جاستن ترودو.. يحول كندا يسارًا

الأربعيني الشاب أنهى 9 سنوات من حكم اليمين المتشدد

جاستن ترودو..  يحول كندا يسارًا
TT

جاستن ترودو.. يحول كندا يسارًا

جاستن ترودو..  يحول كندا يسارًا

«ترودو آخر» عاد لتولّي الحكم في كندا، بعد الانتخابات العامة التي أعلنت نتيجتها أمس، وأنهت فترة حزب المحافظين اليميني التي استمرت تسع سنوات برئاسة ستيفن هاربر. فخلال الساعات الماضية نجح جاستن ترودو، زعيم حزب الأحرار الوسطي الليبرالي ونجل بيار إيليوت ترودو رئيس الوزراء الأسبق، في قيادة حزبه إلى النصر بعد انتخابات حامية، ويبدو إنجاز ترودو أكثر إثارة إذا ما علمنا أن الأحرار خرجوا من الانتخابات السابقة بهزيمة مؤلمة وانتهوا في المرتبة الثالثة بعد المحافظين والديمقراطيين الجدد اليساريين.

تتمتع السياسة الكندية بديناميكية شبه استثنائية، إذ إنها لا تستقر على حال لفترة طويلة، وقد يكتسح أحد الأحزاب الكبرى المشهد السياسي في انتخابات ما، لكنه سرعان ما يتراجع بفارق كبير خلال بضعة سنوات. ولقد عاش هذا التذبذب في الجاذبية الجماهيرية الحزبان التاريخيان الكبيران حزب الأحرار وحزب المحافظين، الذي كان يعرف لفترة طويلة من تاريخه بحزب المحافظين التقدميين، قبل اندماجه بحزب التحالف اليميني ووصوله تحت قيادة رئيس الوزراء المهزوم ستيفن هاربر إلى الحكم عام 2006.
أيضًا برزت في كندا، الدولة الفيدرالية الشابة، خلال العقود الأخيرة عدة قوى «مصلحية» مؤثرة سياسية وقومية واقتصادية تفاوت نجاحاتها، وانعكست بعض هذه النجاحات في ولايات معينة، وبعضها امتدت عبر الولايات الكندية. كذلك تأثر المشهد السياسي الكندي عبر السنين والعقود بشخصيات «كاريزمية» تركت بصماتها على الثقافة السياسية في البلاد.
وتاريخيًا، كانت هناك دائمًا قوى انفصالية تعتز بهويتها ولغتها الفرنسية في ولاية كيبيك الكندية، وبالفعل برزت في كيبيك تنظيمات حزبية انفصالية - استقلالية مثل «الحزب الكيبيكي» و«الكتلة الكيبيكية»، ولمع فيها زعماء شعبويون بينهم رينيه ليفيك. كذلك كانت هناك أرضية صلبة للثقافة البريطانية عبر عنها لفترات طويلة حزب المحافظين التقدميين، الذي أعطى كندا عددًا من أبرز زعمائها. وفي ولايات الوسط الزراعية وكذلك في مدن ولاية أونتاريو، كبرى ولايات البلاد من حيث عدد السكان، قويت شوكة اليسار ممثلاً بالحزب الديمقراطي الجديد (الديمقراطيون الجدد)، وامتد نفوذ هؤلاء إلى ولايات أخرى. وفي ولاية ألبرتا الغنية بالنفط في وجارتها الأكبر بريتيش كولومبيا في غرب كندا، ظهرت قوى «اليمين الجديد»، وكان أبرزها حزب الإصلاح (1987 – 2000) الذي ورثه «التحالف الكندي» (2000 – 2003)، والذي من ثم انتهى في اندماج يميني بحزب المحافظين التقدميين العريق ينتج عن الاندماج حزب المحافظين الحالي.
وسط هذا المشهد كان هناك حزب واحد جسّد دائمًا الوحدة الوطنية الكندية، اعتز طويلاً بهويته السياسية والثقافية العابرة للحواجز العرقية واللغوية والطبقية والجغرافية هو حزب الأحرار.
هذا الحزب تنظيم ليبرالي منفتح كان دائمًا مؤمنًا بهوية جامعة لكندا، التي إحدى أكثر دول العالم تنوعًا. وبفضل هويته الجامعة اعتمد دائمًا على نوبات التسامح والهدوء لتحقيق انتصارات كبيرة في كيبيك على الانفصاليين، ومن ثم، البناء على نهج الاعتدال لاجتذاب الأصوات من مختلف المكوّنات الكندية. وحقًا، خلال العقود الأخيرة تولى رئاسة وزراء كندا اثنان من زعماء حزب الأحرار يتحدّران من أصول فرنسية، الأول هو بيار إيليوت ترودو - أبو رئيس الوزراء الجديد - الذي حكم البلاد مرتين بين 1968 و1979 ثم بين 1980 و1984، والثاني جان كريتيان الذي حكم بين 1993 و2003 لمدة عشر سنوات متتالية.
يوم أمس أعاد جاستن ترودو حزب الأحرار إلى السلطة، مؤسسًا سلالة سياسية لكندا هي «سلالة ترودو».. معيدًا إلى الأذهان «السلالات السياسية» في الولايات المتحدة جارة كندا الكبيرة إلى الجنوب، مثل آل آدامز وآل تافت وآل كيندي وآل بوش.. وربما آل كلينتون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.

