفارْس، كما هو معروف، هي نوع من المسرحيات الهزلية التي تهدف إلى تسلية الجمهور عن طريق حركات جسدية مبالغ بها، أو بواسطة كلمات ومفارقات لفظية تخلو من الحصافة والمنطق السليم، وتقترب من السخف والتهريج أحيانا، والخروج على المألوف في الأحداث والمواقف، وعدم أخذ الشيء على محمل الجد، في استسهال متعمد للتضحيك من أجل التضحيك، بعيدًا عن أي بعد فكري وعمق نفسي وسيكولوجي.. وقد عرف هذا النوع في الأدب منذ عصر الإغريق والرومان، وكذلك في فرنسا في القرن الثالث عشر وانتشر منها إلى أوروبا، فاستفاد منه تشوسر في (حكايات كانتربري) وشكسبير في (كوميديا الأخطاء) و(شاعل المصابيح) لديكنز. وواصل انتعاشه في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما زال (يهب للجمهور وقتًا ممتعًا سهلاً في ظل أوقات صعبة ومعقدة)، محققا أرباحا جيدة. بديهي أن انتزاع الضحك هو من مكونات الكوميديا، غير أن فلسفة الإضحاك تسمو بالهزلي من المستوى المبتذل إلى مستوى جمالي فني إنساني، لتغدو من أصعب وأرقى الفنون المسرحية على الإطلاق.
ثمة مواصفات في نص هرووز تنطبق على هذا النوع الأدبي، تتمثل في أحداث لا تطابق الواقع مثل (زيارة صدام ليلة قصف بغداد لتناول الطعام مع العائلة بهدف التمويه، أحاديثه عن نفسه وانفتاحه لناس غرباء، إرسال أحدهم إلى قصر النهاية غير الموجود آنذاك أصلاً..) و(مشهد قتل ووجود جثة على المسرح، غناء وعزف الابنة وأمها لصدام، إرسال الفتاة لمرافقة الرئيس في الطابق العلوي للدار، شرب كل أفراد العائلة العراقية للنبيذ أثناء القصف الأميركي..) و(مماحكات الزوج والزوجة التقليدية، أكلة فسنجون من غير دجاج، وضع سم الفئران بدل البهارات في الطعام، المشي الكوميدي لرب الدار، تمزق بدلته من الخلف عند انحنائه، وضعه في الثلاجة لكيس يحوي غائطًا بشريًا سدّ مجرى دورة المياه، إطلاق خطيب الفتاة لغازات بطن متواصلة وتغوطه في سرواله من الخوف..) هل يندرج هذا ضمن جنس الفارْس الأدبي، وبخاصة في الفصل الأول من المسرحية، أم أن ذلك كان مقصودًا لتوصيف حال واقع مضطرب مليء بالخوف في زمن صدام حسين؟ ربما رمز الكاتب بكل ذلك بكيس الفضلات البشرية الذي أهداه رب الأسرة إلى صدام عند خروجه دون أن يقصد. ولو اعتمدنا هذا التأويل، سنجد أن كاتب النص قد قدم عملا مسرحيا يضاهي بشاعة وسخف الوضع.. ولكن هل يمكن تقديم مأساة كبرى، مثل مأساة العراقيين أثناء حكم صدام حسين، بهذا المستوى المهلل من الملهاة؟
أراد الكاتب لمسرحيته أن تكون مسرحية سياسية ذات طرح خفيف وساخر ومضحك، فمزج الجد والعبث في محاولة لمصاهرة بين السياسي والكوميدي، ولكن مثل تلك المقاربات فشلت في كسب تعاطفنا، ولم تفلح في طرح القضية السياسية والإنسانية التي ما زالت تنتج معاناة وجراحًا تتجدد وتتفاقم كل يوم ما قبل وما بعد الاحتلال أو «التحرير» أو التغيير. هناك عدم فهم من كاتب أجنبي للوضع العراقي، إذا لم نقل فذلكات، ولوي لعنق الحقائق بتناوله لقضية حساسة من خلال «الفارْس» المسرحي المسطح، من دون مراعاة للمرجعية الحضارية والتاريخية والنفسية للعراق والعراقيين.
يتحول هذا الفارْس في الفصل الثاني إلى (ستاير) أو إلى السخرية والهجاء السياسي - الاجتماعي والخطاب الاستعراضي، لتنتهي المسرحية بالإشادة بالشعب العراقي «الذي مرّ بويلات أصعب منذ زمن البابليين فصاعدًا حتى زمن حزب البعث، ومع ذلك تجاوزها وظل قادرًا على الحياة»، كما جاء في النص. فيتخذ المتكلم، رب الأسرة، حينذاك مظهر الرجل الجاد المؤمن بقضية الشعوب، وسرعان ما تقرع كؤوس الشراب مباركة «التحرير» بينما يزداد صوت الانفجارات والقصف الجوي على بغداد.. وهنا يقع المؤلف في تناقض صارخ، فهو يدعو في نصه المسرحي إلى إدانة الحرب وأميركا وبريطانيا، وفي الوقت نفسه يبارك، على لسان إحدى شخصياته، عملية التحرير من حكم صدام ولو بأيديهما. ويزيد المتفرج خيبة إضافية بطرح موضوع الطائفية (سنّة وشيعة) مثلما يشخصها الغرب، كأنها قضية مألوفة وشائعة آنذاك، وهي في الحقيقة لم تكن كذلك، وإنما كانت القضية الأساسية قضية طغيان نادر الوحشية لم يفرق بين طائفة وطائفة.
نعم، تمتلئ قاعة مسرح (مينير جوكليت فاكتري) يوميًا بالمتفرجين الضاجّين بالضحك على الفجيعة العراقية دون قصد، وكذلك بالمصفقّين طويلاً لممثلين مشهورين، يبذلون جهودًا بائنة في الأداء والتمثيل، مثل الممثل المشهور (سانجيف بهاشكار) والمخرج (لندسي بوسنر) ومصمم خلفية المشهد وديكور البيت العراقي (تم شورتول).. ولكن هل نجح النص فنيًا وإنسانيًا؟ للأسف، لا نرى ذلك.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.