ما بين القومية والطائفية.. وقود إشعال نيران التطرف والأصولية

قراءة حول التدخل الروسي في سوريا

طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
TT

ما بين القومية والطائفية.. وقود إشعال نيران التطرف والأصولية

طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)

أعاد التدخل العسكري الروسي في سوريا فتح الباب على مصراعيه للنظر إلى حالة التضاد القومي والصدام الديني التي شغلت العالم لفترات متقطعة عبر التاريخ، لعل آخرها كان إبان الفترة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 في الولايات المتحدة الأميركية. يبدو اليوم وكأن المشهد البشع يكرر نفسه بصورة مقلقة، لا سيما أن احتمالات الصدام قائمة بين القطبين العالميين موسكو وواشنطن. والخوف كل الخوف في هذه الأيام ألا توجد في الأفق بوادر حلول حقيقية، ناجعة وقابلة للحياة.

هل باتت القوميات المتصاعدة والهويات المتنازعة، عطفًا على المذهبيات المتصارعة، مجالاً لإذكاء نيران التطرف والأصولية حول العالم، لا سيما بعدما تداخلت خيوط السياسي مع خطوط الدين والعرقي؟ وهل أضحى العالم رقعة شطرنج، يحاول البعض عليها تحقيق انتصارات كاذبة، حتى ولو كلف الأمر شعوب بأكملها دمارًا وخرابًا، قتلاً وتهجيرًا غير مسبوقين؟
حكما أن مسألة القوميات في حد ذاتها ليست شأنًا طارئًا أو حديثًا، بل أمر يتصل بالتوزيعات الديموغرافية والجيوبوليتيكية للإنسانية منذ بداية الخلق وحتى الساعة، فقد عاش البشر أقوامًا في شرق الأرض وغربها، وتمايز بعضهم عن البعض باللون أو المعتقد أو طريقة العيش. وعليه، فلا مشكلة إطلاقا في أن يسعى المرء لتعزيز الروح الإيجابية للقومية، أما الخطر الفادح فيتصل بالتعصّب الأعمى لقوم، ومنهجية العزل والإقصاء عند آخرين، وصولاً إلى المعادلة الدوغمائية المطلقة التي تنفي الآخر من الحياة ذاتها، وتحرمه منها دفعة واحدة.
ولعل القرآن الكريم قد أشار إلى مسألة القومية بعين ملؤها الإيجابية، حيث لا تمايز بين البشر وبعضهم البعض إلا بالتقوى والعمل الصالح: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13).
المؤكد أن العمليات العسكرية الروسية على الأراضي السورية فتحت الباب واسعًا، ومن جديد، للنظر إلى حالة التضاد القومي، والصدام الديني، التي شغلت العالم لفترات متقطعة عبر التاريخ، ربما كان آخرها في الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. اليوم يبدو وكأن المشهد يعاد إنتاجه وبصورة تدعو إلى القلق الزائد، لا سيما أن احتمالات الصدام القطبي قائمة بين موسكو وواشنطن، من جراء تصادم في الزحام، أو احتكاك في الظلام، وهذا يعني أن الإنسانية ومن جرّاء صراعات عرقية في الأصل والجوهر، وسياسية وعسكرية في المظهر والمنظر، تواجه في مرحلة تطوّرها الراهنة أخطارًا جديدة لا مثيل لها في التاريخ، والخوف كل الخوف من أن تنعدم بوادر حلول.
هل العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، والانطلاق نحو بقية أرجاء المسكونة لا يخلو من انتقام قوميات ومقاصّة عرقيات لما لحق بها من الذلة والمهانة ذات يوم؟
من دون تطويل مُملّ أو اختصار مُخلّ، يرى البعض أن روسيا تحديدًا هي «حجر الزاوية» في الفضاء «الأورو - آسيوي» لهذه الصحوة.. صحوة الهويات القاتلة، الممتزجة بمرارة القوميات التي امتهنت كرامتها في نهاية الثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، غداة تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق.
قبل سنتين تقريبًا تحدث ديمتري روغوزين نائب رئيس وزراء روسيا، على هامش احتفالات الروس بأعيادهم الوطنية، فقال: «إن هذا اليوم يدفع محبي روسيا للعمل معًا وبجهد فائق من أجل جمع حجارة الصخرة السوفياتية المتناثرة». وكتب على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» ما يلي: «ظهر أول شرخ في الصخرة السوفياتية قبل 24 سنة، ثم تساقطت حجارتها.. وحان لنا أن نلتقط هذه الحجارة».
