الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون
TT

الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون

مع صعود الحركات الأصولية، بتنوعاتها واتجاهاتها المختلفة، صعدت مسألتها في الفكر العربي المعاصر ومشاريعه التجديدية، كأولوية تتقدم حتى على التأسيس للنهضة أو التمكين لها، كون الأصولية تمثل إعاقة عميقة للنهضة والحداثة أولا، ليس فقط على مستوى الحقوق الإنسانية (حقوق المرأة وحقوق الأقليات) بل على مستوى المؤسسات في إصرار بعض اتجاهاتها العنيفة على الانقلاب وابتلاع الدولة، وهو ما لم يشفها منه انتكاساتها ولا متتابعة غلوائها وقتالها بعضها بعضا، ولا ثورات ما عرف بالربيع العربي الذي انتهى خريفا!
نشط الكثير من مفكرينا في قراءة الأصوليات، بدءا من ناصيف نصار الذي سطر فيها كتابه «من التفكير إلى الهجرة: نحو سبيل لنهضة عربية ثانية» وكتب فهمي جدعان عددا من الدراسات والكتب في هذا الاتجاه، وقد انفرد باهتمام خاص بالسلفية وتحديد ملامحها وهويتها، كما درسها علي أومليل في «الإصلاحية والدولة الوطنية» ووضع الراحل عابد الجابري كتابا لدراستها، وأكثر من الاهتمام بها بالخصوص رضوان السيد في «الصراع على الإسلام» وقبله في «سياسات الإسلام» عادل ضاهر في «أولية العقل» وأصدر عبد الجواد يس مؤخرا الجزء الأول من كتابه «الدين والتدين» واهتم بها نقديا عبد الحميد الأنصاري والراحل أحمد البغدادي في الخليج، وغيرهم كثيرون.
لنا ملاحظتان على تعاطي الفكر العربي المعاصر في تقييمه لدراسات الحركات الإسلامية في العالم، تعيق تأثير الحداثة الفكرية وقيمها وتبقيها فوقية غير ملتحمة ميدانيا مع طرح التطرف، وإن كان المثقفون لا يتحملون مسؤولية ذلك وحدهم ولكن السياسات الثقافية والإعلامية في المقام الأول، وإلى الملاحظتين:
1 - اهتمامه بالنقد البراني دون الجواني لخطاب هذه الحركات في الغالب، وأنه لم يلتحم بغير خطاب الإخوان والقطبية في الأغلب الأعم، دون التحام نقدي حقيقي بالحركات العنفية والجهادية بالخصوص، بدءا من الجماعات الجهادية القطرية وصولا لـ«القاعدة» و«داعش».
2 - غلبة النقد غير المباشر عبر الاهتمام بالآيديولوجيا ونقدها، أو الاهتمام بالتراث الكلامي والفلسفي دون الفقهي - ربما باستثناء رضوان السيد وفهمي جدعان - مما جعل المنازلة الفكرية نظرية وغير ملتحمة بنقد هذه الحركات الحديثة نسبيا.
خصص المفكر الكبير الراحل محمد أركون (1 فبراير/ شباط 1928 - 13 سبتمبر/ أيلول 2010) جزءا من كتابه «أين الفكر الإسلامي المعاصر» الصادر أوائل التسعينات لمناقشة دراسات الحركات الإسلامية، وقد ظلت الملاحظتان، وإن ألح على ضرورة تفكيك البنى الخطابية لهذه التيارات والالتحام بها نقديا وقراءة ظاهرة الأصولية أفقيا في ضوء التاريخ الأصولي العالمي، ورأسيا في تكرار ظواهرها وتمثلاتها في التاريخ الإسلامي.
ونتفق مع أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية، دون هذا الالتحام النقدي والفكري، حيث يصنع ما يسميه «الامتثالية الثقافية» بمعنى عدم مناقشة مقولاتها وأفكارها والاكتفاء بأخبارها، استخدام طريقة الصحافي الوصفية والسردية والإخبارية دون طريقة الفقيه والناقد البنيوي.
ويضرب أركون مثالا على ذلك بكتاب جيل كيبل «انتقام الله» وأنه ترجم لتسع عشرة لغة أوروبية، منذ صدوره في سبتمبر 1991 ونال اهتماما إعلاميا كبيرا رغم أنه لا يحمل أي جديد إعلامي كما يشير أركون.
يمكننا اختزال مشكلة دراسة الحركات الإسلامية الحالية في اهتمامها بالأخبار لا بالأفكار، وبالتنظيمات أكثر من التنظيرات، وبالممارسات أكثر من الأسس النظرية لها، ورغم غزارة ما كتب عن قادة هذه التنظيمات بدءا من جماعات الجهاد القطري لـ«القاعدة» وزعيمها الراحل وصولا لـ«داعش» وخليفتها المزعوم لا نجد مثل هذا الاهتمام بأدبياتها ومطوياتها ورسائلها المطبوعة والمنشورة ونقدها النظري والشرعي، الذي كثيرا ما يأتي من خارجها منفصلا عنها وغير محاجج لها.
