يذكر المترجم الشهير دنيس جونسون ديفيز، الذي يصفه نجيب محفوظ وإدوارد سعيد، برائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية، أنه «لو لم يحصل محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 لما وجد، لأسباب تتعلق بصناعة النشر البريطانية، ناشرًا واحدًا ينتمي إلى تيار النشر الرئيسي مستعدًا لنشر أعماله». وهذا صحيح تمامًا؛ فقبل ذلك لم يأخذ محفوظ طريقه إلى القارئ الغربي، وإن بشكل محدود جدًا، إلا عبر دور نشر صغيرة، أو دور نشر مستقلة، كما يسمونها في الغرب، وهي دور النشر غير المرتبطة بكارتلات دور النشر الكبرى.
تجربة الكاتب الجامايكي مارلون جيمس، مؤلف رواية «تاريخ مختصر لسبع جرائم قتل» التي فازت بجائزة بوكر لهذا العام، مع دور النشر الكبيرة تذكرنا بهذه الحقيقة. فقد رفضت دور النشر هذه روايته الأولى «كتاب نساء الليل»، عام 2009، 77 مرة، ولم يجد أمامه سوى اللجوء إلى دار نشر مستقلة، وكذلك فعل مع روايته الثانية «شيطان جون كراو»، وروايته الفائزة.
كارتلات دور النشر الكبرى في الغرب، ونتحدث هنا عن بريطانيا، لا تقل عن هيمنة شركات النفط الكبرى وغيرها، كما أن دورها في تحريك الاقتصاد الوطني قد يساوي أي صناعة إنتاجية أخرى. ولكن هذا ليس كل شيء. لقد كرست هذه الدور العريقة، التي يرجع تاريخ بعضها إلى القرن السابع عشر (هذا إذا لم نتحدث عن مطبعة جامعة كمبردج، أقدم دار نشر في العالم، التي تأسست عام 1534، وكذلك مطبعة جامعة أكسفورد)، تقاليد تحولت بمرور الزمن إلى أعراف وقوانين مع الصعب اختراقهما. إنها نحو عشر دور نشر، تدر أكبرها، «بنغوين هاتيشت ليفر»، 409 ملايين إسترليني سنويا، وأصغرها، «جون ويليو»، 27 مليون جنيه إسترليني في المملكة المتحدة وحدها، حسب إحصائية نشرت عام 2012.
والكتّاب الذين ينشرون في هذه الدور، أو تنشر هذه الدور لهم، هم كتاب مكرسون متفرغون كلية للكتابة، فالأرباح التي تحققها كتبهم تضمن لهم العيش الرغيد. والتكريس هنا لا يعني بالضرورة أنهم كلهم كتاب مجيدون، أو جيدون، فقد يكون بعضهم قد خدمه الحظ ببساطة فحقق «ضربته»، أو أن نوع إنتاجه يجد له صدى عند جمهور القراء. ولكن هذا وحده لا يكفي في السوق، إذ لا بد من معايير مهنية عالية تخدمها ماكينة إعلامية ضخمة. فما إن يصدر كتاب عن هذه الدور حتى تجد عنه مراجعات في معظم الصحف البريطانية. أما الكتاب الجيدون غير المعروفين، ونتحدث هنا عمومًا، فليس أمامهم سوى دور النشر المستقلة، التي لا تملك حتى ربع الإمكانيات التي تتمتع بها الدور الكبرى، ونتيجة لذلك يبقى منتجها محدود التوزيع والانتشار. إنها الدور التي لا تركز فقط على تحقيق الربح، فأصحابها في أغلبهم لا يدفعهم سوى حب خالص للأدب، وبعض من حب المغامرة في هذا المجال.
وبعض هذه الدور قديم جدا مثل «موراي»، التي تحمل اسم الرجل التنويري الذي أسسها في القرن الثامن عشر، سعيًا منه لنشر المعرفة. لكن هذا الدار لم تصمد في زمن «الصناعة المعولمة»، كما قال أصحابها، فاشترتها عام 2014 دار «هودر هيدلاين»، إحدى كبرى دور النشر.
إحدى هذه الدور المستقلة، وهي «وانورلد»، هي التي غامرت وطبعت رواية «تاريخ مختصر لسبع جرائم قتل»، ونجحت في مغامرتها.
ولا شك أن دور النشر الكبيرة ستتسابق على شراء حقوق نشر أعمال مارلون جيمس المقبلة، وستدفع له حتى قبل أن يكتب حرفًا واحدًا، هذا إذا لم تكن فعلت ذلك للتو. إنه هدية جاهزة من دار نشر صغيرة غامر زوج وزوجته على إنشائها قبل عشر سنوات وسط الحيتان الكبيرة.
جائزة بوكر هذا العام.. خارج هيمنة الناشرين الكبار
جائزة بوكر هذا العام.. خارج هيمنة الناشرين الكبار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة