ما بين القومية والطائفية.. وقود إشعال نيران التطرف والأصولية

قراءة حول التدخل الروسي في سوريا

طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
TT

ما بين القومية والطائفية.. وقود إشعال نيران التطرف والأصولية

طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)
طائرة سوخوي الروسية لدى هبوطها في مطار حميميم قرب الاذقية (رويترز)

أعاد التدخل العسكري الروسي في سوريا فتح الباب على مصراعيه للنظر إلى حالة التضاد القومي والصدام الديني التي شغلت العالم لفترات متقطعة عبر التاريخ، لعل آخرها كان إبان الفترة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 في الولايات المتحدة الأميركية. يبدو اليوم وكأن المشهد البشع يكرر نفسه بصورة مقلقة، لا سيما أن احتمالات الصدام قائمة بين القطبين العالميين موسكو وواشنطن. والخوف كل الخوف في هذه الأيام ألا توجد في الأفق بوادر حلول حقيقية، ناجعة وقابلة للحياة.

هل باتت القوميات المتصاعدة والهويات المتنازعة، عطفًا على المذهبيات المتصارعة، مجالاً لإذكاء نيران التطرف والأصولية حول العالم، لا سيما بعدما تداخلت خيوط السياسي مع خطوط الدين والعرقي؟ وهل أضحى العالم رقعة شطرنج، يحاول البعض عليها تحقيق انتصارات كاذبة، حتى ولو كلف الأمر شعوب بأكملها دمارًا وخرابًا، قتلاً وتهجيرًا غير مسبوقين؟
حكما أن مسألة القوميات في حد ذاتها ليست شأنًا طارئًا أو حديثًا، بل أمر يتصل بالتوزيعات الديموغرافية والجيوبوليتيكية للإنسانية منذ بداية الخلق وحتى الساعة، فقد عاش البشر أقوامًا في شرق الأرض وغربها، وتمايز بعضهم عن البعض باللون أو المعتقد أو طريقة العيش. وعليه، فلا مشكلة إطلاقا في أن يسعى المرء لتعزيز الروح الإيجابية للقومية، أما الخطر الفادح فيتصل بالتعصّب الأعمى لقوم، ومنهجية العزل والإقصاء عند آخرين، وصولاً إلى المعادلة الدوغمائية المطلقة التي تنفي الآخر من الحياة ذاتها، وتحرمه منها دفعة واحدة.
ولعل القرآن الكريم قد أشار إلى مسألة القومية بعين ملؤها الإيجابية، حيث لا تمايز بين البشر وبعضهم البعض إلا بالتقوى والعمل الصالح: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13).
المؤكد أن العمليات العسكرية الروسية على الأراضي السورية فتحت الباب واسعًا، ومن جديد، للنظر إلى حالة التضاد القومي، والصدام الديني، التي شغلت العالم لفترات متقطعة عبر التاريخ، ربما كان آخرها في الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. اليوم يبدو وكأن المشهد يعاد إنتاجه وبصورة تدعو إلى القلق الزائد، لا سيما أن احتمالات الصدام القطبي قائمة بين موسكو وواشنطن، من جراء تصادم في الزحام، أو احتكاك في الظلام، وهذا يعني أن الإنسانية ومن جرّاء صراعات عرقية في الأصل والجوهر، وسياسية وعسكرية في المظهر والمنظر، تواجه في مرحلة تطوّرها الراهنة أخطارًا جديدة لا مثيل لها في التاريخ، والخوف كل الخوف من أن تنعدم بوادر حلول.
هل العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، والانطلاق نحو بقية أرجاء المسكونة لا يخلو من انتقام قوميات ومقاصّة عرقيات لما لحق بها من الذلة والمهانة ذات يوم؟
من دون تطويل مُملّ أو اختصار مُخلّ، يرى البعض أن روسيا تحديدًا هي «حجر الزاوية» في الفضاء «الأورو - آسيوي» لهذه الصحوة.. صحوة الهويات القاتلة، الممتزجة بمرارة القوميات التي امتهنت كرامتها في نهاية الثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، غداة تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق.
قبل سنتين تقريبًا تحدث ديمتري روغوزين نائب رئيس وزراء روسيا، على هامش احتفالات الروس بأعيادهم الوطنية، فقال: «إن هذا اليوم يدفع محبي روسيا للعمل معًا وبجهد فائق من أجل جمع حجارة الصخرة السوفياتية المتناثرة». وكتب على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» ما يلي: «ظهر أول شرخ في الصخرة السوفياتية قبل 24 سنة، ثم تساقطت حجارتها.. وحان لنا أن نلتقط هذه الحجارة».