* من هو جاستن ترودو؟

ولد جاستن بيار جيمس ترودو، الابن الأكبر لبيار إيليوت ترودو، يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 1971 في العاصمة الكندية أوتاوا عندما كان أبوه يشغل منصب رئيس الوزراء. أما أمه فهي مارغريت جوان سنكلير ترودو، وهي ابنة وزير سابق وممثلة ومصوّرة فوتوغرافية وإعلامية مثيرة للجدل، طلقت من أبيه عام 1977 وسط عاصفة من اللغط الإعلامي.
بعد الطلاق تربّى جاستن في عهد أبيه بمدينة مونتريال، حيث درس في كلية جان دو بريبوف الكلية الراقية التي درس فيها أبوه. ولمع نجمه على مستوى كندا عندما ألقى كلمة التأبين بعد وفاة أبيه عام 2000 في المأتم الرسمي الكبير.
وتابع جاستن دراسته العليا فتخرج في جامعة ماكغيل العريقة بمدينة مونتريال حاملاً بكالوريوس في الآداب، وأتبعها ببكالوريوس في التربية من جامعة بريتيش كولمبيا. وبعدها امتهن تعليم اللغة الفرنسية والرياضيات. ثم درس الهندسة في معهد مونتريال البوليتكنيكي التابع لجامعة مونتريال، قبل أن يعود لجامعة ماكغيل ليحضر للماجستير في الجغرافيا. لكن مسيرته الأكاديمية توقفت عندما قرر صرف النظر عن متابعة الماجستير واقتحام الحلبة السياسية.