والشاهد أن صحوة القومية الروسية كانت أمرًا تستتبعه حتمًا موجات من المد الأصولي الديني، داخل أرجاء الجمهوريات السوفياتية السابقة. والمثير أنه حدث داخل أتباع الدين الواحد، أي بين المسيحيين وبعضهم بعضًا، وقبل أن يكون التدخّل الروسي في سوريا مدعاة لأحاديث قومية ومذهبية إسلامية. وهو ما يوضح تمامًا أن خطر صعود القوميات والعرقيات وارتفاع صوت الطائفيات والمذهبيات خطرٌ مهدّد للعالم بأكمله لا عربيًا أو إسلاميًا فقط.
إن الناظر إلى المشهد الروسي - الأوكراني يدرك أبعاد الأمر، إذ كان تصادم القوميات هناك مثارًا لصراع أصوليات طائفية مسيحية، مع الأخذ في عين الاعتبار انتماء معظم الروس والأوكرانيين معًا، للمذهب المسيحي الأرثوذكسي. فلقد انطلقت النزعات بين أرثوذكسيي روسيا وأرثوذكسيي أوكرانيا، وشمل الفراق والشقاق لاحقًا البروتستانت والكاثوليك لا سيما في أوكرانيا. وبلغ الأمر ببطريرك الأرثوذكس الأوكراني فيلاريت إلى التنديد بما سماه «العدوان على أوكرانيا» والدعم الذي تقدمه روسيا إلى الإرهابيين والانفصاليين.
وهنا للمرء أن يرى كيف أن النزعة القومية تجاوزت الشراكة الإيمانية، وربما باتت الثانية عاملاً محفّزًا مرة، ومفجّرًا مرات أخر ضد الأولى. ولعل المثير هنا أن البطريرك الأوكراني، الذي دفعته الحماسة القومية لوصف «الروس الأرثوذكس» بـ«الإرهابيين»، قد نسي أو تناسى تحت ضغوط العرق والقومية، أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عملت طوال سبعة عقود كـ«حاضنة» للهوية الروسية القيصرية طوال سبعين سنة من حكم البلاشفة الشيوعيين، وحديثًا، دعمت فلاديمير بوتين في مواجهة الأوليغارشيات المتعددة في الداخل الروسي.
لقد أطلق الصراع القومي الذي يخفي في عباءته تجاذبًا جيو - استراتيجيًا عالميًا بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) حالة من الأصولية الدينية المسيحية المتنامية، التي بلغت حدًا مخيفًا حدا بالانفصاليين الداعمين لروسيا إلى إطلاق النيران على بعض الكنائس الكاثوليكية والاعتداء الجسدي العنيف على القس البروتستانتي سيرغي كوسياك، الذي أقر علانية بتنامي التعصّب الديني في البلاد.
ثمة من يرى أن «قومية» بوتين و«صحوته» على النحو الذي نراه هما في واقع الأمر مدخل سلبي بالمطلق يدعم موجة اليمين الصاعد في أوروبا والمتنامي في أميركا دينيًا وعرقيًا، وأصوليًا ومنهجيًا في فكر الإقصاء.
ويبدو أن ذلك كذلك بالفعل. فاليمين الأصولي المتطرّف في أوروبا اليوم لا يداري أو يواري إعجابه بالرئيس الروسي، بل الأخطر أنه يكاد يغدو رمزًا مقبولاً للفاشية السياسية أو العرقية الجديدة، وكأن آفة أوروبا النسيان. ذلك أن غلاة القوميين اليمينيين يرون في خطاباته الجماهيرية وتوجّهاته السياسية «المثال النموذجي» لازدراء الليبرالية الغربية، وهو ما يؤشر إلى مولد نموذج جديد لسياسة عظمى يقودها حكّام يعملون على استرجاع الماضي التليد لإمبراطورياتهم.
ولا يتوقف «الفيروس الروسي» في واقع الأمر عند حدود أوروبا، بل يعبر المحيط الأطلسي ليجد الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية في حالة جهوزية فكرية لا تخلو من المرض الأميركي التقليدي «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة». ذلك أنهم بينما يكرهون سياسات بوتين ومغامراته ولا سيما الأخيرة في سوريا، فإنهم يستشهدون بشكل روتيني ببوتين كمثال لـ«الزعيم الحقيقي» على النقيض من رئيسهم باراك أوباما الذي يصفه بعضهم بـ«الضعيف» أو «الهزيل».