والشاهد أن صحوة القومية الروسية كانت أمرًا تستتبعه حتمًا موجات من المد الأصولي الديني، داخل أرجاء الجمهوريات السوفياتية السابقة. والمثير أنه حدث داخل أتباع الدين الواحد، أي بين المسيحيين وبعضهم بعضًا، وقبل أن يكون التدخّل الروسي في سوريا مدعاة لأحاديث قومية ومذهبية إسلامية. وهو ما يوضح تمامًا أن خطر صعود القوميات والعرقيات وارتفاع صوت الطائفيات والمذهبيات خطرٌ مهدّد للعالم بأكمله لا عربيًا أو إسلاميًا فقط.
إن الناظر إلى المشهد الروسي - الأوكراني يدرك أبعاد الأمر، إذ كان تصادم القوميات هناك مثارًا لصراع أصوليات طائفية مسيحية، مع الأخذ في عين الاعتبار انتماء معظم الروس والأوكرانيين معًا، للمذهب المسيحي الأرثوذكسي. فلقد انطلقت النزعات بين أرثوذكسيي روسيا وأرثوذكسيي أوكرانيا، وشمل الفراق والشقاق لاحقًا البروتستانت والكاثوليك لا سيما في أوكرانيا. وبلغ الأمر ببطريرك الأرثوذكس الأوكراني فيلاريت إلى التنديد بما سماه «العدوان على أوكرانيا» والدعم الذي تقدمه روسيا إلى الإرهابيين والانفصاليين.
وهنا للمرء أن يرى كيف أن النزعة القومية تجاوزت الشراكة الإيمانية، وربما باتت الثانية عاملاً محفّزًا مرة، ومفجّرًا مرات أخر ضد الأولى. ولعل المثير هنا أن البطريرك الأوكراني، الذي دفعته الحماسة القومية لوصف «الروس الأرثوذكس» بـ«الإرهابيين»، قد نسي أو تناسى تحت ضغوط العرق والقومية، أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عملت طوال سبعة عقود كـ«حاضنة» للهوية الروسية القيصرية طوال سبعين سنة من حكم البلاشفة الشيوعيين، وحديثًا، دعمت فلاديمير بوتين في مواجهة الأوليغارشيات المتعددة في الداخل الروسي.
لقد أطلق الصراع القومي الذي يخفي في عباءته تجاذبًا جيو - استراتيجيًا عالميًا بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) حالة من الأصولية الدينية المسيحية المتنامية، التي بلغت حدًا مخيفًا حدا بالانفصاليين الداعمين لروسيا إلى إطلاق النيران على بعض الكنائس الكاثوليكية والاعتداء الجسدي العنيف على القس البروتستانتي سيرغي كوسياك، الذي أقر علانية بتنامي التعصّب الديني في البلاد.
ثمة من يرى أن «قومية» بوتين و«صحوته» على النحو الذي نراه هما في واقع الأمر مدخل سلبي بالمطلق يدعم موجة اليمين الصاعد في أوروبا والمتنامي في أميركا دينيًا وعرقيًا، وأصوليًا ومنهجيًا في فكر الإقصاء.
ويبدو أن ذلك كذلك بالفعل. فاليمين الأصولي المتطرّف في أوروبا اليوم لا يداري أو يواري إعجابه بالرئيس الروسي، بل الأخطر أنه يكاد يغدو رمزًا مقبولاً للفاشية السياسية أو العرقية الجديدة، وكأن آفة أوروبا النسيان. ذلك أن غلاة القوميين اليمينيين يرون في خطاباته الجماهيرية وتوجّهاته السياسية «المثال النموذجي» لازدراء الليبرالية الغربية، وهو ما يؤشر إلى مولد نموذج جديد لسياسة عظمى يقودها حكّام يعملون على استرجاع الماضي التليد لإمبراطورياتهم.
ولا يتوقف «الفيروس الروسي» في واقع الأمر عند حدود أوروبا، بل يعبر المحيط الأطلسي ليجد الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية في حالة جهوزية فكرية لا تخلو من المرض الأميركي التقليدي «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة». ذلك أنهم بينما يكرهون سياسات بوتين ومغامراته ولا سيما الأخيرة في سوريا، فإنهم يستشهدون بشكل روتيني ببوتين كمثال لـ«الزعيم الحقيقي» على النقيض من رئيسهم باراك أوباما الذي يصفه بعضهم بـ«الضعيف» أو «الهزيل».
