الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

رئيس جمعية علماء بريطانيا لـ«الشرق الأوسط»: هي مدرسة الإسلام المعتدل ومن التحق بـ«طالبان» منها جرى استغلاله

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
TT

الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)

بعدما عملت الصحافية البريطانية إينيس بوين مع فرانك غاردنر، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للشؤون الأمنية عام 2003 على برنامج يكشف عن أخطار التطرف التي تهدد بريطانيا، اكتشفت أن المعلومات المتوافرة عن تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد شحيحة. وبعدما ملّت من انتظار صدور كتاب يكشف لها خفايا المجتمع الإسلامي البريطاني، بادرت بوين إلى كتابته بنفسها واختارت له عنوان «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت»، وهو يرصد مساجد بريطانيا ويصنفها راسما خريطة للمجتمع الإسلامي في البلاد وكاشفًا عن المدرسة الديوبندية التي تذكر أن لديها أكثر من 44 في المائة من المساجد في البلاد. إلى ذلك، نتعمق في تلك المدرسة «الغامضة والمثيرة للشكوك». وفي مقابلة مع بوين تروي لنا تجربتها في كشف خفايا الديوبندية وتنوّع مساجدها وعلمائها الذين يتراوحون بين «معتدلين» ينددون بالإرهاب ومتطرفين يجنِّدون لحركة «طالبان». ونعود لأصول ونشأة هذه المدرسة من الهند وظهورها في بريطانيا مستعينين بتصريحات من رئيس جمعية علماء بريطانيا الشيخ حافظ رباني. وأخيرا نحاول فهم أسباب انتشار التطرّف في بريطانيا.
الإحصاءات كثيرة عن المسلمين في المملكة المتحدة – أو مجازًا، بريطانيا – وهي تفيد بأنهم يشكلون نحو أربعة في المائة من تعداد سكان البلاد، ويحتلون خمسة ونصفا في المائة من المناصب الإدارية العليا في بريطانيا، ويحمل أكثر من أربعة وعشرين في المائة منهم شهادات جامعية، لكن، قلما تثير تلك الإنجازات فضول وسائل الإعلام والباحثين. ومع أن المجتمع الإسلامي في بريطانيا مركّب ومتنوّع، ما زال كثيرون ينظرون إليه على أنه وحدة متجانسة. وفي محاولة هي الأولى من نوعها لكشف تركيبة هذا المجتمع، رصدت الصحافية إينيس بوين المجموعات المسلمة المختلفة المقيمة في بريطانيا في كتابها «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت».
بَنت بوين كتابها على أساس أكثر من ثمانين حوارًا وتحقيقًا أجرتها مع عناصر من مختلف الجماعات والبيئات المسلمة في بريطانيا، خلال سبع سنوات متواصلة وبمساعدة باحثين مسلمين بريطانيين من أصول باكستانية. وفي الكتاب الذي صدر خلال يونيو (حزيران) الماضي استعرضت جميع مساجد بريطانيا وصنفتها، راسمة خريطة تراها معبرة عن واقع المجتمع الإسلامي في البلاد إلى حد بعيد.
وفي مقابلة مع «الشرق الأوسط»، قالت بوين «مواطنو بريطانيا ليسوا ملمّين بخلفيات المجتمع الإسلامي في البلاد وواقعه ولا يستوعبون مدى تعقيد تركيبته. ويعود ذلك لنقص المعلومات المتوافرة عن هذا المجتمع». وتابعت: «من المهم أن يستوعب البريطانيون تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد لتفادي تكوين أحكام مسبقة أو أفكار معممة على جميع مكوّناته»، مشيرة إلى أن الجهات الحكومية البريطانية المعنيّة قرأت كتابها واعتبرته «مفيدًا».
الصحافية والباحثة البريطانية كشفت في كتابها أن أكثرية المساجد في بريطانيا تقع تحت إدارة مدرسة فكرية غامضة ومثيرة للشكوك هي الديوبندية. وتشير الإحصاءات التي توصل إليها الباحث محمود نقشبندي، والتي تعتمدها بوين في كتابها حول المساجد في بريطانيا، إلى أن «المساجد الديوبندية في بريطانيا تشكل أكثر من 44 في المائة من العدد الكلي لدور العبادة الإسلامية في البلاد إذ تتعدى السبعمائة مسجد».
ولقد تواصلت بوين مع كبار مفكّري المدارس الإسلامية والبعض رفض أن يقابلها، وعانت من ذلك الرفض مع أفراد المدرسة الديوبندية. إلا أنها – مع ذلك – استطاعت أن تكون الصحافية الوحيدة التي وافق الشيخ الديوبندي أبو يوسف رياض الحق على مقابلتها. وعن هذا الأمر قالت: «تراسلت معه بما كتب عنه، وطلبت توضيحًا مؤكدة له أنه في حال امتناعه عن التعليق، كنت سأذكره في كتابه بحسب المصادر التي اطلعت عليها، ولكنه استاء وقبل مقابلتي لتبرير موقفه».
وحول الجماعة الديوبندية في بريطانيا رأت بوين أنها «جماعة محافظة ومغلقة جدًا وتحمل الكثير من التنوع بداخلها فتتراوح ما بين الاعتدال والتطرف»، واستطردت «إليها تنتمي جماعات شديدة السلمية وكذلك لدى البعض من عناصرها علاقات مباشرة مع حركة طالبان الأفغانية المتطرفة». ويختلف كبار وجوه المدرسة الدربندية من حيث طريقة تعاملهم مع المجتمع البريطاني، فالشيخ إبراهيم موغرا يعتبر من أئمة الديوبنديين المعتدلين، فهو يتابع مباريات كأس العالم لكرة القدم ويحل بصورة شبه دائمة ضيفًا على برامج شبكة الإذاعة «بي بي سي». وفي المقابل، بخلاف موغرا، فإن المفتي محمد بن آدم الكوثري، وهو أيضًا من أئمة المدرسة، وفق كتاب بوين «يوصي في بريطانيا بالابتعاد عن غير المسلمين». هذا، مع أن الإمامين تخرجا من المدرسة ذاتها وهي «دار العلوم العربية الإسلامية» في مقاطعة لانكشاير بشمال غربي بريطانيا. وهنا تلح الحاجة لاستكشاف خفايا فكر المدرسة الديوبندية.

