فنان تشكيلي من «الحرافيش» يحتفظ بصور ومقاطع فيديو نادرة لنجيب محفوظ

يرغب في إهدائها لمتحفه الذي يفتتح في ديسمبر المقبل بمناسبة ذكرى ميلاده

محفوظ مع الشربيني والراحل جمال الغيطاني (واقفا)
محفوظ مع الشربيني والراحل جمال الغيطاني (واقفا)
TT

فنان تشكيلي من «الحرافيش» يحتفظ بصور ومقاطع فيديو نادرة لنجيب محفوظ

محفوظ مع الشربيني والراحل جمال الغيطاني (واقفا)
محفوظ مع الشربيني والراحل جمال الغيطاني (واقفا)

منذ يوم 12 أكتوبر (تشرين الأول) الذي حصل فيه نجيب محفوظ على نوبل في الآداب، مرّ 27 عامًا دون أن يلقى «الأستاذ» الاحتفاء اللائق به ودون تأسيس متحف يخلد ذكراه، يؤمّه محبوه ومريدوه من مختلف أنحاء العالم للتعرف على حياته عن قرب، على الرغم من مرور 9 سنوات على رحيله، وفي 11 ديسمبر المقبل سوف تحل ذكرى ميلاده الرابعة بعد المائة، ولم يتأكد بعد مكان متحفه، إلا أن وزارة الثقافة المصرية أعلنت اعتزامها تأسيسه في مقر وكالة أبو الدهب الأثرية التي تطل على شارع الأزهر وحي الحسين باعتبارها تحمل روح الحارة المصرية، وأنها المكان الأقرب لحي الجمالية الذي نشأ فيه نجيب محفوظ.
وكان الكاتب محمد سلماوي ووزير الثقافة الأسبق جابر عصفور قد شنا حملة شعبية في سبتمبر (أيلول) الماضي لمطالبة الحكومة المصرية بسرعة تأسيس المتحف، لكن مع اقتراب الموعد المحدد لافتتاح متحف نجيب محفوظ في ديسمبر المقبل لم يتم إلى الآن إخلاء مبنى وكالة أبو الدهب من موظفي وزارة الآثار، كذلك لم يعلن عن البدء في التجهيز المتحفي للوكالة لكي تليق بمقتنيات محفوظ، ولم يجد أصدقاؤه أي إجراءات فعلية لجمع مقتنيات المتحف سوى التنسيق مع أسرة محفوظ، في تجاهل لما يملكه أصدقاؤه والحرافيش من صور فوتوغرافية وساعات فيديو مسجلة لندوات «الأستاذ» واللحظات الهامة في حياته.
الفنان التشكيلي محمد الشربيني، أحد حرافيش نجيب محفوظ، كشف لـ«الشرق الأوسط» عن أنه يمتلك ما يزيد على 25 ساعة من الفيديو توثق لقاءات «الأستاذ» وندواته مسجلة على شرائط 8 ملّي، وما يزيد على 1000 صورة فوتوغرافية توثق لحظات من حياة محفوظ والشخصيات الهامة التي كانت تحرص على حضور ندواته الأدبية في أرجاء القاهرة.
صور كثيرة تجمعه مع «الأستاذ» هي ما تبقّى لديه من ذكراه يحفظها بعناية مؤرشفة وفقًا لتاريخ التقاطها، يتأملها في أحيان كثيرة وأحيان أخرى ينشر بعضها عبر حسابه على موقع «فيسبوك» لتنهال عليه التساؤلات حولها وعن الأستاذ، ويظل حلمه الوحيد أن يمنحها لمتحف يحمل اسم نجيب محفوظ.
يقول الشربيني: «من المؤسف حقًا أن يكون لدينا أديب بقيمة وعظمة ونجيب محفوظ ولم نقم له متحفًا يخلد ذكراه ويؤمّه عشاق أدبه ممن قرأوا له بمختلف اللغات، لديّ صور كثيرة جدًا كنت قد التقطها على مدار أكثر من 10 سنوات، ولديّ 25 ساعة فيديو لندوات في أماكن مختلفة، وطلبت مني قناة (الجزيرة) القطرية الحصول عليها، لكنني رفضت، وأرغب أن أهديها للتلفزيون المصري، أو لمتحفه الذي طال انتظاره، ولست وحدي من يملك صورًا ومقاطع فيديو لمحفوظ، بل يملك الكاتب محمد سلماوي وآخرون من محبيه وأصدقائه عددًا كبيرًا من الصور والمخطوطات يمكن أن تشكل وحدها نواة لمتحف ضخم، فضلاً عما لدى أسرته».
يضيف: «لم يأخذ محفوظ حقه وهو على قيد الحياة، وكنت قد طلبت مع د. العقباوي وفتحي هاشم منذ عدة سنوات من د. جابر عصفور ود. عماد أبو غازي في المجلس الأعلى للثقافة، أن يتم تكريم محفوظ بشكل لائق، وتشكلت لجنة من المخرج توفيق صالح ويوسف القعيد وجمال الغيطاني للعمل على تجهيز المتحف، وقد رحل صالح، والغيطاني يرقد غائبًا عن الوعي الآن. ويواصل القعيد السعي. إلا أن تعدد وزراء الثقافة في مصر أربك هذا المسعى كما يبدو، ولا أجد مبررًا مقبولاً لعدم وجود متحف له منذ وفاته منذ 9 سنوات وحتى الآن».