الناظر بعين الفحص والتمحيص يلحظ أنه منذ انطلاق أول صاروخ روسي على مواقع «داعش» أو غيرها من الجماعات المعارضة السورية المسلحة على الأرض، نظر الرأي العام في منطقة الهلال الخصيب التاريخية - على الأقل، في جانب كبير منه - إلى الأمر على أنه نزعة قومية روسية تحاول الثأر من الماضي الذي لا يموت حتى وإن أشعل هذا الثأر نيران الطائفية. تلك الطائفية التي هي الوقود المثالي للتطرف والأصولية في الحال والاستقبال.
وفي الواقع، يمكن تفكيك المشهد وقراءته على أكثر من صعيد، فالروس - الذين هم الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي السابق - يتطلعون لقلب الموازين على واشنطن، التي كانت سببًا رئيسيًا في البلاء الأعظم الذي حاق بهم، وبالمذلة التاريخية التي أمسكت بتلابيب الإمبراطورية السوفياتية التي انكفأت على ذاتها لعقدين من الزمان. وفي هذا الإطار بدا وكأن جنرالات الحقبة السوفياتية قد وجدوا في المعركة السورية فرصة للقصاص من الذنوب الأميركية والاقتصاص منها لما عانوه.
على أن المشهد وإن كان قوميًا، ويخلو في تقدير بوتين من تبعات أو استحقاقات دينية وطائفية، كان لا بد له من أن ينفجر على الصعيد الطائفي ليذكي من جديد نيران الأصوليات، ويزخم الراديكاليات في سوريا والعراق، وغيرهما من دول الشرق الأوسط. كيف لا وهي التي لا تزال ذاكراتها الجمعية تعي وتحفظ دون نسيان أو تناسي أزمنة الحروب الغربية التي أطلق عليها البعض «حروب الفرنجة» في تدليل واضح على المسحة والهوية القومية، وقال آخرون إنها «الحرب الصليبية» في دلالة لا تخطئها العين على البعد الديني، وكلاهما يشعل أوار المعركة بشكل أو بآخر.
في الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي أجرت قناة «روسيا» التلفزيونية مقابلة حصرية مع الرئيس فلاديمير بوتين ضمن برنامج «سهرة الأحد». وضمن كلام كثير قاله بوتين أشار إلى أنه «بشكل عام، لا تفرّق بلاده بين الشيعة والسنّة، وأن روسيا في سوريا لا تريد بأي حال من الأحوال أن تنجرّ إلى نزاعات دينية»، ودلل بوتين على صحة كلامه بالقول إن «10 في المائة من سكان روسيا يعتنقون الإسلام، وهم مواطنون روس، مثلهم مثل المسيحيين واليهود».. لكن يبدو أن السيف قد سبقه العذل كما يقال، وأن نيران الاشتباكات الدينية كانت قد انطلقت بطريقة أو بأخرى، مما يؤكد المخاوف التي نتحدث عنها في هذا المقال. وحدث ذلك من خلال ما نسب إلى البطريرك كيريل، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، من قوله إن «الحرب الروسية في سوريا حرب دينية هدفها مساعدة مسيحيي الشرق». ومع هذا المنطوق، كان لا بد من النظر إلى المشهد بعين الحرب الدينية. ومع أن المركز الأنطاكي الأرثوذكسي للإعلام في العاصمة اللبنانية بيروت أعاد نشر تصريحات البطريرك كيريل، ودقّق في ترجمتها، ومن ثم أكد بيان صادر من هناك أن «فكر الحرب الدينية لا تشجع عليه الكنيسة الروسية»، ففي الوقت نفسه من غير المسموح أن يبقى أحد غير آبه بمعاناة الشعب السوري.
وعليه، عبّرت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية وعبّر بطريركها «عن الأمل في أن تقود المشاركة الروسية في حل القضية السورية إلى جلب السلام المنتظر للمنطقة»، إلا أن ذلك لم يغيّر من اعتبار البعض التصريحات «محاولة دبلوماسية لتمييع الغزو الصليبي الروسي الديني».
والثابت أيضًا أن هناك التباسًا آخر في المسألة السورية. ذلك أن المشهد لا يتوقّف عند القومية الروسية أو الطائفية الأرثوذكسية فحسب، بل ينسحب كذلك على العرق الفارسي وخلفياته التاريخية الدينية المجوسية، ولهذا اعتبر فريق واسع من أصحاب «المنحنيات الأصولية» أن روسيا بالشراكة مع إيران يمثلان حلفًا «مجوسيًا صليبيًا». وفي رأس هؤلاء يمثل هذا «الحلف» مزيجًا قاتلاً من العدائين القومي والديني لا همّ له ولا غاية سوى العمل على إبادة الإسلام والمسلمين في الشرق الأوسط بدءًا من سوريا.