*ما هي الديوبندية؟

يشرح الشيخ حافظ إكرام الحق رباني، رئيس جمعية علماء بريطانيا، لـ«الشرق الأوسط»، تاريخ وتفاصيل الفكر الديوبندي فيقول إن «هذا الفكر يعود إلى مدرسة في بلدة الديوبند في الهند أسستها مجموعة من علماء البلاد الإسلاميين عام 1857. ونمت المدرسة حتى أصبحت أكبر المعاهد الدينية للمذهب الحنفي هناك. ومن ثم أصبحت كل المدارس الدينية بكل أحجامها في كل من الهند وبنغلاديش وباكستان تدرس ذلك الفكر لتصل آثاره حتى إلى أفغانستان وروسيا». وأضاف: «كان تأسيسها في البداية ردًا قويا ومباشرا على الهجمات التي كان يشنها البريطانيون في الهند آنذاك، وبالتالي، كان طريقًا للمقاومة ولوقف الزحف الغربي والمدنية والمادية على شبه القارة الهندية ولإنقاذ المسلمين من مخاطر هذه الظروف، خاصة أن العاصمة دلهي خربت بعد الثورة بعدما سيطر عليها البريطانيون وخاف العلماء المسلمون على دينهم من أن يتعرض للابتلاع».
وبحسب الشيخ رباني فإن أهم مبادئ المدرسة «المحافظة على التعاليم الإسلامية والإبقاء على شوكة الإسلام وشعائره ونشر الثقافة الإسلامية ومحاربة الثقافة الإنجليزية منذ ذلك الزمان وإلى الآن، وأيضًا الاهتمام بنشر اللغة العربية لأنها وسيلة الاستفادة من منابع الشريعة الإسلامية والجمع بين القلب والعقل وبين العلم والروحانية». ويؤكد ذلك أن الديوبنديين «مجموعة محافظين يتمسكون بالتعاليم الإسلامية ويعتبرون الانغماس بالمجتمعات غير الإسلامية ابتلاعًا للدين واستسلاما للزحف الغربي». ويركّز الشيخ رباني أن «الديوبندية حنفية الفقه وماتريدية العقيدة».

