الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

رئيس جمعية علماء بريطانيا لـ«الشرق الأوسط»: هي مدرسة الإسلام المعتدل ومن التحق بـ«طالبان» منها جرى استغلاله

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
TT

الديوبندية في بريطانيا: الفكر السائد في المساجد.. بين المحافظة والتطرف

إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)
إحدى حلقات التدريس على المنهج الديوبندي في باكستان (الشرق الاوسط)

بعدما عملت الصحافية البريطانية إينيس بوين مع فرانك غاردنر، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للشؤون الأمنية عام 2003 على برنامج يكشف عن أخطار التطرف التي تهدد بريطانيا، اكتشفت أن المعلومات المتوافرة عن تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد شحيحة. وبعدما ملّت من انتظار صدور كتاب يكشف لها خفايا المجتمع الإسلامي البريطاني، بادرت بوين إلى كتابته بنفسها واختارت له عنوان «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت»، وهو يرصد مساجد بريطانيا ويصنفها راسما خريطة للمجتمع الإسلامي في البلاد وكاشفًا عن المدرسة الديوبندية التي تذكر أن لديها أكثر من 44 في المائة من المساجد في البلاد. إلى ذلك، نتعمق في تلك المدرسة «الغامضة والمثيرة للشكوك». وفي مقابلة مع بوين تروي لنا تجربتها في كشف خفايا الديوبندية وتنوّع مساجدها وعلمائها الذين يتراوحون بين «معتدلين» ينددون بالإرهاب ومتطرفين يجنِّدون لحركة «طالبان». ونعود لأصول ونشأة هذه المدرسة من الهند وظهورها في بريطانيا مستعينين بتصريحات من رئيس جمعية علماء بريطانيا الشيخ حافظ رباني. وأخيرا نحاول فهم أسباب انتشار التطرّف في بريطانيا.
الإحصاءات كثيرة عن المسلمين في المملكة المتحدة – أو مجازًا، بريطانيا – وهي تفيد بأنهم يشكلون نحو أربعة في المائة من تعداد سكان البلاد، ويحتلون خمسة ونصفا في المائة من المناصب الإدارية العليا في بريطانيا، ويحمل أكثر من أربعة وعشرين في المائة منهم شهادات جامعية، لكن، قلما تثير تلك الإنجازات فضول وسائل الإعلام والباحثين. ومع أن المجتمع الإسلامي في بريطانيا مركّب ومتنوّع، ما زال كثيرون ينظرون إليه على أنه وحدة متجانسة. وفي محاولة هي الأولى من نوعها لكشف تركيبة هذا المجتمع، رصدت الصحافية إينيس بوين المجموعات المسلمة المختلفة المقيمة في بريطانيا في كتابها «المدينة في برمنغهام والنجف في برينت».
بَنت بوين كتابها على أساس أكثر من ثمانين حوارًا وتحقيقًا أجرتها مع عناصر من مختلف الجماعات والبيئات المسلمة في بريطانيا، خلال سبع سنوات متواصلة وبمساعدة باحثين مسلمين بريطانيين من أصول باكستانية. وفي الكتاب الذي صدر خلال يونيو (حزيران) الماضي استعرضت جميع مساجد بريطانيا وصنفتها، راسمة خريطة تراها معبرة عن واقع المجتمع الإسلامي في البلاد إلى حد بعيد.
وفي مقابلة مع «الشرق الأوسط»، قالت بوين «مواطنو بريطانيا ليسوا ملمّين بخلفيات المجتمع الإسلامي في البلاد وواقعه ولا يستوعبون مدى تعقيد تركيبته. ويعود ذلك لنقص المعلومات المتوافرة عن هذا المجتمع». وتابعت: «من المهم أن يستوعب البريطانيون تركيبة المجتمع الإسلامي في البلاد لتفادي تكوين أحكام مسبقة أو أفكار معممة على جميع مكوّناته»، مشيرة إلى أن الجهات الحكومية البريطانية المعنيّة قرأت كتابها واعتبرته «مفيدًا».
الصحافية والباحثة البريطانية كشفت في كتابها أن أكثرية المساجد في بريطانيا تقع تحت إدارة مدرسة فكرية غامضة ومثيرة للشكوك هي الديوبندية. وتشير الإحصاءات التي توصل إليها الباحث محمود نقشبندي، والتي تعتمدها بوين في كتابها حول المساجد في بريطانيا، إلى أن «المساجد الديوبندية في بريطانيا تشكل أكثر من 44 في المائة من العدد الكلي لدور العبادة الإسلامية في البلاد إذ تتعدى السبعمائة مسجد».
ولقد تواصلت بوين مع كبار مفكّري المدارس الإسلامية والبعض رفض أن يقابلها، وعانت من ذلك الرفض مع أفراد المدرسة الديوبندية. إلا أنها – مع ذلك – استطاعت أن تكون الصحافية الوحيدة التي وافق الشيخ الديوبندي أبو يوسف رياض الحق على مقابلتها. وعن هذا الأمر قالت: «تراسلت معه بما كتب عنه، وطلبت توضيحًا مؤكدة له أنه في حال امتناعه عن التعليق، كنت سأذكره في كتابه بحسب المصادر التي اطلعت عليها، ولكنه استاء وقبل مقابلتي لتبرير موقفه».
وحول الجماعة الديوبندية في بريطانيا رأت بوين أنها «جماعة محافظة ومغلقة جدًا وتحمل الكثير من التنوع بداخلها فتتراوح ما بين الاعتدال والتطرف»، واستطردت «إليها تنتمي جماعات شديدة السلمية وكذلك لدى البعض من عناصرها علاقات مباشرة مع حركة طالبان الأفغانية المتطرفة». ويختلف كبار وجوه المدرسة الدربندية من حيث طريقة تعاملهم مع المجتمع البريطاني، فالشيخ إبراهيم موغرا يعتبر من أئمة الديوبنديين المعتدلين، فهو يتابع مباريات كأس العالم لكرة القدم ويحل بصورة شبه دائمة ضيفًا على برامج شبكة الإذاعة «بي بي سي». وفي المقابل، بخلاف موغرا، فإن المفتي محمد بن آدم الكوثري، وهو أيضًا من أئمة المدرسة، وفق كتاب بوين «يوصي في بريطانيا بالابتعاد عن غير المسلمين». هذا، مع أن الإمامين تخرجا من المدرسة ذاتها وهي «دار العلوم العربية الإسلامية» في مقاطعة لانكشاير بشمال غربي بريطانيا. وهنا تلح الحاجة لاستكشاف خفايا فكر المدرسة الديوبندية.