يرى أركون أن ما واجهته الحداثة العربية التي بزغت في أخريات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، تشبه تلك التي حدثت في أوروبا المسيحية أثناء عصر التنوير، وقد تعاطى الإسلام مع الحداثة كما تعاطت الحداثة عبر طريقين: إما أسلمة المعايير والقيم الحداثية أو الصراع الحاد معها، ولكن هذا الصراع الحاد كان أقوى في الإسلام لعدد من العوامل يحددها أركون فيما يلي:
1 - العامل السكاني والديموغرافي: فقد تضاعف عدد المسلمين خلال خمسة وثلاثين عاما بنسبة بين 60 في المائة إلى 70 في المائة، وخلال ثلاثين عاما بعد الاستقلال منتصف القرن المنصرم كانت الزيادة السكانية بنسبة ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف! فعدد سكان المغرب مثلاً أو الجزائر لم يكن يتجاوز الستة أو سبعة ملايين عام 1950 فأصبح الآن أكثر من ثلاثين مليونا، وأما مصر فقد أصبحت سبعين مليونا أوائل التسعينيات. ولم تكن الدول ولا الاقتصادات ولا المجتمعات مهيأة لاستقبال هذه الأجيال الغزيرة من الشبيبة المتحمسة.
2 - الحداثة الأوروبية قرون وحداثة المسلمين عقود: يرى أركون أنه مما زاد من أزمة النهضة العربية الحديثة أنه بينما نضجت الحداثة الغربية عبر ثلاثة أو أربعة قرون، قد توترت الحداثة الإسلامية والعربية في عقود قليلة، أربعة أو خمسة، منذ توترت فيها علاقتها مع الغرب الذي رأته حديثا كما رأته مستعمرا وكذلك مع الذات بعد أن انقطعت تاريخيا عن الإسلام الكلاسيكي بين القرنين الأول والسادس الهجري، ويرى أركون أن هذه النقطة تمثل «إحدى أكبر نقاط الضعف الخاصة بكل الأدبيات الصحافية والسياسية بل وحتى السوسيولوجية المرتكزة على الحركات الإسلامية الحالية».
3 - افتقاد الجهاز الفكري للحداثة: يشير أركون أن الفكر الإسلامي المعاصر يفتقد الجهاز الفكري والمصادر والإمكانات الثقافية والعلمية للحداثة، بينما شجعت عليها الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الفاتحة وفلسفة حقوق الإنسان في الغرب.
ويرى أركون أن هذا أنتج عربيا صرخات انفعال وعنفا هائجا ورفضا مسعورا لخطاب الإسلاموية المعاصرة، ولكن دون خطاب نقدي وجذري قادر على إزاحتها، لبعثرة ممثليه الحقيقيين وفقدانه الأطر والقواعد الاجتماعية القادرة على التعبئة التي يمتلكها الإسلاميون.
4 - ترييف المدن وتحويل الفلاحين لبروليتاريا: يرى أركون أن تحويل الفلاحين والبدو إلى بروليتاريا رثة في المدن التي تعشعش فيها الفوضى وازدحام السكان، ثم الطلاق الكائن بين الدولة والمجتمع المدني والهيمنة الشمولية للحزب الواحد تشكل علامات على حصول وتفاعلات غير مسيطر عليها.
من النقاط المهمة كذلك التي يلح عليها الراحل محمد أركون هو وجود متخيل ديني مشترك بين مختلف الحركات الأصولية، اليهودية والمسيحية والإسلامية على السواء، مجتمعات الكتاب كما يسميها، وأنه ليس الإسلام حالة خاصة في ذلك، إلا بالمعنى السوسيولوجي والثقافي والاقتصادي ليس غير.
يستخدم أركون في مقاربته المنهجية التي لم تستمر لدراسة الحركات الإسلامية عددا من المفاهيم التي تفيد البحث الراهن في هذا المجال، ويمكننا أن نشير لثلاثة منها:
1 - مفهوم «المتخيل»: وهو المفهوم القادم من حقل الأنثروبولوجي أحد المفاهيم المهمة التي يستخدمها أركون وينتقد عدم استخدام الاستشراق الأنثروبولوجي المعاصر له، فالإنسان لا تسيره فقط الحوافز المادية والاجتماعية والاقتصادية ولكن تسيره أيضا الصور الخيالية واليوتوبيات التي يؤمن بها وباستعادتها.
2 - مفهوم الدين والتدين أو التأسيس والآيديولوجيات الفرعية: حسب مصطلحات فوكو، عبر تفريقه بين مستوى القرآن ومستوى التركيبات الكلامية والفقهية والتفسيرية التأويلية له، فينزع عنها احتكار المقدس، وهو ما كثر استخدامه بتعبيرات مختلفة من عدد من الباحثين والمفكرين العرب الآخرين، ويدعو في ذلك للاستفادة من مخرجات تاريخ الأديان المقارن وتاريخ الأصوليات المقارنة.