*من الهند إلى بريطانيا

يؤكد الشيخ رباني على ما وجد بكتاب بوين حول كثرة انتشار المساجد الديوبندية في بريطانيا، إذ يقول إن: «معظم المسلمين في بريطانيا يتبعون الفكر الديوبندي» ويضيف: «أغلبية المساجد والمراكز الإسلامية في بريطانيا أسسها الباكستانيون والهنود والبنغلاديشيون ومن هنا جاء هذا الفكر». ويستطرد: «مؤخرا بدأ الصوماليون بإنشاء المراكز والمساجد في بريطانيا».
وبحسب كتاب بوين، فإن أهم مجموعتين من الفكر الديوبندي في بريطانيا هما دار العلوم وجماعة التبليغ والدعوة ومعظم قيادات كلا المجموعتين من أصول هندية أو باكستانية. دار العلوم العربية الإسلامية هي أهم وأكبر مدرسة إسلامية في بريطانيا توفر المنهاج المدرسي البريطاني إلى جانب التعليم الإسلامي أيضا للذكور والإناث. وتقع نحو 22 مدرسة تحت مظلة دار العلوم حول المملكة. ومع أن التعليم في تلك المدارس محافظ، إلا أن المناهج معتدلة وبعيدة عن التطرف.
وعلى خلاف ذلك، وثقت صحيفة «التايمز» البريطانية الشهر الماضي في حادثة أخرى أمثلة عن استضافة دعاة اعتبرتهم متطرفين من باكستان كحافظ سعيد ومسعود عازار وغيرهما في المساجد الديوبندية لإلقاء خطب. وحول ذلك تعقب بوين بقولها: «هناك أمثلة استضافت فيها بعض المساجد الديوبندية شخصيات من جنوب آسيا مرتبطة بالجماعات المتطرفة هناك»، وتستطرد بحسب معلومات جمعتها: «وبعد الندوات تم تسهيل تجنيد بعض المسلمين البريطانيين وإرسالهم لمعاقل تدريب المتطرفين في باكستان وتدرب في تلك المعسكرات العناصر التي قامت بتنفيذ هجمات إرهابية في بريطانيا بعد ذلك». وبهذا نتساءل إن كانت أكبر مجموعة إسلامية في بريطانيا على علاقة بالتطرف داخل وخارج البلاد.