*ما هي الديوبندية؟

يشرح الشيخ حافظ إكرام الحق رباني، رئيس جمعية علماء بريطانيا، لـ«الشرق الأوسط»، تاريخ وتفاصيل الفكر الديوبندي فيقول إن «هذا الفكر يعود إلى مدرسة في بلدة الديوبند في الهند أسستها مجموعة من علماء البلاد الإسلاميين عام 1857. ونمت المدرسة حتى أصبحت أكبر المعاهد الدينية للمذهب الحنفي هناك. ومن ثم أصبحت كل المدارس الدينية بكل أحجامها في كل من الهند وبنغلاديش وباكستان تدرس ذلك الفكر لتصل آثاره حتى إلى أفغانستان وروسيا». وأضاف: «كان تأسيسها في البداية ردًا قويا ومباشرا على الهجمات التي كان يشنها البريطانيون في الهند آنذاك، وبالتالي، كان طريقًا للمقاومة ولوقف الزحف الغربي والمدنية والمادية على شبه القارة الهندية ولإنقاذ المسلمين من مخاطر هذه الظروف، خاصة أن العاصمة دلهي خربت بعد الثورة بعدما سيطر عليها البريطانيون وخاف العلماء المسلمون على دينهم من أن يتعرض للابتلاع».
وبحسب الشيخ رباني فإن أهم مبادئ المدرسة «المحافظة على التعاليم الإسلامية والإبقاء على شوكة الإسلام وشعائره ونشر الثقافة الإسلامية ومحاربة الثقافة الإنجليزية منذ ذلك الزمان وإلى الآن، وأيضًا الاهتمام بنشر اللغة العربية لأنها وسيلة الاستفادة من منابع الشريعة الإسلامية والجمع بين القلب والعقل وبين العلم والروحانية». ويؤكد ذلك أن الديوبنديين «مجموعة محافظين يتمسكون بالتعاليم الإسلامية ويعتبرون الانغماس بالمجتمعات غير الإسلامية ابتلاعًا للدين واستسلاما للزحف الغربي». ويركّز الشيخ رباني أن «الديوبندية حنفية الفقه وماتريدية العقيدة».