وبحنين شديد يروي الشربيني بداية علاقته بمحفوظ، قائلا: «بدأت علاقتي به منذ أواخر الستينات في (ريش)، فقد كان الأدب لدي موازيًا للفن بشكل دائم فقرأت أعماله، وحرصت على حضور ندواته، إلى أن توطدت علاقتنا بعد نوبل بسنة 1989 أثناء ندواته التي كانت تنعقد في كازينو (قصر النيل)، وكانت علاقتنا تتوثق بشكل يومي لمدة خمسة أيام في الأسبوع».
ومع حلول المناسبة السنوية لنوبل، يستعيد الشربيني صوت «الأستاذ» وهو يقول باسمًا «أسبوع الآلام»: «بعد نوبل كانت الأضواء تجعله مرتبكًا وتتعبه فضلاً عن أنه لم يكن يحب أن يتحدث عن نفسه كثيرًا ولا يحب المديح، وقد كان مجبرًا على إجراء لقاءات صحافية وتلفزيونية وهو أمر لم يكن محببًا له».
ويشير إلى أن «جميع دول العالم تكرم النابغين والعظماء من كبار الكتاب والفنانين باحتفاليات ضخمة تفيهم حقهم وتجلب عائدًا ماديًا وسياحيًا كبيرًا لها، وقد كنت شاهدًا على تكريم سيزان في أوروبا بمناسبة مرور 100 سنة على وفاته، وكان شيئًا فوق الخيال استمر لمدة 3 شهور محققًا أرباحًا بقدر90 مليون دولار، فلماذا لا يتم الاحتفال بمحفوظ وإعطاؤه قيمته؟».
ويلفت الشربيني إلى أنه قد بدأ بإعداد كتاب عن «التشكيل في أدب نجيب محفوظ»، وأن «أغلفة رواياته التي صممها جمال قطب التي صدرت عن (مكتبة مصر بالفجالة) هي لوحات فنية بحد ذاتها، ويجب أن يتم إصدارها في كتاب. كما يجب أن تعيد الدولة طباعة رواياته التي نفدت وتوقفت دار (الشروق) عن إعادة طبعها».
ماذا عن الحس الفني عند محفوظ؟، نسأله فيجيب: «كان لديه حس تشكيلي عالٍ في وصف اللوحات والديكورات في رواياته، كان يبتكر تصميماتها بالكتابة، كان مؤهلاً لأن يصبح فنانًا تشكيليًا بامتياز، ولا يوجد من يماثل براعته في وصف الأماكن من حارة لبنزايون أو تكية». ويضيف: «من وجهه للاهتمام بالتشكيل كان عباس العقاد، الذي نصحه بالاطلاع على الفن التشكيلي خاصة كتاب بالإنجليزية (الفنون الجميلة خلال العصور)، وكان هذا الكتاب على طاولة بالقرب من باب شقته كل يوم قبل أن يغادر منزله ينظر للوحات ليتعرف على تاريخ المدارس الفنية في العالم، وكذلك فعل مع الموسيقى».
وحول اهتمام محفوظ بالحركة التشكيلية في مصر، قال: «كان محفوظ حريصًا على زيارة المعارض التشكيلية منذ عام 1937 خاصة المعرض السنوي في (سرايا تيجران)، الذي كانت تقيمه جمعية محبي الفنون الجميلة، حيث تعرف من خلاله على ناجي وراغب عياد ومحمود سعيد وأحمد صبري وآخرين. كان لديه حس راقٍ جدًا. وبالمناسبة لقد أحب أحمد عدوية وسمّاه صوت الحارة الشعبية، لأنه كان منحازًا للناس دومًا».
يتصفح الشربيني ألبوم صوره مع محفوظ أثناء زيارة العالم المصري الحاصل على نوبل أحمد زويل، وصورة أخرى تسجل لحظة حميمية لمحفوظ مع الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وصورًا أخرى مع الفنان عادل إمام وفاتن حمامة وأميتاب باتشان. ويتذكر الفنان التشكيلي المناسبات التي التقط فيها تلك الصور قائلاً: «بعضها التقطته في كازينو قصر النيل ومنذ عام 1994، بعد أن أصرّ د. يحيى الرخاوي أن تعقد الجلسات في أكثر من مكان في أعقاب حادث الاغتيال الذي تعرض له محفوظ إثر نشره فصل من رواية (أولاد حارتنا) في جريدة (الأهرام)، لذا بعض الصور التقطتها في فندق ماريوت الزمالك أو هيلتون رمسيس، وكانت تعقد لقاءات الأحد في فندق شبرد وسط القاهرة، والاثنين في فندق نوفتيل في المطار. أما يوم الثلاثاء فكان اللقاء في سفينة (فرح بوت) بالجيزة، والأربعاء في سوفتيل المعادي، وكان محفوظ يخصص يوم الخميس مع مجموعة خاصة جدًا من أصدقائه على رأسهم المخرج توفيق صالح والفنان التشكيلي جميل شفيق، حيث كانوا يلتقون في قرية فلفلة في المنيل».
ويضيف الشربيني: «كان محفوظ منظمًا بشكل قاسٍ جدًا في مواعيده والتزامه بالكتابة اليومية حتى في ترتيب نقوده في الحافظة. قبل الساعة 9 ونصف بالدقيقة كان يقف ويغادر المكان، وكان الالتزام بالوقت أمرًا لا يمكنه التفريط فيه، فضلاً عن الزهد والحكمة والتواضع في كل شيء، وكذلك الوفاء. ولا بد أن أذكر هنا أنه كان يردد دومًا أن العقاد والحكيم أحق منه بنوبل».



