تاورغاء دفعت ثمن استضافة قوات القذافي

«الشرق الاوسط» تلتقي عائلات النازحين

آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
TT

تاورغاء دفعت ثمن استضافة قوات القذافي

آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})
آثار الدمار تبدو واضحة في تاورغاء الليبية (صورة خاصة بـ {الشرق الأوسط})

كانت هناك بعض اللحظات عندما تثير الرياح الغبار في الفضاء الصحراوي المنبسط الذي تغطيه بعض الشجيرات المتناثرة هنا وهناك، ثم تصنع حبيبات الرمل العالقة بالهواء حجابا برتقالي اللون يحجب أشعة الشمس. وبين الحين والآخر، يسمع دوي صفق الأبواب بسبب الرياح التي تعصف بالمنازل بين الفينة والأخرى، وفي هذه الأثناء، يبدو الأمر وكأنه لا تزال هناك حياة في مدينة تاورغاء (تتبع محافظة مصراتة وتبعد عن مدينة مصراتة 40 كيلومترا إلى الغرب)، ويتخيل المرء أنه في أي لحظة سيعود الناس لبيوتهم ليزيلوا الكتابات من على جدران المنازل، ويصلحوا النوافذ، ثم يلبسوا أحذيتهم التي تركوها متناثرة على درجات السلم ليستأنفوا ما كانوا يفعلونه قبل مغادرتهم منازلهم. لكن فجأة، هدأت العواصف الرملية بنفس السرعة التي هبت بها. وعندما انقشع الغبار، ظهرت المدينة في حالة مزرية: أفق ممتد تغطيه أشجار النخيل الصريعة على الأرض.. بيوت محترقة وهياكل سيارات يعلوها الصدأ.

يصف البعض تلك الصورة، التي ظهرت عليها مدينة تاورغاء، بأنها عار على الثورة الليبية. كانت تاورغاء هي الضحية التي شهدت قدوم متمردي مصراتة للأخذ بثأرهم بسبب الحصار الدموي الذي استمر ثلاثة أشهر ضد مدينتهم. دفعت تاورغاء ثمن ولائها للقذافي، حيث إنها استضافت - على مدى ستة أشهر - قوات النظام التي كانت تطلق القذائف وصواريخ «غراد» باتجاه مدينة مصراتة. غير أنه بعد أن استطاع الثوار كسر الحصار والتقدم باتجاه تاورغاء في أغسطس (آب) من عام 2011، تراجع جيش القذافي من دون قتال وترك أهل المدينة عزلا من دون سلاح. وعندما وصل المتمردون إلى تاورغاء، طاردوا أهلها وأخرجوهم منها، ثم أشعلوا النيران في منازلهم للتأكد من أنهم لن يعودوا إليها مرة أخرى. في الماضي كان يعيش 40 ألف نسمة في تاورغاء، أما الآن فالبلدة خالية تماما من الحياة. قدرت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن نحو 170 ألف نسمة تشردوا خلال النزاع في ليبيا، لكن البلاد شهدت عملية إعادة توطين سريعة إلى حد كبير. وقد عاد أكثر من ثلثي هذا العدد بالفعل إلى ديارهم أو جرى تسكين بعضهم بشكل دائم في أماكن أخرى. لكن جميع الذين فروا من بلدة تاورغاء ما زالوا يعيشون في مخيمات بائسة مؤقتة في طرابلس وبني وليد وبنغازي.

* كفى إراقة للدماء
* وفي رقعة أرض خالية من الماء بجانب الطريق السريع المزدحم على مشارف طرابلس، يقود طريق وعر زلق إلى مجموعة من الثكنات - المبنية من كتل خرسانية - والتي يعيش بها ثلاثمائة أسرة من بلدة تاورغاء على مدى العامين ونصف العام الماضية. لم يجر بناء تلك الثكنات لتكون منازل دائمة، حيث كانت قد جرى بناؤها كوحدات لإقامة العمال المؤقتين من قبل شركة تركية غادرت ليبيا على عجل عندما اندلع القتال في عام 2011. داخل تلك البنايات، تشعر بحرارة شمس فبراير (شباط) خانقة بالفعل. لم تكن هناك حمامات خاصة أو أي نظام للتخلص من النفايات في ذلك المخيم، الذي تصل إليه رائحة كريهة بسبب حرق القمامة عبر مدخل المخيم. وقد توفر أخيرا صهريج ينقل مياه الشرب للمخيم، حيث كان الناس يشربون المياه المالحة من نهر قريب.
تبدو النساء هن اللائي يحافظن على تماسك عائلاتهن الآني. وعند البناية تلو الأخرى، ترى الزوجات يقفن وقد تشبث الأطفال بأرجلهن. وتحكي كل واحدة منهن كيف جرى اعتقال أزواجهن وأبنائهن الكبار من قبل ميليشيات مصراتة. تقول إحداهن: «كفى إراقة للدماء، نريد فقط أن يعود إلينا أبناؤنا الذين يقبعون في السجون في الوقت الحالي»، ثم انهارت باكية. الأمر الصادم حقا هو السرعة التي ذرفت بها دموعها؛ فقبل تلك الدموع بدقيقة واحدة، كانت تغطي وجهها ابتسامة عريضة وهي ترحب بنا في منزلها. لكنها عندما انفجرت باكية بصوت عال، أصبح واضحا أن دموعها لم تكن بعيدة جدا عن السطح.
أما «زهرة»، فلم يكن لديها أدنى أمل تتشبث به في ما يخص عودة زوجها المعتقل. كان زوج «زهرة» يقود سيارته في طرابلس خلال أيام الفوضى التي أعقبت سقوط تاورغاء في يد قوات الثوار، عندما جرى إيقافه عند نقطة تفتيش ميليشيا من مصراتة. ألقي القبض عليه واقتيد إلى أحد الأماكن، ولم تسمع عنه عائلته أي أخبار لما يقرب من شهر. وأخيرا تلقت «زهرة» مكالمة تخبرها أن زوجها يرقد ميتا في أحد مستشفيات مصراتة. وعندما أحضرت جثته إلى المخيم، لاحظت «زهرة» وجود علامات التعذيب على جسد زوجها. أصرت «زهرة» على أن جريمة زوجها الوحيدة هي أنه كان من أهالي بلدة تاورغاء. تقول «زهرة» عن زوجها إنه «لم يكن عضوا في الجيش النظامي ولم يشترك في الحرب. لقد اعتقلوه عشوائيا من الشارع بسبب بشرته السوداء».
ومثل «زهرة»، هناك العديد من أبناء بلدة تاورغاء يؤمنون بأن العنصرية تعد أحد الأسباب الرئيسة وراء المحنة التي يواجهونها. ويتحدر سكان تاورغاء من عبيد غرب أفريقيا الذين يتميزون ببشرة داكنة أكثر من غالبية الليبيين. وعلى الرغم من أنهم عاشوا في البلاد على مدى عدة قرون ويتحدثون اللغة العربية ويدينون الإسلام ويعيشون في سلام جنبا إلى جنب مع باقي الليبيين قبل الثورة، فإنهم يعتقدون أنهم قد وضعوا بالتبعية في خانة المرتزقة الأفارقة السود الذين جنّدهم القذافي للقتال إلى جانب جيشه خلال الصراع.
لكن المسألة تبدو أكثر تعقيدا. يقول مبروك ميدويسي، وهو زعيم محلي من تاورغاء: «لقد هتف جميع أبناء تاورغاء (يعيش القذافي!)». وأضاف ميدويسي، الذي كان جالسا في مكتبه الصغير على مشارف المخيم: «جميع أبناء تاورغاء من الفقراء، ولكن عندما سأل القذافي عما نريده، قلنا (نريد أن نراك بصحة جيدة فقط)».
كان القذافي يرى أهل تاورغاء كحلفاء. وقبل بضع سنوات من الثورة، بنت الحكومة 1.500 منزل جديد لأهالي البلدة، وقام القذافي نفسه بزيارة رسمية إلى البلدة في عام 2010. وعندما اندلعت شرارة الثورة، كان أهل تاورغاء سعداء إلى حد كبير باستضافة قوات النظام، حيث كانت النساء يقمن بطهي الطعام لهم، كما انضم الكثير من رجالها للقتال ضد متمردي مصراتة. يقول مبروك ميدويسي «عدّ رجال تاورغاء أنفسهم يحمون البلاد ضد المتمردين والميليشيات المسلحة. غير أن ذلك يبدو مشكلة كبيرة في الوقت الحالي لأنه بسبب انضمام البعض للقذافي، يجري معاقبة أهل تاورغاء بشكل جماعي الآن».

* رواية أخرى
* لكن الكثير من أهل مصراتة يصرون على أن العنصرية ليست هي القضية الأساسية. وفي غرفة معيشة أنيقة في منزل يقع في إحدى ضواحي مصراتة، جلست سميرة وزوجها صالح على أريكة تعلوها صور لابنهم «فؤاد». كان سلاح الـ«آر بي جي» الخاص بفؤاد يستند إلى أحد أركان الغرفة. تقول سميرة «في أحد الأيام، عاد ومعه السلاح وقام بإخفائه وراء الباب، وقد وجدته عندما كنت أقوم بالتنظيف في صباح اليوم التالي. كنت سأشعر بدهشة كبيرة إذا علمت أن فؤاد يستطيع حتى استخدام مسدس صغير قبل الثورة، لكنه أصبح مشهورا بمهاراته في استخدام سلاح (آر بي جي) بعدها. كان الناس يدعونه عندما يريدون التخلص من إحدى دبابات النظام».
عندما بدأت الثورة، ترك فؤاد عمله في مدينة سرت ليعود إلى مسقط رأسه في مصراتة للانضمام للواء الشهداء. وخلال حصار المدينة عندما كانت قوات القذافي تقصف المدنيين المحاصرين وتعمل على تجويعهم، انخرط فؤاد للقتال إلى جانب أصدقائه في الخطوط الأمامية. وعندما اشتد القتال، أصبحت زياراته للمنزل أقصر، وزاد قلق أبويه عليه. وخلال الأيام التي اشتد فيها وطيس القتال، كان صالح يذهب إلى المستشفى لمراجعة قوائم الضحايا الذين سقطوا خلال المعارك.
ويظهر فؤاد مع رفاقه الثوار في إحدى الصور المعلقة فوق الأريكة. يبدو فؤاد وهو يعتمر قبعة صحراوية وقد تدلّت على وجهه، لكنها لم تخف الابتسامة العريضة التي ارتسمت على ملامحه، كما لم تخف حقيقة أنه - مثل كل أهل تاورغاء - يمتلك بشرة داكنة. يقول والده صالح «أهالي بلدة تاورغاء لا يملكون من أمر بشرتهم الداكنة شيئا. هناك الكثير من الناس ذوو بشرة داكنة في مصراتة. ويبدو من الصعب تقبل أولئك الذين يتحملون مسؤولية ما حدث هنا. وحاليا، لا نستطيع العيش في نفس المنطقة تحت اسم أبناء منطقة تاورغاء. إذا عاد أهل تاورغاء إلى بلدتهم، فسوف ينتهي الأمر بقتال شديد بين تاورغاء ومصراتة».
كانت هناك صورة أخرى لفؤاد معروضة في مصراتة. فقد ظهرت الإصابة التي تلقاها في الرأس بجانب مئات آخرين في صور علقت على جدران متحف الثورة في المدينة، وهو مبنى يقع في شارع طرابلس يمتلئ بالأسلحة المستخدمة من قبل المتمردين خلال الثورة، بالإضافة إلى مجموعة من التذكارات من باب العزيزية (مقر إقامة القذافي) بما في ذلك القبضة الشهيرة التي تمسك بطائرة أميركية، وكذلك نصب تذكارية للرجال والنساء الذين فقدوا حياتهم أثناء الصراع.
في الثاني عشر من يونيو (حزيران)، تلقى صالح وسميرة الخبر الذي كانوا يخافون دوما من سماعه: قتل فؤاد في إحدى المعارك وذلك قبل شهرين فقط من نهاية حصار مصراتة. كانت صورته هناك، جنبا إلى جنب مع كل الآخرين.
وكان هناك ركن من أركان المتحف خصص لعدد من أبناء تاورغاء. ولكن هذا لم يكن مكانا لنصب تذكاري - كان لائحة اتهام. كانت الصور هنا صورا للمطلوبين للعدالة، معلقة بجانب قوائم مكتوبة بخط اليد لأسماء أشخاص من تاورغاء، والذين يزعم المصراتيون أنهم ارتكبوا أعمال الاغتصاب المنظم ضد المدنيين. ويقول المصراتيون أيضا إن استخدام الطوارق للاغتصاب كسلاح في الحرب يميزهم عن سكان أي من المدن الأخرى دعمت واستضافت قوات القذافي خلال الثورة، وإن هذه الاتهامات عمّقت من سوء العلاقات بين المجتمعين هنا إلى درجة أن أي مصالحة تبدو، في هذه المرحلة، مستحيلة.