*من الهند إلى بريطانيا

يؤكد الشيخ رباني على ما وجد بكتاب بوين حول كثرة انتشار المساجد الديوبندية في بريطانيا، إذ يقول إن: «معظم المسلمين في بريطانيا يتبعون الفكر الديوبندي» ويضيف: «أغلبية المساجد والمراكز الإسلامية في بريطانيا أسسها الباكستانيون والهنود والبنغلاديشيون ومن هنا جاء هذا الفكر». ويستطرد: «مؤخرا بدأ الصوماليون بإنشاء المراكز والمساجد في بريطانيا».
وبحسب كتاب بوين، فإن أهم مجموعتين من الفكر الديوبندي في بريطانيا هما دار العلوم وجماعة التبليغ والدعوة ومعظم قيادات كلا المجموعتين من أصول هندية أو باكستانية. دار العلوم العربية الإسلامية هي أهم وأكبر مدرسة إسلامية في بريطانيا توفر المنهاج المدرسي البريطاني إلى جانب التعليم الإسلامي أيضا للذكور والإناث. وتقع نحو 22 مدرسة تحت مظلة دار العلوم حول المملكة. ومع أن التعليم في تلك المدارس محافظ، إلا أن المناهج معتدلة وبعيدة عن التطرف.
وعلى خلاف ذلك، وثقت صحيفة «التايمز» البريطانية الشهر الماضي في حادثة أخرى أمثلة عن استضافة دعاة اعتبرتهم متطرفين من باكستان كحافظ سعيد ومسعود عازار وغيرهما في المساجد الديوبندية لإلقاء خطب. وحول ذلك تعقب بوين بقولها: «هناك أمثلة استضافت فيها بعض المساجد الديوبندية شخصيات من جنوب آسيا مرتبطة بالجماعات المتطرفة هناك»، وتستطرد بحسب معلومات جمعتها: «وبعد الندوات تم تسهيل تجنيد بعض المسلمين البريطانيين وإرسالهم لمعاقل تدريب المتطرفين في باكستان وتدرب في تلك المعسكرات العناصر التي قامت بتنفيذ هجمات إرهابية في بريطانيا بعد ذلك». وبهذا نتساءل إن كانت أكبر مجموعة إسلامية في بريطانيا على علاقة بالتطرف داخل وخارج البلاد.