الناظر بعين الفحص والتمحيص يلحظ أنه منذ انطلاق أول صاروخ روسي على مواقع «داعش» أو غيرها من الجماعات المعارضة السورية المسلحة على الأرض، نظر الرأي العام في منطقة الهلال الخصيب التاريخية - على الأقل، في جانب كبير منه - إلى الأمر على أنه نزعة قومية روسية تحاول الثأر من الماضي الذي لا يموت حتى وإن أشعل هذا الثأر نيران الطائفية. تلك الطائفية التي هي الوقود المثالي للتطرف والأصولية في الحال والاستقبال.
وفي الواقع، يمكن تفكيك المشهد وقراءته على أكثر من صعيد، فالروس - الذين هم الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي السابق - يتطلعون لقلب الموازين على واشنطن، التي كانت سببًا رئيسيًا في البلاء الأعظم الذي حاق بهم، وبالمذلة التاريخية التي أمسكت بتلابيب الإمبراطورية السوفياتية التي انكفأت على ذاتها لعقدين من الزمان. وفي هذا الإطار بدا وكأن جنرالات الحقبة السوفياتية قد وجدوا في المعركة السورية فرصة للقصاص من الذنوب الأميركية والاقتصاص منها لما عانوه.
على أن المشهد وإن كان قوميًا، ويخلو في تقدير بوتين من تبعات أو استحقاقات دينية وطائفية، كان لا بد له من أن ينفجر على الصعيد الطائفي ليذكي من جديد نيران الأصوليات، ويزخم الراديكاليات في سوريا والعراق، وغيرهما من دول الشرق الأوسط. كيف لا وهي التي لا تزال ذاكراتها الجمعية تعي وتحفظ دون نسيان أو تناسي أزمنة الحروب الغربية التي أطلق عليها البعض «حروب الفرنجة» في تدليل واضح على المسحة والهوية القومية، وقال آخرون إنها «الحرب الصليبية» في دلالة لا تخطئها العين على البعد الديني، وكلاهما يشعل أوار المعركة بشكل أو بآخر.
في الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي أجرت قناة «روسيا» التلفزيونية مقابلة حصرية مع الرئيس فلاديمير بوتين ضمن برنامج «سهرة الأحد». وضمن كلام كثير قاله بوتين أشار إلى أنه «بشكل عام، لا تفرّق بلاده بين الشيعة والسنّة، وأن روسيا في سوريا لا تريد بأي حال من الأحوال أن تنجرّ إلى نزاعات دينية»، ودلل بوتين على صحة كلامه بالقول إن «10 في المائة من سكان روسيا يعتنقون الإسلام، وهم مواطنون روس، مثلهم مثل المسيحيين واليهود».. لكن يبدو أن السيف قد سبقه العذل كما يقال، وأن نيران الاشتباكات الدينية كانت قد انطلقت بطريقة أو بأخرى، مما يؤكد المخاوف التي نتحدث عنها في هذا المقال. وحدث ذلك من خلال ما نسب إلى البطريرك كيريل، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، من قوله إن «الحرب الروسية في سوريا حرب دينية هدفها مساعدة مسيحيي الشرق». ومع هذا المنطوق، كان لا بد من النظر إلى المشهد بعين الحرب الدينية. ومع أن المركز الأنطاكي الأرثوذكسي للإعلام في العاصمة اللبنانية بيروت أعاد نشر تصريحات البطريرك كيريل، ودقّق في ترجمتها، ومن ثم أكد بيان صادر من هناك أن «فكر الحرب الدينية لا تشجع عليه الكنيسة الروسية»، ففي الوقت نفسه من غير المسموح أن يبقى أحد غير آبه بمعاناة الشعب السوري.
وعليه، عبّرت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية وعبّر بطريركها «عن الأمل في أن تقود المشاركة الروسية في حل القضية السورية إلى جلب السلام المنتظر للمنطقة»، إلا أن ذلك لم يغيّر من اعتبار البعض التصريحات «محاولة دبلوماسية لتمييع الغزو الصليبي الروسي الديني».
والثابت أيضًا أن هناك التباسًا آخر في المسألة السورية. ذلك أن المشهد لا يتوقّف عند القومية الروسية أو الطائفية الأرثوذكسية فحسب، بل ينسحب كذلك على العرق الفارسي وخلفياته التاريخية الدينية المجوسية، ولهذا اعتبر فريق واسع من أصحاب «المنحنيات الأصولية» أن روسيا بالشراكة مع إيران يمثلان حلفًا «مجوسيًا صليبيًا». وفي رأس هؤلاء يمثل هذا «الحلف» مزيجًا قاتلاً من العدائين القومي والديني لا همّ له ولا غاية سوى العمل على إبادة الإسلام والمسلمين في الشرق الأوسط بدءًا من سوريا.
