ترتكز رواية «مياه متصحِّرة» لحازم كمال الدين على التقنيات الحداثية التي تجمع بين عدة أجناس أدبية في النص الروائي بحيث يغدو هذا الأخير مَصهرًا تذوب فيه القصص الواقعية، والحكايات الخرافية، وسِير الأجداد والأحفاد لتنتج في نهاية المطاف عملاً أدبيًا غرائبيًا يستمد شطحاته الفنتازية من الواقع العراقي المرير الذي أذكت فيه الأحزاب الدينية المتخلفة والاحتلال الأميركي جذوة الطائفية المقيتة وأوصلت العراق إلى حافة الانهيار.
لم تخرج «مياه متصحِّرة» عن ثيمة الطائفية التي عالجها حازم كمال الدين في روايته الأولى «كباريهت» لكنه يضعنا أمام مقاربة جديدة تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة في آنٍ معا. فرغم راهنية الأحداث فإنها ترتد إلى زمن السومريين أو تستشرف المستقبل عبر مخيلة عجائبية يتوفر عليها كاتب النص ومبدعه.
يحتاج الناقد والقارئ معًا إلى الإمساك بعصب الثيمة الرئيسية التي تهيمن على النص الروائي، خصوصا أن البطل هو سارد النص، وكائنه السِيري، ومؤلفه، وبه تبدأ الرواية وتنتهي نهاية وجودية أو عدمية إن شئتم، لكنها لا تخلو من النبرة الفلسفية المجنّحة.
قد يبدو موت السارد حازم كمال الدين السفّاح في قصف أميركي على سوق شعبية ببغداد حدثًا طبيعيًا مألوفًا اعتاده العراقيون منذ الاحتلال وحتى الوقت الراهن، لكن هذا الحدث «الطبيعي» سيخرج عن مألوفيته في «مثلث الموت» حينما ينحر الإرهابيون جثته ويفصلون رأسها عن جسدها لأن ذويه نسوا أن يشتروا له هوية سنيّة مزورة. كما تتعمق غرائبية الحدث وتصل إلى أقصى مداها الفنتازي حينما تُقسّم الجثة إلى قسمين حيث يُدفَن القسم الأكبر منها في مقبرة أبي حنيفة النعمان في الأعظمية، بينما يُدفن القسم الأصغر منها الذي لا يتجاوز الكفّ اليسرى المقطوعة السبّابة في مقبرة وادي السلام بالنجف.
وبما أن حازم كمال الدين كان سينمائيًا وقد أخرج فيلما يحمل عنوان «مياه هائجة» يدين الديكتاتورية لكن سلطة النظام السابق زوّرته وغيّرت عنوانه إلى «مياه متصحرة» وجعلته يمجد النظام، ومنحت مُخرجه وسام الجمهورية.
الجد الأكبر عبد الحميد كمال الدين الذي سفح دم الثور المجنح فسُمّي بالسفّاح يتزوج من عروسة ابنه سعدون بعد أن يبعث به إلى بغداد كي يشتري الخواتم تجنبًا لما قد يصيبه في ليلة الدخلة من مكروه، فيقرر الأب ألا يدخل بابل إلى يوم الدين، وبعد سنة تنجب الفتاة صبيًا يسمونه خالد، وهو ذات العام الذي وُلِد فيه الراوي.
تنحى الأحداث منحى أسطوريًا حينما يعود بنا الراوي إلى الزمن السومري، وفرقة «الكَوالين»، والكاهن كَالاماخ، والنبي سليمان لكننا سرعان ما نجد أنفسنا أمام الأب سعدون، عالم الآثار الذي استقبله الديكتاتور بنفسه، وحثّ الرئيس على أهمية التنقيب في ضريح ذي الكفل، واعترض على مقترح لضابط كان يريد أن يُنحَت اسم الرئيس على أحجار بابل. وقد كان مرد اعتراضه هو: كيفية الدفاع عن أصالة الآثار إذا نُحِت عليها اسم الرئيس؟ لقد فبركَ جلاوزة النظام للعم خالد قصة التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس وفي اليوم ذاته منحوا ابن أخيه أعلى وسام في الدولة. كما كُرِّم والده سعدون بلا سبب وبعد عامين رموه في حوض التيزاب ليصبح أثرًا بعد عين.
ورغم أهمية مَشاهد الرواية الفنتازية برمتها فإن المشهد الأخير هو الخلاصة التي استقطرها الروائي المبدع حازم كمال الدين بضربة فنية أعادت النص إلى صوابه وجعلت «صاحبة المقهى» تبتسم وتلتف على نفسها وتختفي في مدخل الغابة ولا يتبقى من المكان شيء سوى العدم. ثم يتناهى صوتها متمنية له إقامة خالدة في ذلك اللاشيء.