* «طالبان» في مساجد البريطانيين

يشير كتاب بوين إلى أنه خلال تسعينات القرن الماضي كانت هناك علاقات مباشرة بين بعض ديوبنديي بريطانيا وحركة طالبان المتطرفة في أفغانستان ويكشف عن زيارة عناصر من الحركة إلى بريطانيا. كما يوثق أن ممثلي الحركة في بريطانيا قاموا بجمع التبرعات لبناء المدارس والمشافي في أفغانستان. وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية، كانت توزع مجلة طالبان في بعض المساجد الديوبندية، لكن المطبوعة اختفت بعدها. ويسرد الكتاب علاقات بعض ديوبنديي بريطانيا مع حركات متطرفة أخرى مرتبطة بتنظيم القاعدة وهما حركتان كشميريتان: جيش محمد وحركة المجاهدين استضافوا دعاة من هناك حضرها أكثر من عشرة آلاف مسلم هندي وبنغلاديشي.
وحول ذلك، تقول بوين: «لم أزر مساجد كافية لأعمم مدى درجة التطرف خلال الخطب ولكن في مسجد في جنوب شرقي لندن زرته مع (بي بي سي) أثناء تصويرنا لتقرير عن التطرف، كانت الخطبة مؤيدة وبشدة لتنظيم القاعدة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر».
وفي سياق متصل، تكشف بوين في كتابها عن جماعة دعوية ديوبندية تحت اسم «جماعة التبليغ والدعوة» ظهرت في بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعلى علاقة تلك الجماعة بالتطرف. فبحسب معلومات رصدتها بوين، كشفت تحقيقات ما بعد تفجيرات لندن الانتحارية التي استهدفت المواصلات العامة في يوليو (تموز) عام 2005 أن بعض المتورطين في هذه الهجمات إلى جانب هجمات إرهابية أخرى كانوا على علاقة بجماعة التبليغ، وهم: زكريا موساوي الانتحاري رقم عشرين الذي جند لتنفيذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ولكن اعتقلته السلطات قبلها وريتشارد ريد مفجر الحذاء الذي حاول وفشل في تفجير نفسه على متن طائرة من ميامي إلى باريس بعد أسابيع قليلة من تفجيرات نيويورك. إلى جانب ثلاثة من أربعة انتحاريي تفجيرات لندن كانوا يحضرون حلقات نقاش جماعة التبليغ والدعوة. وتنوه بوين أن تلك الحلقات التحريضية على التطرف كان تنظيمها «أسهل قبل هجمات يوليو الإرهابية ولكن بات الأمر أكثر صعوبة الآن». وإلى جانب ذلك، ندد مجموعة من العلماء الديوبنديين في بريطانيا بهجمات لندن الإرهابية وأصدروا فتوى تحرم شن هجمات ضد مواطنين بريئين.

*التطرف في المدارس أو خارجها؟

يشدد رئيس جمعية علماء المسلمين في بريطانيا الشيخ رباني على أن «الديوبندية هي المنهج المعتدل للإسلام والبعيد عن التطرف كل البعد». وعن تفسيره حول السبب أن معظم قياديي حركة طالبان تخرجوا من المدارسة الديوبندية، يقول رباني: «غالبية المدارس الموجودة في الإقليم الشمالي الحدودي مع أفغانستان هي ديوبندية وتخرج من التحقوا فيها هناك»، ويضيف: «لكن هذا لا يعني أن المدارس الديوبندية تنشئهم على التطرف أو على الإرهاب فليس في تلك المدارس مرافق ميدانية أو تدريبات لاستخدام الأسلحة وهي مدارس بسيطة جدا». ويستطرد بقوله إنه: «هناك تيارات أخرى خارج الديوبندية هي التي أخذتهم واستغلتهم وحولتهم إلى درب التطرف». ويختتم قوله: «الجامعات ودور العلم تعطي العلم لكن الشخص نفسه يتجه لجهة معينة بعد ذلك وهذا الأمر يعود له».
وبعد أن أمضت إينيس بوين سبع سنين وهي تكشف خفايا المجتمع الإسلامي في بريطانيا تستنج أنه ذات تركيبة معقدة ومتعددة من الاعتدال إلى بوادر التطرف. وحول أسباب زيادة التطرف بين بعض المسلمين في البلاد تقول الباحثة البريطانية: «مجموعة من العوامل تساهم في نشر التطرف، منها تأثير الدعوة في بعض المساجد على المصلين، والمجتمعات المغلقة التي يعيشون بها بعيدا عن باقي المجتمع، ومشاعرهم بعدم الانتماء جراء عدم تقبل المجتمع الأوسع لهم، والتغيرات العالمية والسياسية أيضا، ويعتمد ذلك على الفرد وتجاربه الشخصية».
وتشير إينيس أخيرا إلى أن التاريخ الحديث أثبت لنا أن «معظم المسلمين البريطانيين الذين تورطوا في هجمات إرهابية أو أعمال متطرفة من نشآت متنوعة فمنهم من ولد في عائلة مسلمة ومنهم من اعتنق الإسلام بعد نشوئه وتتباين حالاتهم الاجتماعية والثقافية أيضا».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.