* «طالبان» في مساجد البريطانيين

يشير كتاب بوين إلى أنه خلال تسعينات القرن الماضي كانت هناك علاقات مباشرة بين بعض ديوبنديي بريطانيا وحركة طالبان المتطرفة في أفغانستان ويكشف عن زيارة عناصر من الحركة إلى بريطانيا. كما يوثق أن ممثلي الحركة في بريطانيا قاموا بجمع التبرعات لبناء المدارس والمشافي في أفغانستان. وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية، كانت توزع مجلة طالبان في بعض المساجد الديوبندية، لكن المطبوعة اختفت بعدها. ويسرد الكتاب علاقات بعض ديوبنديي بريطانيا مع حركات متطرفة أخرى مرتبطة بتنظيم القاعدة وهما حركتان كشميريتان: جيش محمد وحركة المجاهدين استضافوا دعاة من هناك حضرها أكثر من عشرة آلاف مسلم هندي وبنغلاديشي.
وحول ذلك، تقول بوين: «لم أزر مساجد كافية لأعمم مدى درجة التطرف خلال الخطب ولكن في مسجد في جنوب شرقي لندن زرته مع (بي بي سي) أثناء تصويرنا لتقرير عن التطرف، كانت الخطبة مؤيدة وبشدة لتنظيم القاعدة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر».
وفي سياق متصل، تكشف بوين في كتابها عن جماعة دعوية ديوبندية تحت اسم «جماعة التبليغ والدعوة» ظهرت في بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعلى علاقة تلك الجماعة بالتطرف. فبحسب معلومات رصدتها بوين، كشفت تحقيقات ما بعد تفجيرات لندن الانتحارية التي استهدفت المواصلات العامة في يوليو (تموز) عام 2005 أن بعض المتورطين في هذه الهجمات إلى جانب هجمات إرهابية أخرى كانوا على علاقة بجماعة التبليغ، وهم: زكريا موساوي الانتحاري رقم عشرين الذي جند لتنفيذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ولكن اعتقلته السلطات قبلها وريتشارد ريد مفجر الحذاء الذي حاول وفشل في تفجير نفسه على متن طائرة من ميامي إلى باريس بعد أسابيع قليلة من تفجيرات نيويورك. إلى جانب ثلاثة من أربعة انتحاريي تفجيرات لندن كانوا يحضرون حلقات نقاش جماعة التبليغ والدعوة. وتنوه بوين أن تلك الحلقات التحريضية على التطرف كان تنظيمها «أسهل قبل هجمات يوليو الإرهابية ولكن بات الأمر أكثر صعوبة الآن». وإلى جانب ذلك، ندد مجموعة من العلماء الديوبنديين في بريطانيا بهجمات لندن الإرهابية وأصدروا فتوى تحرم شن هجمات ضد مواطنين بريئين.

*التطرف في المدارس أو خارجها؟

يشدد رئيس جمعية علماء المسلمين في بريطانيا الشيخ رباني على أن «الديوبندية هي المنهج المعتدل للإسلام والبعيد عن التطرف كل البعد». وعن تفسيره حول السبب أن معظم قياديي حركة طالبان تخرجوا من المدارسة الديوبندية، يقول رباني: «غالبية المدارس الموجودة في الإقليم الشمالي الحدودي مع أفغانستان هي ديوبندية وتخرج من التحقوا فيها هناك»، ويضيف: «لكن هذا لا يعني أن المدارس الديوبندية تنشئهم على التطرف أو على الإرهاب فليس في تلك المدارس مرافق ميدانية أو تدريبات لاستخدام الأسلحة وهي مدارس بسيطة جدا». ويستطرد بقوله إنه: «هناك تيارات أخرى خارج الديوبندية هي التي أخذتهم واستغلتهم وحولتهم إلى درب التطرف». ويختتم قوله: «الجامعات ودور العلم تعطي العلم لكن الشخص نفسه يتجه لجهة معينة بعد ذلك وهذا الأمر يعود له».
وبعد أن أمضت إينيس بوين سبع سنين وهي تكشف خفايا المجتمع الإسلامي في بريطانيا تستنج أنه ذات تركيبة معقدة ومتعددة من الاعتدال إلى بوادر التطرف. وحول أسباب زيادة التطرف بين بعض المسلمين في البلاد تقول الباحثة البريطانية: «مجموعة من العوامل تساهم في نشر التطرف، منها تأثير الدعوة في بعض المساجد على المصلين، والمجتمعات المغلقة التي يعيشون بها بعيدا عن باقي المجتمع، ومشاعرهم بعدم الانتماء جراء عدم تقبل المجتمع الأوسع لهم، والتغيرات العالمية والسياسية أيضا، ويعتمد ذلك على الفرد وتجاربه الشخصية».
وتشير إينيس أخيرا إلى أن التاريخ الحديث أثبت لنا أن «معظم المسلمين البريطانيين الذين تورطوا في هجمات إرهابية أو أعمال متطرفة من نشآت متنوعة فمنهم من ولد في عائلة مسلمة ومنهم من اعتنق الإسلام بعد نشوئه وتتباين حالاتهم الاجتماعية والثقافية أيضا».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.