وكانت الردود، كما هو متوقع، سريعة، ولديها من المبرّرات ما يكفي لإقناع الكثيرين بوجهة النظر الطائفية. في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربية اعتبر البعض، وربما للمرة الأولى، أن باراك أوباما كان على حق حين أشار في خطابه من على منصة الأمم المتحدة إلى أن التدخل الروسي في سوريا «سيذكر العالم الإسلامي بالتدخل والاحتلال السوفياتي السافر قبلاً في أفغانستان»، في نهاية السبعينات. وأنه على هذا النحو «يفتح باب الجهاد الديني والراديكالي واسعًا» ما يعيد إنتاج فكرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تجد لها معينًا وحاضنة فريدة في سوريا اليوم.
ولعل الجرح يتعمّق الآن داخل الإسلام ذاته من جراء التدخل الروسي، إذ وجد تيار من الشيعة «مدخلاً شرعيًا» لإثبات وجوب التدخل الروسي في سوريا، وفي تضامن مع الإيرانيين وبقية الشيعة حول العالم، إذ تم تداول أحاديث كثيرة روّجت لها وسائط التواصل الاجتماعي، ونسبتها إلى بعض أئمة الشيعة قالوا فيها أن بوتين هو حفيد مقاتل نصراني يُدعى «وهب» قاتل مع الحسين ضد يزيد. وأن هناك أحاديث عن أنه من «صلب وهب النصراني هذا سيخرج من ينصر شيعتنا ويجاهد أعداءنا». وبلغ الشطط الفكري والعقائدي عند جماعات متشددة شيعية للقول على موقع «تويتر» أن «وهب الأنصاري اتبع الأمام بعد رؤيته معجزة تدفق البئر من تحت الصخور التي أزالها الحسين، في حين كرّر بوتين مناصرة الشيعة بعدما شاهد صمودهم الأسطوري في وجه (داعش) ومن تحالف مهم».
وفي العراق، جاء الرد سريعًا من قبل مرجع سنّي هو الشيخ عبد الملك السعدي، الذي أشار إلى أن تدخّل إيران وروسيا في العراق «يهدف إلى القضاء على المسلمين من أهل السنّة وتصفيتهم في العراق وسوريا واليمن بذريعة محاربة (داعش) والقضاء على الإرهاب».
ما سبق، في الاتجاهين، من شأنه من دون شكّ تعميق الشرخ الحادث في النسيج الاجتماعي العراقي، المحمول على الوجه الطائفي بين السنّة والشيعة، ويعقّد إلى أبعد حد إمكانية نشوء وارتقاء حالة من السلم الاجتماعي، أو وحدة الكلمة العراقية في مواجهة «داعش». بل أبعد من ذلك أنه يمثل عقبة كؤود في طريق حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق، إن فكر في تكرار تجربة الغارات الروسية في العراق، كما حدث مع سوريا.
حديث المؤامرة يبقى خلف الباب رابضًا متشوقًا لأن يتسيّد على العالم برمته. وعليه لا بد من التساؤل: هل من طرف بعينه حول العالم له مصلحة ما في إذكاء نيران القومية وإشعال فتيل الطائفية داخل روسيا ومن خلالها ليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؟ والقصد: هل من طرف يريد أن يحتوي الصحوة الروسية القومية بدايةً، ويفتتها لاحقًا على صخرة العرقيات والمذهبيات، ويوحلها في أوحال الشرق الأوسط الظلامية من جديد؟ وإذا كان ذلك كذلك لماذا يسمح الروس لمثل هذه المخططات بأن تمضي قدمًا؟
في مطلع أكتوبر الحالي، تحدث ديريك شوليه، كبير مستشاري السياسة الأمنية والدفاعية في «صندوق مارشال» الألماني للولايات المتحدة، وخلال فترة إدارة الرئيس أوباما تولى منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية، فقال عبارة بالغة الدلالة: «لا تلاحقوا بوتين في سوريا لندعه يفشل من تلقاء نفسه».
حقيقة، لا تعنينا الانتصارات الكاذبة لكل منهما، ذلك أن الحصيلة النهائية هي إشعال الشرق الأوسط بالمزيد من نار الأصوليات، وتركها إرث للأجيال المقبلة.
وهنا أقول إنه في مؤلفه القيم «اختلال العالم» يحدثنا الروائي الفرنسي الجنسية - اللبناني الأصل أمين معلوف عن أوهام الانتصارات التي خيّل للغرب أنه أحرزها غداة سقوط «جدار برلين» وانهيار الاتحاد السوفياتي. غير أن حال العالم المختلّ اليوم يبيّن لنا أن ما جرى كان انتصارًا زائفًا.. وأن المعركة لا تزال دائرة. إنها صراع عالمي وقوده القوميات والأديان.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».