ريتشارد رورتي... براغماتية الأدب

ريتشارد رورتي
ريتشارد رورتي
TT

ريتشارد رورتي... براغماتية الأدب

ريتشارد رورتي
ريتشارد رورتي

في مثل هذه الأيام رحل ريتشارد رورتي؛ أحد أعظم الفلاسفة الأميركيين في القرن العشرين، ولعل هذه المناسبة تكون فرصة للتعرف على إنجازه الفلسفي، خصوصاً حين نعلم أنه يمثل براغماتية غير التي نعرفها من تاريخ الفلسفة؛ «براغماتية جديدة» ينبو عنها الذهن. فعندما تذكر البراغماتية لا يخطر على البال سوى روادها الأوائل. وكم هو قليل الانتباه إلى البراغماتية الجديدة التي يمثلها رورتي وعدد ليس بالقليل من مفكري الفترة المعاصرة. التمييز ضروري؛ فالبراغماتية بكل صورها هي ركن ركين في طريقة تفكير معظم البشر اليوم.

في أميركا هناك نوعان من الفلاسفة؛ قسم بقي مخلصاً للتقليد الأنجلو - أميركي، وقسم قاري - أميركي، بمعنى أنه يملك ميولاً تجاه الفلسفة الأوروبية؛ والألمانية بدرجة أقوى. مع رورتي يقف هيوبرت دريفوس وجون كابوتو، وأسماء أخرى. وما يميز رورتي معرفته العميقة بالأدب المقارن ودراساته في هذا المجال، بالإضافة إلى معرفته بالفلسفة التحليلية، وبالبراغماتية التقليدية، وميله نحو نظرية التطور.

ككل مفكر حر بذهن متوقد، مر بمحطات فكرية كثيرة؛ من الأفلاطونية إلى التحليلية، ثم قرر الاشتغال بفلسفة بلاده البراغماتية التي وجد في جون ديوي خير ممثل لها. كان واسع الثقافة إلى حدٍ كبير، لكنه رفض طريقة فلاسفة العلم الذين يريدون للفلسفة أن تكون خادمة للعلم، أو كما يقول ويلارد كواين: «على الفلسفة أن تكون فلسفة للعلم؛ أو لا تكون».

وكما فعل ملهمه هايدغر، انتقل رورتي بالفلسفة إلى آفاق رحبة لم تكن معروفة من قبل، وكان ميالاً إلى أهل الأدب أكثر منه إلى الفيزيائيين والعلماء بعامة.

من العلامات التي تعرفنا على اتجاهه أنه مفكر توفيقي إلى حد كبير، يحاول أن يجمع الفلسفة الأميركية والأوروبية، رغم أن كثيرين لا يرون كيف يمكن أن يجري هذا الجمع، ولسان حالهم يقول: كيف تجتمع المدرسة التحليلية مع المثالية الألمانية؟

في فكر رورتي لا توجد جواهر ولا ماهيات، فقد تجاوز الفلاسفة هذا المسار من قبله، لكن يوجد في فلسفته صدق من دون تطابق مع العالم الخارجي. كما لا توجد في فلسفته الأخلاقية «مبادئ» ولا «أسس»، وهي بهذا تستند على البراغماتية التي تعرّف الحقيقة بأنها «ما ينفع». هذا معناه أنه يرفض التسليم بوجود نظرية في الصدق كما يوجد عند الفلاسفة الآخرين، أي إن براغماتيته لا تشترط الصدق بمعناه الفلسفي.

من قبله، حسمت البراغماتية الأميركية مع روادها الثلاثة الكبار: تشارلز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، خلافاً استمر ألفي سنة، أو يزيد، عن الحقيقة، ما الشيء الحقيقي؟ فقال القدماء: الحقيقة هي «تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان»، وقال أصحاب النزعة الرياضية: «ما تناغم فهو حقيقي»، وأتى البراغماتيون بمقولة أصيلة تماماً فقالوا: «الحقيقي هو ما ينفع». ما نفع الفرد والمجتمع يجب التمسك به، وما لم يكن كذلك فهو زيف. فكرة جديدة رغم أنها قد تبدو ساذجة في البداية. لقد أراحت نفسها من كل الفلسفة النقدية التي جعلت العقل هو الذي يرسم تفاصيل وجه العالم.

أهم كتب رورتي فيما يبدو «الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وفيه يعلن موقفه الواضح الذي يرفض فيه أن يكون العقل مرآة تعكس الطبيعة، بل يرفض نظرية التمثل بأكملها، فالأمر برمته لا يجاوز الممارسة الاجتماعية وقصة تحكي تطور المجتمع مع مرور الزمن، والفلاسفة أناس يعملون على بناء مستقبل أفضل نظراً إلى إيمانهم بضرورة التقدم نحو حاجات ذلك المجتمع.

لن تجد في فلسفة رورتي براهين. وأجدني أوافقه على هذا المذهب، فالبرهان مفهوم أتى به أرسطو وتابعه المشاؤون، رغم أنه لا يوجد على الحقيقة. كل كتب البرهان ليست سوى كتب سجال وجدل.

لقد دعا رورتي صراحة إلى موت الإبيستمولوجيا (نظرية المعرفة) بناء على نظرية هايدغر وغادامير التي لا تعوّل كثيراً على طريقة «التفكير الحسابي»؛ يقصدان بذلك منهج العلم الحديث. ولا شك في أنه فيلسوف شكوكي لا عقلانياً، فقد أرشد إلى ترك الحديث عن العقل لعله يختفي إذا سكت الناس عن ذكره. ويتميز أسلوبه بأنه يشبه الحكايات الأدبية، والخلو من الرغبة في البرهنة على أي شيء. إنه يرسم ولا يكتشف. ومع كل هذا لا يمكن لنا أن نقول إن رورتي كان مفكراً رومانسياً؛ لأنه لم يكتب الشعر قط. إنه مفكر براغماتي بنكهة أدبية. كان يعتقد أن التقدم الأخلاقي يمكن أن يعتمد على تطور الخيال وتعزيز العاطفة المتبادلة بين الناس، والشعراء يفوقون الفلاسفة في تنمية هذا الخيال وتعزيز تلك المشاعر الإنسانية. الأدب هو الذي يفتح الخيال الأخلاقي، وبه تتحقق إمكانية زيادة الأحاسيس والتعاطف مع معاناة الشعوب الأخرى في العالم، وهذا ما يشير إليه رورتي أحياناً تحت اسم «الأدب العاطفي». ويبدو أن المشاعر بالنسبة إليه مزيج دقيق من الأحاسيس والانطباعات التي تشكل أساساً للحكم والتصرف في براغماتيته الجديدة. وهكذا؛ فإن الشعور والخيال مفهومان مترابطان أدرجهما رورتي في رؤيته للفلسفة الأخلاقية. ثمة خط تطور يبدأ من فتح الخيال الأخلاقي، وينتقل إلى تعزيز التعاطف، والاستمرار في تنمية المشاعر الأخلاقية المناسبة بغرض الوصول إلى نوع من الولاء الإنساني الموسع وتحقيق عدالة أكبر. هذا هو «الأدب الملهم» أو «القراءة الملهمة» التي تندمج بقوة في هذا التطور. ثمة إلهام في هذا الأدب؛ لأنه يحدو الناس إلى الإيمان بأن في هذه الحياة أكثر مما تخيلوه. مع أن هذا التقدم الأخلاقي لا علاقة له بالزيادة في العقلانية، ولا يشمل تطوير الذكاء، بل يهدف إلى تحسين حياة الأفراد في المجتمع.

* كاتب سعودي