إدغار ألن بو.. الموت من قلة الشعر

يعرض في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من السنة الحالية فيلم متحرك بعنوان «حكايا استثنائية» مُستلهم من قصص بو القصيرة، ويهدف هذا إلى تقديم أدب إدغار ألن بو إلى الجيل الجديد بطريقة عصرية.
«لوس أنجلوس تايمز»: «يجسد إدغار ألن بو في أعماله بشكل مميز التوتر في المجتمع الأميركي، بين النزعة الجماهيرية والنزعة الأدبية، بين ما يحدث على السطح وما يحدث في الخفاء».
رحل إدغار ألن بو عن عالمنا قبل 166 سنة لكن من الصعب نسيان إبداعه الأدبي أو حياته الحزينة أو حتى موته المحير، يومًا ما.
«لا يزال الغراب في غرفتي/ مهما توسلت ليس ثمة كلمات تسترضيه ليس ثمة دعاء للتخلص منه/ حيث توجب علي سماعه إلى الأبد».
إدغار ألن بو
كان الجو ماطرًا في الثالث من أكتوبر عام 1849 لكن ذلك لم يمنع جوزيف دبليو ولكر، العامل في مطبعة، من الخروج من بيته متوجهًا إلى مركز للاقتراع للإدلاء بصوته، حين عثر على رجل يهذي وبحالة مزرية ملقى على رصيف بالقرب من مركز الاقتراع. كان الرجل يرتدي ملابس رثة، نصف فاقد للوعي وغير قادر على تفسير كيف انتهى إلى هذه الحالة. نُقل هذا الرجل إلى أحد المستشفيات حيث قضى أربعة أيام متأرجحًا بين نوبات الهذيان والهلوسات البصرية وهو ينادي بكلمة واحدة هي «رينولد». وجاء تقرير المستشفى بعد ذلك كالآتي: «تم التعرّف على الرجل المجهول والمتسكع الذي مات على حافة الطريق، إنه الشاعر إدغار ألن بو».
غادر إدغار ألن بو مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا قبل ذلك بخمسة أيام، في طريقه إلى مدينة فيلادلفيا ولحد الآن لا يوجد أي تفسير لوجوده في مدينة بالتيمور. مات بعمر الأربعين 7 من أكتوبر، بعد سنتين من موت زوجته وحبيبته فيرجينيا إثر إصابتها بمرض السل، المرض ذاته الذي توفيت به أمه وهو بعمر السنتين.
هناك عدة نظريات لتفسير موته الغامض. يعتقد البعض إنه قُتل من قبل عصابة تستغل بعض الناس الوحيدين للتصويت عدة مرات لمرشح واحد بعد أن يبدلوا ملابسهم ويفقدوهم الوعي بالخمر والضرب المبرح، والبعض الآخر يعزي السبب إلى تناول الكحول المفرط أو إلى أمراض معينة مثل داء الكلب أو الإنفلونزا. وسوف يبقى سبب موت إدغار ألن بو غامضًا وملتبسًا، كأن موته قصة أخرى رتبها بنفسه لتليق بنهاية كاتب كان له الفضل في اجتراح أدب الرعب والقصص البوليسية.
موته الملتبس كما توتره وكآبته وقلقه ومواهبه الخارقة التي شكلت شخصيته الإبداعية المغايرة، التي لم يفلح الدارسون حتى اليوم في تفكيك كل ألغازها وفي دخول كل سراديبها. ظل علامة التجديد والابتكار في الأدب الأميركي، ومثالاً على عراك لا يهدأ مع الهواجس والوجود. وصفه البعض بأنه أغرب شخصية في تاريخ أميركا الشعري والأدبي، وستبقى قصائده ترتل آلامه ومعاناته. الملايين في أميركا وبقية العالم قرأوا قصصه القصيرة مثل «جريمة قتل في المشرحة» و«الحشرة الذهبية»، كما أن قصيدته الغراب وأنابيلا لي، وبقية أعماله الأدبية ما زالت تحظى بشهرة وجاذبية بين القراء أينما كانوا.
