نظام «غوغل» للواقع الافتراضي.. يثري العملية التعليمية

طلاب مدرسة أميركية تجولوا بواسطته في رحلة سياحية إلى موطن «روميو وجولييت»

طالبات يستخدمن النظام العارض للواقع الافتراضي المكون من ورق مقوى وهاتف جوال
طالبات يستخدمن النظام العارض للواقع الافتراضي المكون من ورق مقوى وهاتف جوال
TT

نظام «غوغل» للواقع الافتراضي.. يثري العملية التعليمية

طالبات يستخدمن النظام العارض للواقع الافتراضي المكون من ورق مقوى وهاتف جوال
طالبات يستخدمن النظام العارض للواقع الافتراضي المكون من ورق مقوى وهاتف جوال

اصطحبت جيني تشوي، معلمة اللغة الإنجليزية، طلبتها من الصف السادس في جولة بمدينة فيرونا الإيطالية، حيث استلهم ويليام شكسبير مسرحية «روميو وجولييت» التي كانت تدرسها العام الماضي لتلاميذ مدرسة «ماريانو أزولا» الابتدائية بمدينة شيكاغو الأميركية.
وطلبت الآنسة تشوي من طلبتها خلال الرحلة فحص الواجهة المزخرفة لمبنى يعود تاريخه إلى عدة قرون خلت، ويشتهر بين السائحين بأنه «منزل جولييت»، حيث عاشت العائلة التي ربما ألهمت المسرحي البريطاني شخصية البطلة الخيالية. كما شجعت طلبة الصف السادس الابتدائي على تفحص المقبرة المتداعية التي يمكن أن يتخيلوا أن شخصية جولييت دفنت بها.
لكن الطلبة لم يكونوا مضطرين إلى مغادرة حجرة الدرس في شيكاغو لمراجعة الخلفية الإيطالية للمسرحية الشهيرة. وبدلا من ذلك، وفي إطار مشروع تجريبي لنظام افتراضي للرحلات الميدانية من إنتاج «غوغل»، استخدم طلبة الآنسة تشوي النظام العارض للواقع الافتراضي، المكون من ورق مقوى وهاتف جوال، بينما استعملت معلمتهم تطبيقًا لترشدهم عبر مشاهد مجسمة للبلدة الإيطالية.
* نظام تجوال افتراضي
وتقول السيدة تشوي: «لا يستقيم أبدا أن تقف في صف يضم طلبة في سن الثانية عشرة وتلقي محاضرة فحسب»، مشيرة إلى أن كثيرا من الطلبة يتعاملون بالفعل مع أجهزة مثل الهواتف الذكية والكومبيوترات المحمولة وأنظمة الألعاب، وبذلك اعتادوا الحصول على المعلومات بصورة فورية وبصرية كذلك. وهكذا سارعت الآنسة تشوي إلى قبول عرض «غوغل» بالتعاون في إنجاز رحلة افتراضية إلى فيرونا من أجل طلبتها.
وتقدم «غوغل» نظام محاكاة الجولات الميدانية، الذي تطلق عليه اسم «إكسبيديشنز»، مجانًا للمدارس في إطار مسعى الشركة لتطوير هذه التقنية.
ويسلط إمداد «غوغل» المدارس بمعدات الواقع الافتراضي، الضوء على الأهمية المزدادة لقطاع التعليم بالنسبة لشركات التقنية الكبرى، وأيضًا المنافسة المتصاعدة فيما بينها. وعلى سبيل المثال، قدمت شركة «غوغل» للمدارس عام 2006 «تطبيقات من أجل التعليم» بالمجان، وهي مجموعة من تطبيقات البريد الإلكتروني والتقويم ومنتجات تبادل المستندات القائمة على الخدمات السحابية. والآن يستخدم 45 مليون طالب ومدرس من مختلف أنحاء العالم تلك التطبيقات، حسبما تفيد الشركة. كما اجتذبت «مايكروسوفت»، بدورها، جمهورًا عريضًا من المدارس لبريدها الإلكتروني، وخدمات البحث، والتقويم، و«سكايب».. وبرامج أخرى. كما قدمت «مايكروسوفت» أخيرا منتجات جديدة كثيرة لعملائها في قطاع التعليم، من بينها تطبيق لتدوين الملاحظات يسمى: «ون نوت كلاس نوتبوك».
لكن ظهور نظام «غوغل - إكسبيديشنز» Google Expeditions يؤذن أيضًا بتحول في استراتيجية هذا القطاع. كانت بعض الشركات التقنية الرائدة قد اتخذت مؤخرًا قرارًا بالتركيز على تصميم منتجات موجهة خصيصًا للاستخدام في الصفوف الدراسية، بدلاً من الاكتفاء بتعديل منتجات المستهلكين والمؤسسات القائمة بالفعل ثم تسويقها بين المدارس.
وقدمت «غوغل» العام الماضي تطبيق «كلاسروم» المجاني الذي يستطيع المعلمون استخدامه في إنشاء وجمع وتصحيح فروض الطلبة المدرسية. كما أعلنت شركة «فيسبوك» هذا الشهر أن مهندسيها يتعاونون مع «مدارس سمت العامة» في كاليفورنيا لإنتاج برامج تهيئ عملية التعلم لتناسب كل فرد من الطلبة. كما عمل مهندسو «غوغل» على المنوال نفسه مع المعلمين لتطوير رحلات ميدانية افتراضية استنادًا إلى المناهج التعليمية.