* اعتداءات
* إلى الغرب من تاورغاء، على طريق العودة إلى مصراتة، هناك بلدة أخرى عانت من نفس المصير خلال الثورة. فقد استضاف أبناء مدينة العالم أيضا قوات القذافي أثناء الحصار، وأحرقت البلدة أيضا مع تقدم الثوار. ولكن الأهالي عادوا إلى العالم، وجرى توطينهم مرة أخرى في نفس المنطقة التي كانوا يعيشون فيها في السابق، في صفوف مرتبة من المنازل الجاهزة الجديدة المتطابقة إلى حد كبير مع المساكن الواقعة في تاورغاء المقفرة.
ويوضح أيمن، وهو شاب مصراتي قاتل مع كتائب الشهداء، لماذا جرى التعامل مع اثنين من هذه البلدات المجاورة بشكل مختلف. وقال «هناك أناس اتهموا بارتكاب جرائم اغتصاب في العالم»، لكن هؤلاء الناس جرى تسليمهم وهم في السجن الآن. هناك الكثير من الناس من أبناء مدينة العالم الذين يعملون في مصراتة، ولم تكن هناك أي مشاكل على الإطلاق - والتي هي أيضا سكانها سمر. المشكلة مع أبناء منطقة تاورغاء، الذين رفضوا تسليم أي شخص.
أسفل هذه القشرة الخارجية من السيارات السريعة وموسيقى الهيب هوب والمقاهي، لا تزال ليبيا دولة محافظة إلى حد بعيد. فجريمة الاغتصاب قضية يفضل في كثير من الأحيان السكوت بدلا من الحديث عنها، فالنساء اللاتي جرى الاعتداء عليهن قد يعاملن في كثير من الأحيان كمنبوذات لا ضحايا. فأي امرأة تعرضت للاغتصاب قد تجد صعوبة، إن لم يكن استحالة، في العثور على رجل مستعد أن يتزوجها، فهذه بمثابة وصمة اجتماعية تعني أن ضحايا الاغتصاب يؤثرن في كثير من الأحيان الصمت بدلا من تقديم مهاجميهم إلى العدالة. وقد سعى المحققون بشدة للعثور على نساء في مصراتة يشهدن بأنهن تعرضن للاغتصاب على أيدي رجال من أهالي البلدة أثناء النزاع، لكن هذه الاتهامات لن تكتمل، حتى وإن جرى تسليم الجناة المزعومين للمحاكمة، حيث يصر المصراتيون على أن شعب تاورغاء لن يسمح لهم بالعودة إلى مدينتهم.
وفي الوقت ذاته، يصر أبناء تاورغاء على أنهم لن يرحلوا إلى أي مكان آخر، وأنهم إذا أعيد توطينهم مرة أخرى، فسوف يكون في مكان واحد فقط هو تاورغاء. يقول مبروك ميدويسي: «تقول الحكومة: لا تعودوا مرة أخرى، إذا عدت فسوف تهاجمك قوات مصراتة. الكل هنا يقول إنه سيكون علينا الانتقال إلى مكان آخر. ولكن كل ما أريد القيام به هو العودة. كيف يمكن أن أومن بهذه الثورة إذا بقيت خارج بيتي؟!».
تحولت قضية تاورغاء إلى إحدى أكثر القضايا الشائكة التي تواجه وزير العدل الليبي صلاح الميرغني. على الرغم من أن الصراع في ليبيا كان قصيرا نسبيا، فإن الانقسامات بين أبناء ليبيا ينبغي أن تلتئم حتى تتمكن البلاد من المضي قدما وتصبح ديمقراطية موحدة وفاعلة. وقال الميرغني: «ضحايا الاغتصاب هم مصدر الكراهية في هذا المجتمع. فالأمور تمضي على ما يرام إلى أن يجري التطرق إلى هذه القضية، وحينها تشعر أنك قد اصطدمت بحائط».
يعترف الميرغني بأن حكومة المؤتمر الوطني العام الانتقالية كانت بطيئة في معالجة هذه المسألة، على الرغم من أنه من المعروف أن الاغتصاب كان سلاحا أجاز النظام استخدامه خلال الثورة. وحدد القرار الصادر عن وزارة العدل الأسبوع الماضي الخطوط العريضة لعدد من الخيارات في مساعدة الضحايا في هذا المجتمع الإسلامي المحافظ للاعتراف بهن والخروج من محنتهن. أحد الاقتراحات هو تقديم المال لآباء الضحايا للحج، وبالتالي تحسين وضعهم الاجتماعي وزيادة فرص بناتهم الضحايا في العثور على أزواج. وقال الميرغني: «ينبغي علينا معالجة هاتين القضيتين في آن واحد وألا نتحدث عن أبناء تاورغاء فقط لأن مصراتة عانت أيضا الكثير خلال الثورة. ليس لدينا خبرة في التعامل مع حالات الاغتصاب الجماعي، حتى خلال الحقبة الاستعمارية، ويمكنك أن ترى مدى صعوبة التعامل معها. ولكن الضحايا يتعرضن للإهمال وهو ما يغذي الرغبة في الانتقام».
وربما يبدو أن ميليشيات مصراتة تقدمت في نهاية الأمر لملء الفراغ الذي تركه نظام العدالة المتعثر في ليبيا. وقد جرى القبض على مئات الرجال من أهالي تاورغاء وزج بهم في سجون يديرها المتمردون من دون خضوعهم لأي محاكمات أو حتى السماح لهم بتوكيل محامين للدفاع عنهم.
يزعم «محمد»، وهو رجل في منتصف العمر، أنه ليس لديه فكرة عن سبب احتجازه في أحد مراكز الاعتقال في مصراتة، كما لا يعرف متى سيجري إطلاق سراحه. وكان محمد قد نجا من الفوضى التي اجتاحت تاورغاء وكان يعمل في أحد البنوك في طرابلس عندما ألقى القبض عليه اثنان من الجنود من مصراتة في سبتمبر (أيلول) 2011. يقول محمد: «جاءوا إلى مكتبي وسألوني عما إذا كنت من أهالي تاورغاء، فأجبت بنعم، فقالوا لي إنه عليّ الذهاب معهم للإجابة عن بعض الأسئلة، وبعد ذلك سيطلقون سراحي. لكنني ما زلت أقبع هنا». ويشير محمد إلى أنه لم يشارك في القتال، مضيفا: «أنا لا أعرف ما هي التهمة الموجهة لي بالضبط. الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني من أهل تاورغاء».
وبالعودة مرة أخرى إلى المخيم، الذي يقيم فيه نازحو تاورغاء، يؤكد مبروك على وجهة نظره أن «المشكلة هي أن أهل مصراتة لديهم العديد من أشرطة الفيديو التي تظهر أن جميع من جاء إلى مصراتة من جيش القذافي يمتلك بشرة داكنة. لذلك عندما تقول نساء مصراتة إن رجالا ذوي بشرة داكنة اعتدوا عليهن، فإن الجميع يقول ببساطة إن هؤلاء المعتدين من أهالي تاورغاء». غير أنه بدأت تظهر في الأفق علامات - وإن كانت قليلة - على قرب التوصل إلى مصالحة. يقول الميرغني إن هناك قضايا يجري الإعداد لتحريكها ضد 38 شخصية رفيعة المستوى من نظام القذافي متهمين بالتحريض وتنظيم عمليات اعتداء جماعية ضد المدنيين خلال الثورة. غير أنه سيكون من الصعب رفع دعاوى ضد الأفراد الذين نفذوا عمليات الاعتداء تلك، ولكن حتى يحدث ذلك ستبقى تاورغاء بقعة سوداء في ليبيا الجديدة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.