عام 2014 أقامت له بلدية مدينة بوسطن، وهي مسقط رأسه، تمثالاً بالحجم الطبيعي، يتوسط تقاطع شارعين في مركز مدينة بوسطن، التمثال يجسد إدغار ألن بو وهو يرحل عن بوسطن (لأنه كان يكره البقاء فيها)، فاتحًا معطفه للريح مثل يده حاملاً حقيبة مفتوحة يطير منها غراب بحجم أكبر من الطبيعي وخلفه يترك كتبه وقلبه مقطوع الشرايين والأوردة، التمثال من تصميم النحات ستيفن روكناك.
مدينة بوسطن ليست وحدها التي احتفت وكرمت إدغار ألن بو، فقد أقامت له مدينة ريتشموند، حيث تربى بعد موت والديه، متحفًا افتتح عام 1922، كذلك فعلت مدينة فيلادلفيا، حيث أقام عدة سنوات، متحفًا في البيت الذي سكنه مع زوجته فرجينيا وأمها عمته ماريا كليم.
يزور معجبو بو في نيويورك الكوخ الذي قطنه في برونكس، حيث عاش أصعب فترات حياته، وحيث توفيت حبيبته وزوجته فيرجينيا. هناك كتب قصيدته الشهيرة (الغراب)، ولا يزال السرير الذي استسلمت فيه فيرجينيا للموت بمرض السل على حاله في ذلك البيت.
لكن اسم إدغار ألن بو ارتبط بمدينة بالتيمور بسبب موته الغامض على أحد أرصفتها، لذلك كرمته المدينة عام 1996 عندما أطلقت عنوان قصيدته (الغراب) على فريقها بكرة القدم. لم يكن هذا هو الاحتفاء الوحيد الذي حظي به بو في مدينة بالتيمور، فهناك شخص مجهول يرتدي معطفًا أسود وقبعة (قد يكون أكثر من شخص واحد)، يضع ثلاث وردات حمر وقنينة كحول على قبر الشاعر احتفاء بميلاده في الثالث من أكتوبر من كل عام. استمر هذا التقليد لمدة سبعة عقود من الزمن، وتوقف عام 2009 لأسباب مجهولة (ربما لوفاة هذا الشخص).
سحر إدغار ألن بو هوليوود والسينما العالمية، حتى إن نجوم الروك ونجوم السينما في بدايات القرن العشرين وحتى السبعينات منه تأثروا بتفاصيل من حياته، من عادة ارتدائه للملابس السوداء إلى الإهمال والبوهيمية وصولاً إلى حد تبديد موهبته وقريحته الشعرية بسبب الإدمان على الخمر وتدمير الذات ومقاربة الموت وملامسة أطيافه ومحاكاته عبر شخصيات ابتدعها وجعلها تعيش موتها قبل الموت أحيانًا. ولعل أشهر فيلم مستوحى عن آخر أيام حياته هو فيلم «الغراب» 2012 للمخرج جيمس ماكتيك. وسيشهد نهاية شهر أكتوبر من السنة الحالية عرض فيلم أنيمشن بعنوان «حكايا استثنائية)» مُستلهم من قصص بو القصيرة مثل «القلب المليء بالقصص، والحفرة، والبندول»، يهدف هذا الفيلم إلى تقديم أدب إدغار ألن بو إلى الجيل الجديد بطريقة عصرية.
الممثل البريطاني (إدريس ألبا) سوف ينهي عن قريب فيلمه الجديد المأخوذ عن رواية «يجب على بو أن يموت» للروائي الأميركي مارك أولدن، الذي يتخيل فيها أن قوى شيطانية تهدد مستقبل البشرية ويقع على عاتق إدغار ألن بو نصف المجنون والمخمور دائمًا إنقاذ البشرية من هذه القوى الشريرة بواسطة قوة خياله.
لماذا يستمر القراء في القرن الواحد والعشرين وفي مختلف أنحاء العالم بقراءة النتاج الأدبي لكاتب مات مبكرًا في القرن التاسع عشر؟ يحاول الناقد الأميركي لمجلة «لوس أنجليس تايمز»، ديفيد يولن، الإجابة عن هذا السؤال بقوله: «يجسد إدغار ألن بو في أعماله بشكل مميز التوتر في المجتمع الأميركي، بين النزعة الجماهيرية والنزعة الأدبية، بين ما يحدث على السطح وما يحدث في الخفاء».
رحل إدغار ألن بو عن عالمنا قبل 166 سنة لكن من الصعب نسيان إبداعه الأدبي أو حياته الحزينة أو حتى موته المحير، يومًا ما.