وكانت الردود، كما هو متوقع، سريعة، ولديها من المبرّرات ما يكفي لإقناع الكثيرين بوجهة النظر الطائفية. في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربية اعتبر البعض، وربما للمرة الأولى، أن باراك أوباما كان على حق حين أشار في خطابه من على منصة الأمم المتحدة إلى أن التدخل الروسي في سوريا «سيذكر العالم الإسلامي بالتدخل والاحتلال السوفياتي السافر قبلاً في أفغانستان»، في نهاية السبعينات. وأنه على هذا النحو «يفتح باب الجهاد الديني والراديكالي واسعًا» ما يعيد إنتاج فكرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تجد لها معينًا وحاضنة فريدة في سوريا اليوم.
ولعل الجرح يتعمّق الآن داخل الإسلام ذاته من جراء التدخل الروسي، إذ وجد تيار من الشيعة «مدخلاً شرعيًا» لإثبات وجوب التدخل الروسي في سوريا، وفي تضامن مع الإيرانيين وبقية الشيعة حول العالم، إذ تم تداول أحاديث كثيرة روّجت لها وسائط التواصل الاجتماعي، ونسبتها إلى بعض أئمة الشيعة قالوا فيها أن بوتين هو حفيد مقاتل نصراني يُدعى «وهب» قاتل مع الحسين ضد يزيد. وأن هناك أحاديث عن أنه من «صلب وهب النصراني هذا سيخرج من ينصر شيعتنا ويجاهد أعداءنا». وبلغ الشطط الفكري والعقائدي عند جماعات متشددة شيعية للقول على موقع «تويتر» أن «وهب الأنصاري اتبع الأمام بعد رؤيته معجزة تدفق البئر من تحت الصخور التي أزالها الحسين، في حين كرّر بوتين مناصرة الشيعة بعدما شاهد صمودهم الأسطوري في وجه (داعش) ومن تحالف مهم».
وفي العراق، جاء الرد سريعًا من قبل مرجع سنّي هو الشيخ عبد الملك السعدي، الذي أشار إلى أن تدخّل إيران وروسيا في العراق «يهدف إلى القضاء على المسلمين من أهل السنّة وتصفيتهم في العراق وسوريا واليمن بذريعة محاربة (داعش) والقضاء على الإرهاب».
ما سبق، في الاتجاهين، من شأنه من دون شكّ تعميق الشرخ الحادث في النسيج الاجتماعي العراقي، المحمول على الوجه الطائفي بين السنّة والشيعة، ويعقّد إلى أبعد حد إمكانية نشوء وارتقاء حالة من السلم الاجتماعي، أو وحدة الكلمة العراقية في مواجهة «داعش». بل أبعد من ذلك أنه يمثل عقبة كؤود في طريق حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق، إن فكر في تكرار تجربة الغارات الروسية في العراق، كما حدث مع سوريا.
حديث المؤامرة يبقى خلف الباب رابضًا متشوقًا لأن يتسيّد على العالم برمته. وعليه لا بد من التساؤل: هل من طرف بعينه حول العالم له مصلحة ما في إذكاء نيران القومية وإشعال فتيل الطائفية داخل روسيا ومن خلالها ليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؟ والقصد: هل من طرف يريد أن يحتوي الصحوة الروسية القومية بدايةً، ويفتتها لاحقًا على صخرة العرقيات والمذهبيات، ويوحلها في أوحال الشرق الأوسط الظلامية من جديد؟ وإذا كان ذلك كذلك لماذا يسمح الروس لمثل هذه المخططات بأن تمضي قدمًا؟
في مطلع أكتوبر الحالي، تحدث ديريك شوليه، كبير مستشاري السياسة الأمنية والدفاعية في «صندوق مارشال» الألماني للولايات المتحدة، وخلال فترة إدارة الرئيس أوباما تولى منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية، فقال عبارة بالغة الدلالة: «لا تلاحقوا بوتين في سوريا لندعه يفشل من تلقاء نفسه».
حقيقة، لا تعنينا الانتصارات الكاذبة لكل منهما، ذلك أن الحصيلة النهائية هي إشعال الشرق الأوسط بالمزيد من نار الأصوليات، وتركها إرث للأجيال المقبلة.
وهنا أقول إنه في مؤلفه القيم «اختلال العالم» يحدثنا الروائي الفرنسي الجنسية - اللبناني الأصل أمين معلوف عن أوهام الانتصارات التي خيّل للغرب أنه أحرزها غداة سقوط «جدار برلين» وانهيار الاتحاد السوفياتي. غير أن حال العالم المختلّ اليوم يبيّن لنا أن ما جرى كان انتصارًا زائفًا.. وأن المعركة لا تزال دائرة. إنها صراع عالمي وقوده القوميات والأديان.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.