وصرح مؤخرًا بن تشروم، مدير إنتاج في وحدة «تطبيقات (غوغل) للتعليم»، بأنه «تقريبا لا توجد أي سابقة لاستخدام هذه التقنية في المدارس.. نشعر حقًا بأننا نكسر حلقة إعطاء المدارس تقنيات الماضي».
* رحلات ميدانية
ولا تعد فكرة الرحلات الميدانية الافتراضية جديدة؛ حيث دأب بعض المعلمين على مدار السنين على استخدام خدمة «سكايب» للاتصال عبر الدوائر التلفزيونية المغلقة، في اصطحاب الطلبة إلى جولات بالأماكن المهمة، أو دعوة خبراء من الخارج للقيام بزيارات افتراضية إلى صفوفهم الدراسية.
إلا أن نظام «غوغل» للرحلات الميدانية الافتراضية أكثر ثراء وعمقًا، ويمثل إضافة إلى مجموعة أدوات «غوغل» التي تجعل من الأماكن البعيدة أكثر قابلية للاستكشاف؛ وإن كانت من خلال عيون «غوغل».
ويستخدم نظام «إكسبيديشنز» مناظر بانورامية تربط الصور من «ستريت فيو»، وهو منتج لشركة «غوغل» يعرض صور الطرق. كما تستخدم الشركة نظاما من 16 كاميرا، من إنتاج «غوبرو»، لإنشاء صور ثلاثية الأبعاد للرحلات الافتراضية.
وتقدم «غوغل» في الوقت الراهن «إكسبيديشنز» بالمجان للمدارس، لكن الشركة قد تفرض في نهاية المطاف رسومًا على استخدام النظام.
وصرح السيد تشروم قائلاً: «أتوقع بالتأكيد سيناريو نبيع خلاله تلك المعدات للمدارس.. يتوقف ذلك على مدى نجاحنا في تخفيض التكلفة إلى مستوى مقبول». وتشمل معدات «غوغل» المقدمة للمدارس هياكل العرض من الورق المقوى، علاوة على هواتف «إيسوس» الذكية لكي يستخدمها الطلبة شاشات عرض للجولات الميدانية الافتراضية.
وفي إطار البرنامج أيضًا، ابتكر معلم للاقتصاد لطلبة الصف الثاني عشر يدعى هيكتور كامتشو، «جولة الكساد العظيم» في مانهاتن. وتأخذ الرحلة طلبته إلى المقر السابق لشركة «ليمان براذرز»، ومكاتب «غولدمان ساكس»، والسلطات التنظيمية الفيدرالية الضالعة في الأزمة المالية عامي 2007 و2008. وقال كامتشو الذي يعمل في «مدرسة القديس فرنسيس الثانوية»، وهي مدرسة كاثوليكية خاصة في ماونتن فيو بكاليفورنيا، إنه كان بمقدوره بكل سهولة أن يعد لطلبته عرضًا عن الموضوع باستخدام برنامج «باور بوينت». لكنه أكد أنه كان يريد أن يغمر صفه بصريًا في الأماكن التي لعبت أدوارًا مهمة في الأزمة لكي يمنحهم إحساسا ملموسًا بالتأثير المحتمل للسياسات النقدية والمالية. وأضاف أنه رأى في «إكسبيديشنز» وسيلة تعليمية مساعدة يمكن استخدامها من حين لآخر مع الطلبة. ويقول: «إنها وسيلة أخرى فحسب لإيصال فكرة أن هناك عواقب فعلية» لتصرفات المؤسسات والحكومات.
وتمكنت «غوغل» حتى الآن، ومن خلال التعاون مع المعلمين، من أن تطور نحو مائة رحلة - من بينها زيارات افتراضية إلى سور الصين العظيم، وقاعة الاستقلال في فيلادلفيا، وتشكيل صخري في متنزه «يوزمايت» الوطني - اختبرتها صفوف مختلفة في الرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية واللغات وغيرها من الصفوف الدراسية. وتطمح الشركة إلى استغلال نظام «إكسبيديشنز» أداة لاصطحاب الطلبة في جولات افتراضية بالكليات، أو مساعدتهم على استكشاف خيارات المستقبل المهني عبر عروض افتراضية لأيام العمل التي يعيشها الأطباء البيطريون وغيرهم من أرباب المهن الأخرى. كما صورت الشركة هذا الشهر السيدة ميشيل أوباما أثناء زيارتها إلى جامعة هاورد الأهلية. وقال تنفيذيون في «غوغل» إنهم يتوقعون إنتاج رحلات افتراضية للجامعات تمكن الطلبة من التعرف على مجموعة متنوعة من المعاهد التعليمية، لا سيما إذا كانوا غير قادرين على السفر لمسافات طويلة. وتقول جنيفر هولاند، مديرة برامج في وحدة «تطبيقات (غوغل) للتعليم»، إن «الأمر لا يتعلق دومًا بالصور الأروع.. ولكن أيضًا بالقدرة على رؤية أشياء مختلفة لا توجد سبيل أخرى لمشاهدتها».
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)