* طريق السياسة

ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2006 هاجم بقوة «نزعة القومية الكيبيكية»، معتبرًا أن القومية عمومًا فكرة قليلة الفطنة تعود إلى القرن التاسع عشر». ورأى مراقبون هذا الموقف غمزًا من قناة مايكل إيغناتييف، القيادي في حزب الأحرار يومذاك، وكان إيغناتييف - وهو مثقف وإعلامي وباحث لامع - قد ألمح لتأييده الاعتراف بكيبيك ككيان له هويته القومية. ومن ثم أعلن ترودو دعمه لجيرارد كيندي في انتخابات زعامة الحزب، وعندما خرج كيندي من الانتخابات حول تأييده للمرشح ستيفان ديون الذي فاز على الأثر بالزعامة.
وعام 2007 ترشح ترودو للانتخابات العامة عن منطقة بابينو، في مدينة مونتريال، وفاز بالمقعد ودخل البرلمان، مع العلم أن حزبه خسر الانتخابات أمام المحافظين.
ثم في انتخابات عام 2011، فاز ترودو مجددًا ونجح في الاحتفاظ بمقعده في بابينو، بينما تراجع حزبه على المستوى الوطني إلى المرتبة الثالثة برصيد 34 مقعدًا فقط، وقفز الحزب الديمقراطي الجديد اليساري إلى المرتبة الثانية خلف المحافظين. وفي ضوء هذه النكسة الكبرى للأحرار استقال إيغناتييف من زعامة الحزب (كان قد خلف ستيفان ديون عام 2008). ومع توقع كثيرين ترشيح ترودو لزعامة الحزب فضل السياسي الشاب التريث وتولى الزعامة بصفة مؤقتًا رئيس وزراء ولاية أونتاريو السابق بوب راي حتى 2013. هنا تجدر الإشارة إلى أن اسم ترودو كان قد طرح كمرشح لزعامة الحزب عام 2008 عندما استقال ديون بعد إخفاقه في التغلب عن رئيس الوزراء المحافظ هاربر، وكانت استطلاعات الرأي كلها مشجعة، وتشير إلى أن فرصه بالفوز طيبة جدًا، كيف لا وهو الشاب الجذاب وابن أحد أكثر زعماء كندا شعبية وجماهيرية. غير أن ترودو شعر أن الفرصة غير مواتية حينذاك، مفضلاً الانتظار، وبالفعل خلت الساحة لإيغناتييف فانتخب للمنصب.
غير أن الهزيمة المزلزلة التي مني بها الحزب تحت قيادة إيغناتييف، ونجاح هاربر مرة أخرى بالاحتفاظ بالحكم، دفع الحزب للبحث عن منقذ بقدر بحثه عن زعيم. ومجددًا أجل ترودو دخوله الحلبة متذرعًا بظروفه العائلية الخاصة، واستقر الرأي في الحزب على رئيس انتقالي، فاختير بوب راي.
ولكن مع تأكيد استطلاعات الرأي أنه سيكون بمقدور ترودو قيادة الحزب إلى الفوز إذا وافق على تولي دفة القيادة، أعلن ترودو في صيف 2012 أنه «مستعد للتفكير بالأمر». وفي خريف 2012 أخذ الإعلام الكندي يتحدث عن أنه سيطلق حملته قريبًا.
ومن ثم، في أبريل (نيسان) 2013 فاز ترودو بزعامة الحزب متغلبًا بفارق كبير حاصلاً على أكثر من 80 في المائة من الأصوات. ومنذ ذلك اليوم بدأ مشوار المعركة الانتخابية التي أجريت يوم أول من أمس ضد هاربر، وانتهت بانتصار كبير ومهم على أحد أكثر ساسة كندا تشددًا يمينيًا.

* عائلته الصغيرة

عام 2005 تزوج جاستن ترودو من صوفي غريغوار، وهي صديقته منذ أيام الطفولة وزاملت شقيقه الأصغر ميشال في المدرسة.
ثم التقى جاستن وصوفي عام 2003 عندما كانت صوفي شخصية تلفزيونية في كيبيك وهو ناشط وباحث. وتوثقت العلاقات من جديد، وتزوجا في مراسم كاثوليكية عام 2005. واليوم تضم عائلتهما ولدين هما غزافييه وهدريان، وبنتًا اسمها إيللا غريس.

* رؤساء وزراء كندا منذ الحرب العالمية الثانية

* ويليام ليون ماكنزي كينغ (حر): 1935 – 1948
* لوي سان لوران (حر): 1948 – 1957
* جون ديفنبيكر (محافظ): 1957 – 1963
* ليستر بيرسون (حر): 1963 – 1968
* بيار إيليوت ترودو (حر): 1968 – 1979
* جو كلارك (محافظ): 1979 – 1980
* بيار إيليوت ترودو (حر): 1980 - 1984
* جون تيرنر (حر): 1984 - 1984
* بريان ملروني (محافظ): 1984 - 1993
* كيم كامبل (محافظة): 1993 - 1993
* جان كريتيان (حر): 1993 - 2003
* بول مارتن (حر): 2003 - 2006
* ستيفن هاربر (محافظ): 2006 - 2015
* جاستن ترودو (حر): 2015 - ....



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.