3 - مفهوم مجتمعات أم الكتاب: حيث يرى أركون أن هناك متخيلا مشتركا لكل المجتمعات المشكلة من تراث الكتب السماوية أو الكتاب الموحى، فالتوراة والأناجيل والقرآن كتب كونية أدخلت رؤيا ما عن التـأله وعن مكانة الإنسان وعلاقته بإله حي متعال، وعممتها وحملتها ثقافات كبرى، بلورتها تدينا وقوانين فقهية مثلت فيما بعد «قاعدة ارتكازية من أجل التوسع الآيديولوجي للحق، وبالتالي من أجل تشكل وانتشار المتخيلات الاجتماعية ضمن خط الأصولية والتزمت».
حيث تحول الأصولية ويستهدف خطابها تحويل الخطاب الديني المفتوح، والمتعدد الدلالات والاتجاهات، إلى أصل لكل قانون صحيح يوجه البشر في دنياهم وأخراهم، وينزع ممثلوها نحو التمامية أي المحافظة على نزاهة الوحي وشموليته وبلوغهم درجة التطابق معه أو مع ما يتصورونه هو. ومن الرؤى التفسيرية التي يطرحها أركون أن العلمانية الديكتاتورية تنتج مع الوقت أصوليات منغلقة، ومثل لذلك بأربعة نماذج، هي نموذج الدولة والآيديولوجية الناصرية (1954 - 1970) ونموذج الدولة وآيديولوجيا جبهة التحرير الوطني (1962 - 1991) ونموذج الدولة والآيديولوجيا البعثية في العراق وسوريا (1968 - 1991) ونموذج الثورة الخمينية على نظام الشاه سنة 1979.
ويشير أركون: «إن فرحة الظفر باستعادة السيادة والاستقلال السياسي والآمال التي علقها البشر على (الدولة - الوطن - الحزب الواحد) قد فعلت فعلها في الجماهير بواسطة الموضوعاتية الإسلامية والشعارات الإسلامية، بعد الفشل الكبير الذي حدث في نكسة 1967». ويضيف عن الحالة الخومينية أن الإيرانيين قد وجدوا في سيرة النبي والأئمة وما حملته الشعاراتية الخومينية سبيلا لحقوق الإنسان وتحقيق آمالهم بعيدا عن الدولة التي أهملتهم وفشلت في تحقيق وعودها لهم.
ويربط أركون بين التصورات التاريخية المثالية المشتركة بين القوميين الذين حكموا في فترات ما بعد الاستقلال والحركات الأصولية التي صعدت وتسعى للحكم على أنقاضهم! فكلاهما يمتلك رؤيا متزمتة تفترض في مجال الثقافات والحضارات وجود استمرارية تاريخية تمجدها وتنفي أي نقص عنها، دون تمحيص علمي للوقائع التي تكذب هذه الصورة المتخيلة للماضي المراد إسقاطه على الواقع، وهو ما يمثل الرأسمال الرمزي لهذه الحركات التي تستثمر فيه وتوظفه، حسب تعبير أركون الذي اقتبسه عن بيير بورديو.
ونحت أركون مصطلح الحركات التمامية للتعبير عن طموح الأصوليات الدينية للتوصل إلى إسلام العصر التأسيسي (610 - 632-661 ميلادية) بتماميته وكليته، وقد أجاد مترجمه الأستاذ هاشم صالح نحت هذا المصطلح تعبيرا عن ذلك، وهو تعبير مناسب جدا لبعض الحركات الأصولية غير السياسية التي تحاول التمام عبر سلوكيات وشكليات في تفاصيل حياتها من مأكل وملبس تتماهى فيها مع المثال التاريخي بالخصوص.
طور «داعش» وجهود الفكر العربي:
بعيدا عما ألح عليه أركون من ضرورة الالتحام النقدي والفكري مع الظاهرة الأصولية العربية، واختلافنا معه أن كثيرا منها جاء مع تناقض الاستعمار والحداثة في الوعي العربي، حيث نراها منتجا انفعاليا لسقوط ما يسمى «الخلافة» سنة 1924 وتراجع الحضور العربي والإسلامي واستنفارها الهوياتي ثم الحركي في مواجهة أخطار سياسية ودينية - تبشير وما شابه - مصبوغا بحلم وحدوي قديم وجديد وراهن رأوا في الخلافة وسيطا محتملا لتحققه.. إلا أننا نرى أن ما طرحه أركون وما طرحه غيره من المفكرين سواء القادمين من خلفية كلامية أو فقهية في غاية الأهمية في القراءة المعاصرة لحركات العنف الديني والسلفية الجهادية لخطورة ما تطرحه وما تستند إليه من مقولات تراثية، فهي سلفية المصدر جهادية المنهج، وليست كلامية أشعرية كما كانت حركات الإسلام السياسي، مما يستعيد وبقوة أهمية التراث وقراءته في الالتحام معها، بعيدا عن الترويج التسطيحي والسجالي معها فقط.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».