هذه هي بعض المفاصل الرئيسية التي نعتقد أنها أساسية في حبكة الرواية وهندستها المعمارية القائمة على نسقين سرديين وهما النفق الحلزوني الذي يتسع لأحلام السارد الفنتازية، وكوابيسه السوداء، والعالم الواقعي القار الذي تصل تجلياته إلى حدّ الأسطورة والخيال والإدهاش.
لا بد من الأخذ بعين الاعتبار تقنية الكاتب وأسلوبه المفضّل في التعاطي مع نص روائي لا يحبِّذ الانتماء إلا إلى الفضاءات الحداثية، الفنتازية، الميتاسردية التي هيّأ بعضها الواقع العراقي المفجع الذي بات يفتقر إلى التعايش السلمي بسبب الأحزاب الدينية المتشددة التي كرّست الطائفية، وبثّت سمومها في خريطة الجسد العراقي وحوّلت حياة العراقيين إلى جحيم لا يُطاق.
يميل حازم كمال الدين إلى السرد الحكائي، فهو حكواتي في المسرح، وينتصر إلى زجّ الحكاية في بنية النص الروائي، ومنها حكاية ذبح الديك، وسفح دماء الثور المجنح، والطنطل، والحصيات الثلاث لهدهد الأهوار، والبشر العقارب، وموقع ذي الكفل، وقلعة أبو زعبل وما إلى ذلك من قصص نسجتها مخيلة الكاتب الموهوب وجعلتها مقبولة ضمن آلية السرد العجائبي.
لا تركن هذه الرواية إلى الفنتازي والغريب واللامألوف فحسب، وإنما تميل إلى الجانب العلمي كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فعالم الآثار سعدون الذي أعدم بسبب الخيانة العظمى لأنه لفت انتباه الرئيس إلى ضرورة التنقيب في ضريح «ذي الكفل» كان يبحث في الانحرافات الوراثية أو خطايا الآباء، وكان هذا هو السبب الذي دفعه لدراسة الآثار وزيارة ضريح الوالي الهارب من بابل قبل 4000 سنة إلى قرية ذي الكفل حيث التقى سادن الضريح الذي نقل لحازم كمال الدين سرًّا وطلب منه أنه يوثِّقه في شريط يوحي للآخرين بأنه فيلم خيالي لا غير.
قصص سجون النظام السابق ونمور عدي صدام معروفة لكن أن يتحول ضباط الديكتاتور وعناصره الأمنية إلى شيوخ ورجال دين فهذا هو الشيء غير المعروف بعينه ويحتاج إلى دراسة مستفيضة، ولعل شخصية هجول التكريتي هي خير أنموذج لهذا التحول، فلقد كان عقيدًا في الأمن في عهد النظام السابق لكنه سيتحول بين ليلة وضحاها إلى شيخ جامع في منطقة أبو غريب بعد السقوط. كما أن مخبري الحرس الوطني يرون في حازم كمال الدين نفسه أنه قد تحول فكريًا من العلمانية إلى التعصب الإسلامي. وإمعانًا في أسطرة هذه الشخصية العلمانية المفرطة في تناول المشروبات الروحية فإن المدعو هجول التكريتي يحمله على ظهره من اتحاد الأدباء إلى غرفة الإنعاش في المستشفى ويقرأ في أذنه تعاويذ سحرية توقظه من غيبوبته، وبعد أيام من صحوته صارت الدوريات الأمنية تعثر في ساحة الأندلس على جثث مقطوعة الرؤوس!
لقد أفاد حازم كمال الدين من حوادث كثيرة معروفة لدى القارئ مثل حادثة الاستعراض العسكري التي كانت تستهدف حياة الديكتاتور لكنها اكتشفت في اللحظات الأخيرة فذهب ضحيتها المخططون والمنفذِّون والكثير من المُشتبه بتورطهم بهذه المؤامرة.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى لغة حازم كمال الدين المستوحاة من اهتمامات فنية وقراءات جادة كثيرة، فهو في الأصل كاتب ومخرج مسرحي يزاول مهنته منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، وقد تألق في غالبية عروضه المسرحية، وحاز على بعض الجوائز المهمة التي تشير إلى موهبته الواضحة، وقدرته الإبداعية في التأليف والإخراج المسرحيين. وبعد ثلاثة عقود يكتشف حازم شغفه بكتابة النصوص الروائية الحداثية أو ما بعد الحداثية أيضًا. فلقد سبق له أن تألقَ في عمله الروائي الأول، وها هو الآن يعزز مكانته كروائي عراقي متميز، لغة وأسلوبًا ورؤية.
«مياه متصحِّرة».. نصٌ روائي عراقي عابر للطائفية
تجمع بين عدة أجناس أدبية
«مياه متصحِّرة».. نصٌ روائي عراقي عابر للطائفية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة